«الفصل الأول»

قيمة العلم ومطلوبيته ذاتا وعرضا وكيفية وجوب التعلّم والتفقّه في الدين

قيمة العلم ومطلوبيته ذاتا وعرضا:

إنّ العلم، كما ورد التصريح بذلك في الآيات والروايات الشريفة، مطلوب بالذات وبالعرض، فمن جهة كونه يوجب كمال النفس، وكمال النفس مطلوب بالذات كما قام عليه البرهان والوجدان فطلب العلم مطلوب بالذات، ومن جهة أخرى فإنّ للعلم قيمة بالعرض أيضا فيما يمثّله من واسطة لكشف المجهولات، وبديهي أنّ الشيء الذي له قيمة نفسية وغيرية فإنّ مطلوبيته تتضاعف بدرجة كبيرة.

إنّ القرآن الكريم في أول سورة نزلت على نبي الإسلام صلى‏الله‏عليه‏و‏آله (سورة العلق) يقرر في بحث معرفة التوحيد والمعاد أنّ اللّه‏ تعالى علَّم الإنسان بالقلم، ويقول: «اقْرَأْ بِسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الاْءِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْءَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الاْءِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (1) .

ويقول في سورة الأنبياء: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (2) .

«فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ...».

وكذلك ورد في الروايات الشريفة، التي تعتبر شارحة ومفسّرة للقرآن الكريم، ما يؤكد أهمية العلم والعالم حيث ورد في الحديث الشريف: «اطلب العلم من المهد إلى اللحد» و «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (3) .

إنّ المقصود علم النافع و علم الدین و الا ربما علمٍ مضرٌ و مهلک و لغوٌ ...

علم الإجمالي بالتكليف:

وعلى أيّة حال فإنّ الإنسان وبحكم قانون العبودية وقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وقاعدة لزوم شكر المنعم عقلاً، ينبغي عليه تعلم الأحكام الإلهيّة سواءً في دائرة الشبهات الحكمية أو في غير الشبهات الحكمية، لأنّ الإنسان المفطور العاقل بعد الإيمان أنّ اللّه‏ مالك كل شيء وخالق الكون والإنسان لديه علم إجمالي بالتكليف وبوجود أحكام الزامية في الشريعة الإسلامية. ومعلوم أنّ ترك تعلم الأحكام الشرعية يستوجب تفويت الحكم الإلهي ويستلزم العقاب والضرر، وكذلك‏يفضي إلى كفران النعم الإلهيّة والمواهب الرحمانية. ودفع الضرر وشكر المنعم واطاعة المولى تعتبر من الأمور الواجبة عقلاً وفطرة، لأنّ في المقام لا يحصل الشكر باطاعة المولى سبحانه وتعالى وأيضا لا يدفع الضرر إلاّ باطاعة المولى وامتثال أحكامه.

ثم إنّ هذه المعرفة تارة تكون في مورد أصول الدين، من قبيل معرفة اللّه‏ والتوحيد ومعرفة النبوة والإمامة ومعرفة المعاد ممّا يجب على الإنسان بالوجوب النفسي وتكون المعرفة فيها مطلوبة بالذات، وهذا يعني أنّ معرفة أصول الدين ليست أمر مقدمي ولها موضوعية يقوم بها الإنسان في واقع الحياة وبذلك تخرج هذه المعرفة عن دائرة معرفة الأحكام الفرعية.

وأمّا البحث في معرفة الأحكام الفرعية التي يجب تعلّمها فطرةً وعقلاً فإنّ موضوع البحث فيها هو: أنّ وجوب تعلم هذه الأحكام الشرعية من أي سنخ من الوجوب؟ هنا ذكرت أقوال مختلفة في مقام الجواب عن هذا السؤال:

1 ـ إنّ تعلّم هذه الأحكام الإلهيّة واجب بالوجوب النفسي.

2 ـ إنّ هذا الوجوب لتعلّم الأحكام الشرعية طريقي بداعي تنجيز¨ وتعذير تلك الأحكام في صورة الاصابة وعدم إصابة الواقع.

3 ـ إنّ وجوب تعلّم الأحكام يمثّل وجوبا مقدميا وغيريا للعمل بالأحكام الإلهيّة وتطبيقها على مستوى الممارسة.

4 ـ إنّ وجوب تعلّم الأحكام هو وجوب عقلي وإرشادي، لأنّ العقل يحكم بوجوب دفع الضرر والعقاب وبالتالي يوجب تعلّم الأحكام الإلهيّة. وما ذكر في سياق الآيات والروايات الشريفة من وجوب تعلّم الأحكام هو بيان إرشادي لما حكم به العقل في مرتبة سابقة.

وبالرغم من أنّ اقتضاء ظاهر الأدلة في وجوب التعلم وما يستنبط من الآيات والروايات من قبيل آية النفر وآية السؤال من أهل الذكر، هو أنّ هذه النصوص تدلّ على الوجوب النفسي للتفقه وتعلّم الأحكام، وكذلك ما ورد في الروايات من قبيل: طلب العلم فريضة على كل مسلم، واطلب العلم من المهد إلى اللحد، يقتضي الوجوب النفسي للتعلّم كما ذهب إلى ذلك‏المقدّس الإردبيلي رحمه‏ الله أيضا (4) .

ولكن في مقام الإثبات مع وجود بعض الموانع لا يمكن استظهار الوجوب النفسي لتعلّم الأحكام من هذه الآيات والروايات الشريفة كما سيتضح إن شاء اللّه‏.

1 ـ الوجوب النفسي لتعلّم الأحكام:

لقائل أن يقول: إنّ مقتضى الآيات والروايات الواردة في هذه المسألة هو الوجوب النفسي لتعلّم الأحكام الإلهيّة.

والجواب: بالرغم من أنّ مقتضى الآيات والروايات هو الدلالة على الوجوب النفسي للتعلّم، ولكن هذا الوجوب النفسي في مقام الإثبات يواجه موانع متعددة، ومع وجود هذه الموانع لا يمكن القول بالوجوب النفسي للتعلّم، ومن ذلك:

1 ـ على القول بالوجوب النفسي للتعلّم فإذا ترك المكلّف تعلّم الأحكام الشرعية فحينئذٌ يجب القول بتعدد العقاب وذلك بوجود عقاب لمجرّد ترك العمل نفس الأحكام الإلهيّة، ولا ريب في وجود مثل هذا العقاب على ترك الحكم الإلهي، والعقاب الآخر يترتب على ترك‏الواجب النفسي أي ترك التعلّم، لأنّ وجوب التعلّم حسب الفرض وجوب نفسي، وترك الوجوب النفسي يترتب عليه العقاب، إذن فلازم القول بالوجوب النفسي للتعلّم هو تعدد العقاب، وبالرغم من أنّ تعدد العقاب غير محال عقلاً ولكنّه خلاف الإجماع الذي يقرر عدم تعدد العقاب على ترك حكم شرعي واحد من الوجوب أو الحرام.

2 ـ إذا قلنا بالوجوب النفسي للتعلّم فإنّه لا وجه حينئذٍ للقول بأنّ الاحتياط عدل الاجتهاد والتقليد، لأنّه إذا قلنا إنّ تعلّم الأحكام واجب نفسي من طريق الاجتهاد والتقليد فحنيئذٍ يكون الاحتياط الذي يقع عدل الاجتهاد والتقليد، واجبا نفسيا أيضا، لأنّ المكلّف في مورد العمل بالوظائف الشرعية والأحكام الدينية إمّا أن يكون مجتهدا أو مقلِّد أو محتاطا، فإذا كان تعلم الأحكام الإلهيّة من خلال الاجتهاد والتقليد واجبا بالوجوب النفسي، فيجب أن يكون الاحتياط أيضا واجبا بالوجوب النفسي، لأنّ الاحتياط قسِيم للاجتهاد والتقليد، والحال أن جوب الاحتياط غير نفسي، لأنّ مورد الاحتياط هو احتمال وجوب التكليف على الإنسان، والمكلّف هنا يحتاط في امتثال التكليف اتيان محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة بحكم وجوب دفع الضرر المحتمل، سواء في مورد الشبهة الوجوبية أم الشبهة التحريمية فإنّ المكلّف لا علم له بالحكم، وعندما لا يكون لديه علم بالحكم فلا يمكن القول بأنّ وجوب الاحتياط في مورد الشبهة وجوب نفسي.

نعم، بعد العمل بالاحتياط يحصل لدى المكلّف اليقين والعلم بامتثال التكليف وهذه مسألة أخرى غير ما نحن فيه، لا أنّه حين العمل والامتثال في مورد الشبهة يكون للمحتاط علم بالتكليف، والإنسان المحتاط في مقام العمل جاهل بتفاصيل المأمور به فهو يتحرك في مقام الامتثال من موقع حساب احتمالات التكليف وبعد الامتثال يعلم بأنّه قد جاء بالحكم الواقعي، والعلم بالامتثال بعد العمل يختلف عن أصل الاحتياط أنّه واجب بالوجوب النفسي ولكن في مورد الاحتياط الذي يستوجب تكرار العمل يحتمل أن يكون قصد الوجه في العبادة معتبر في التكليف، والاحتياط هنا يوجب فوت الواجب، ومع وجود هذا الاحتمال كيف يمكن القول بأنّ وجوب الاحتياط نفسي: «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال».

3 ـ إذا قلنا بالوجوب النفسي للتعلّم فسوف نواجه التنافي مع ظاهر الروايات التي تدلّ على مؤاخذة تارك الأحكام الإلهيّة يوم القيامة، فيقال له يوم القيامة: هلاّ علمت؟ فيقول: ما عملت، فيقال له: هلاّ تعلّمت؟ (5) .

وظاهر هذه الرواية أنّ تارك الحكم الإلهي يسأل يوم القيامة عن العمل ويقال له: هلا عملت؟ وهذا الظهور يدلّ على وجوب العقوبة على ترك العمل بالأحكام الإلهيّة وترك الامتثال لا أنّ العقاب على ترك التعلّم، فإذا كان تعلّم الأحكام واجبا بالوجوب النفسي، فلابدّ أن يكون سؤال الملائكة: هلا تعلّمت؟ وحينئذٍ فمقتضى الوجوب النفسي للتعلّم يتنافى مع ظاهر الروايات التي تقول هلا عملت؟ وظاهر هذه الروايات يدلّ على أنّ العقوبة إنّما تكون على ترك العمل بالتكليف لا على ترك التعلّم.

النتيجة: حتى لو قلنا في مسألة وجوب التعلّم أنّ ظاهر الأدلة من الآيات والروايات هو الوجوب النفسي للتعلّم ولكن في مقام الإثبات فإنّ هذا القول يواجه موانع متعددة، ولذلك لا يعتمد على القول بالوجوب النفسي للتعلّم.

2 ـ الوجوب الغيري:

القول الآخر: أنّ وجوب التعلّم وجوب مقدمي وغيري من أجل العمل بالأحكام الشرعية. وهذا القول غير تام أيضا، لأنّه:

أولاً: بالنسبة لوجوب المقدّمة هناك بحث في أنّه: هل أنّ وجوب المقدّمة وجوب شرعي أم وجوب عقلي فقط؟ والكثير من الأصحاب ومن العلماء المتأخرين (كصاحب المحاضرات آية اللّه‏ الخوئي رحمه ‏الله والشيخ المظفر) ذهبوا إلى الوجوب العقلي للمقدّمة، وحينئذٍ فلا يوجد وجوب غيري مولوي للمقدّمة، وعندما لا يكون الوجوب مولوي لا يمكن القول بأنّ التعلّم واجب بالوجوب المقدمي الشرعي.

ثانيا:على فرض القول بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة، وقلنا على هذا الأساس بأنّ وجوب المقدّمة شرعي وقلنا إنّ تعلّم الأحكام من طريق الاجتهاد أو على أساس وجوب التقليد بمقتضى أدلة جواز الاجتهاد وجواز التقليد، واجب بالوجوب الغيري والمقدمي من أجل العمل بالأحكام الشرعية، فإنّه لا يمكن الالتزام بذلك، لأنّ الاجتهاد والتقليد يقعان في عرض الاحتياط عملاً وأنّ المكلّف في مورد العمل بالتكليف الإلهي إمّا أن يكون مجتهدا أو مقلِّدا أو محتاطا وأنّ العمل بالاحتياط حينئذٍ لا يكون واجبا بالوجوب المقدمي، ولم يقل أحد أنّ وجوب الاحتياط هنا وجوب مقدمي وغيري من قبيل الوجوب المولوي، لأنّ وجوب الاحتياط ليس وجوبا شرعيا بل هو وجوب إرشادي و عقلي على أساس قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، أو قاعدة حق الطاعة، وعندما لا يكون للاحتياط وجوبه غيري ومقدمي، فكيف يمكن القول بأنّ الاجتهاد والتقليد، اللذين يقعان عدلاً للاحتياط، واجبان بالوجوب المقدمي؟

ثالثا:نفرض أنّ مقدمة الواجب واجبة بالوجوب الشرعي الغيري، فإنّ هذه المقدّمة الواجبة بالوجوب الشرعي هي المقدّمة الوجودية للأحكام كالوضوء بالنسبة للصلاة، وارجاع مقدمة الصحة إلى المقدّمة الوجودية التي هي في مقام الامتثال كالصلاة بدون وضوء، لا تتحقق، والمكلّف غير قادر شرعا على امتثال التكليف والإتيان بالصلاة بدون وضوء، فعلى فرض أنّ مقدمة الواجب واجبة بالوجوب الغيري فإنّها المقدّمة الوجودية لا مطلق المقدمات، حيث إنّ تعلّم الأحكام لا يعتبر مقدمة وجودية للأحكام ولا مقدمة وجوبية للأحكام، أمّا كونه ليس مقدمة وجودية للأحكام فلأنّ الامتثال وإتيان التكليف الشرعي ممكن من طريق الاحتياط مجزٍ شرعا، فمن لا يتحرك على مستوى تحصيل العلم بالأحكام من طريق الاجتهاد ولا من طريق التقليد بل يعمل بالاحتياط وربّما لا يورثه العمل بالاحتياط العلم بواقع الأحكام الشرعية، لا العلم التفصيلي ولا العلم الإجمالي. وإن كان من جملة موارد الاحتياط هو وجود العلم الإجمالي بالتكليف.

على أيّة حال فإنّ عنوان احتمال التكليف في مورد الاحتياط يأتي به المكلّف بعنوان رجاء المطلوبية وبأمل أن يحقق التكليف في واقع العمل، وبعد الامتثال ربّما يحصل له العلم بالإتيان في مورد الاحتياط، وإلاّ فإنّه حين الاحتياط يحتمل التكليف ولا علم له بواقع التكليف، مثلاً إذا سلّم على شخص وكان ذلك الشخص جاهلاً بوجوب ردّ السلام، ولكنّه قام بجواب ردّ السلام بدون الالتفات إلى وجوب الردّ اجتهادا أو تقليدا، فحينئذٍ يسقط عنه التكليف الشرعي، لأنّه قد عمل بوظيفته الواقعية.

وكذلك بالنسبة للموارد التي يكون فيها المكلّف جاهلاً بالوجوب، إمّا جاهل قاصر أو مقصّر، ولكن مع ذلك يعمل بالتكليف الشرعي فإنّه يقع صحيحا ومجزيا، لأنّه قد ارتكب ما يخالف الاجتهاد والتقليد لا ما يخالف العمل بالوظيفة الواقعية، وهنا قد تحرك الجاهل على مستوى العمل بالوظيفة الشرعية بدون أن يكون له علم بوجوب العمل بهذا التكليف، ومن هنا فإنّ عمل التارك لتعلّم موارد الاجتهاد والتقليد والاحتياط إذا كان عمله مطابقا للواقع صحيح لأنّه لم يرتكب مخالفة للحكم الواقعي.

وهكذا في مسألة تعلّم الأحكام حيث إنّه لا يعتبر مقدمة وجوبية للأحكام، لأنّ وجوب الأحكام يعتمد على نفس أدلة الأحكام من قبيل:

«وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّه‏ِ أَكْبَرُ وَاللّه‏ُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ» (6) .

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ...» (7) .

«وَللّه‏ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً...» (8) .

حيث إنّ هذه النصوص تثبت وجوب الصلاة والصوم والحج وما إلى ذلك، وحينئذٍ لا توجد وجوب تعلّم هذه الأحكام مقدّمة دخيلة في وجوب الأحكام، (الصلاة والصوم)، وعلى هذا الأساس لا يمكن القول بأنّ وجوب التعلّم وجوب مقدمي وغيري للأحكام.

رابعا:على فرض القول بأنّ وجوب التعلّم وجوب غيري ومقدمي فإنّ ذلك يستلزم الدور، لأنّ معرفة الأحكام ووجوب التعلّم يتوقف على الأحكام نفسها لأنّه لابدّ من وجود حكم حتى يكون تعلّمه واجبا، ومن جهة أخرى فإنّ وجوب التعلّم بحسب الفرض يمثّل مقدمة وجودية ووجوبية، يعني أنّ وجوب الحكم متوقف على وجوب التعلّم (المقدّمة) وهذا دور محال.

خامسا: بالنسبة للمكلّف الجاهل بالأحكام والذي يعمل بالاحتياط فإنّه عمله هذه يقع مجزيا، وعليه كيف يمكن القول بأنّ وجوب التعلّم مقدمة وجودية ووجوبية للحكم؟

سادسا: إنّ وجوب التعلّم الغيري والمقدمي مخالف لبرهان الاشتراك في التكليف، وبرهان الاشتراك في التكليف يقرر بالإجماع أنّ الأحكام مشتركة في الواقع بين العالم والجاهل، إذن فوجوب الأحكام لا يختص بالعالم حتى يمكن القول بأنّ وجوب التعلّم يعتبر مقدمة للعمل بالأحكام الشرعية.

النتيجة: إنّ القول بالوجوب الغيري لتعلّم الأحكام لا يمكن المساعدة عليه، وامتثال الأحكام لا يتوقف على وجوب التعلّم ولا توجد مقدمية بين العلم والعمل.

3 ـ الوجوب الطريقي:

القول الثالث: أنّ وجوب التعلّم وجوب طريقي، بمعنى أنّ تعلم الأحكام واجب، لأنّه طريق لتنجز الواقع والإتيان بالتكليف الواقعي الذي يمكن التوصل إليه بواسطة معرفة الأحكام، فعندما يصيب الواقع فإنّ الحكم الواقعي الإلهي يكون منجزّا وفعليا على المكلّف ويجب إمتثاله. وإن لم يصب الواقع فإنّ هذا المكلّف يكون معذورا عند المولى لجهله بالتكليف، وعلى هذا الأساس فإنّ وجوب التعلّم بدافع تنجيز الواقع وحفظ الواقع هو وجوب طريقي، من قبيل الوجوب الطريقي للامارت الشرعية المعتبرة (كخبر الواحد وظواهر القرآن).

ولكنّ هذا القول غير تام أيضا، لأنّه:

أولاً: إنّ وجوب التعلّم من طريق تحصيل الاجتهاد أو من طريق وجوب التقليد بملاك تنجيز الواقع لا وجه له، لأنّ المنجز للواقع هو العلم الإجمالي بالتكليف أو احتمال ثبوت التكليف الواقعي أو منجّزية الواقع بالأدلة القائمة على التكاليف، فعندما يصل الإنسان إلى مرحلة البلوغ فإنّه مع الالتفات يحصل لديه علم إجمالي بوجود أحكام إلزامية على المكلّفين في الشريعة الإسلامية، لأنّ اللّه‏ تعالى قد وهب للناس العقل، وهذا العقل يدرك بأنّه مسؤول في مقابل مولاه الحقيقي الخالق لعالم الوجود وأنّ الإنسان ليس كالحيوانات والبهائم التي ليست لها المسؤولية والتكليف، إذن فنحن نعلم بالإجمال بوجود أحكام إلزامية في الشريعة المقدّسة حيث تقرر وجود أحكام في الوجوب والحرمة في ذمّة المكلّفين، وهذا العلم الإجمالي بالتكليف هو المنجز للتكليف الواقعي، ولا معنى حينئذٍ لوجوب تعلّم الأحكام مرّة ثانية من أجل تنجيز الواقع، وبعبارة أخرى: المنجّز لا ينجّز ثانيا، إذن فالمنجّز للواقع هو العلم الإجمالي بالتكليف أو احتمال ثبوت التكليف الواقعي أو ما قامت عليه الامارات على إثبات التكاليف، أو ثبوت حق الطاعة للمولى لا وجوب تعلّم الأحكام.

ثانيا: يمكننا تحصل الواقع من خلال العمل بالاحتياط ولا حاجة حينئذٍ للقول بوجوب التعلّم من طريق الاجتهاد أو التقليد.

ثالثا: إنّ وجوب تعلم الأحكام من خلال الاجتهاد والتقليد يعدّ عدلاً وقسيما للاحتياط، ووجوب الاحتياط ليس وجوبا طريقيا، وإلاّ فالمكلّف الذي يعمل بوظيفته الواقعية لا من طريق التقليد والاجتهاد ولا من طريق الاحتياط، فإنّ عمله على هذا الأساس يوف لا يكون مجزيا، والحال إذا عمل المكلّف بوظيفته الواقعية وامتثل تكليف المولى فحتى لو كان جاهلاً بالواقع فإنّ امتثاله لهذا التكليف سيكون مجزيا قطعا، مثلاً إذا سلّم شخص على آخر، وكان هذا الشخص جاهلاً بوجود ردّ السلام، ولكنّه بالرغم من عدم علمه بوجوب ردّ السلام، قام بردّ السلام على الأول، فعمله هذا لم يكن ناشئا من اجتهاد ولا من تقليد ولا بداعي الاحتياط، وكان جاهلاً بالحكم الواقعي في وجوب ردّ السلام، ولكنّ ردّه للسلام وقع مطابقا للواقع فحينئذٍ سيكون عمله هذا مجزيا للتكليف الواقعي.

إذن فامتثال الأحكام الإلهيّة غير منوط بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، ومن هنا كان عمل التارك للإجتهاد والتقليد والتارك للاحتياط صحيحا ومجزيا إذا وقع مطابقا للواقع، لأنّه لم يفوت الحكم الواقعي عليه وإن ترك الاجتهاد والتقليد، فلو قلنا أنّ وجوب التعلم ومعرفة الأحكام هو وجوب طريقي فينبغي أن لا يكون عمل التارك للاجتهاد التقليد والتارك للاحتياط مجزئا، لأنّه لم يمتثل الحكم الشرعي الواقعي من هذا الطريق، والحال أنّ عمله إذا كان مطابقا للواقع فيكون مجزئا كما قلنا. وعليه لا يكون وجوب الاحتياط طريقيا لأنّ ملاك الوجوب الطريقي للاحتياط هو تنجيز الواقع والعمل بالواقع، والواقع منجزٌ بوجود العلم الإجمالي وباحتمال التكليف لا أنّ الاحتياط منجز للواقع وأنّ العمل بالاحتياط بداعي احتمال الأمر الواقعي بعد الامتثال موجب للعلم بسقوط التكليف ولا أنّ الاحتياط موجب لتنجيز التكليف.

وكذلك فإنّ وجوب الاحتياط بملاك العذر للواقع غير تام، لوجود القطع بإتيان الواقع في مورد الاحتياط، لأنّ معنى الاحتياط هو أن يعمل المكلّف بشكل يقطع معه بإتيان التكليف الواقعي ولا يحتمل مخالفة الواقع. فعندما لا يكون وجوب الاحتياط طريقيا، فكذلك وجوب عدليه وهما: الاجتهاد والتقليد سوف لا يكون طريقيا أيضا، وإلاّ لا يعقل أن يكون أحدهما عدلاً للآخر.

النتيجة: أنّ وجوب تعلّم ومعرفة الأحكام ليس وجوبا نفسيا، ولا وجوب مقدّمي وغيري، ولا وجوب طريقي شرعي. وهنا نصل إلى القسم الرابع وهو أن يكون وجوب التعلّم إرشاديا، وهو ما نقول به في هذه المسألة.

الوجوب الشرعي الإرشادي:

القول الآخر في مورد وجوب تعلّم الأحكام، أنّ وجوب تعلّم الأحكام الإلهيّة إرشادي وعقلي، لأنّ كل مكلّف يعلم إجمالاً بوجود أحكام إلزامية وجوبية وتحريمية في الشريعة الإسلاميّة النازلة من قِبل اللّه‏ تعالى، واشتغال الذمّة اليقيني يستدعي براءة الذمّة اليقينية، وحينئذٍ يجب معرفة الأحكام الإلهيّة اجتهادا أو تقليدا أو احتياطا وإمتثالها، فإذا لم يتعلم الأحكام الشرعية فسيؤدي ذلك تفويت الأحكام الإلهيّة، وتفويت الأحكام يستلزم العقاب والضرر، وحينئذٍ يجب العمل بقانون وجوب دفع الضرر اليقيني بل وجوب دفع الضرر المحتمل عقلاً، ومن هنا يكون تعلّم الأحكام الإلهيّة واجبا والعمل على امتثالها وتحصيل فراغ الذمّة منها.

إنّ الوجوب الإرشادي حتى لو كان بصورة إنشاء المولوي فهو في الحقيقة إخبار وإعلام، فعندما تصرح آية النفر المباركة: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ...» (9) .بشكل إنشاء وبيان حكم مولوي يدلّ على وجوب النفر والهجرة من أجل التفقه وتعلّم الأحكام الشرعية ولكنّها في الحقيقة عبارة عن بيان وإعلان عن هذا الحكم العقلي، الذي يقتضي وجوب التعلّم بحكم العقل بمناط دفع الضرر المحتمل ولزوم شكر المنعم وكذلك بمناط أنّ اشتغال الذمّة بالتكليف الإلهي اليقيني يستدعي فراغ الذمّة اليقيني، وببيان آخر أنّ الإنسان بما هو يكون متشرعا يعلم إجمالاً بتوجه تكاليف فعلية شرعية إليه، فيجب عليه بمقتضى حكم العقل اطاعة المولى التي لا يتحقق إلاّ بامتثال تلك التكاليف الثابتة له، أنّ يسعى لتحصيل المعرفة بها، فيجب عليه تعلّمها لفحص عن أدلتها من الكتاب والسنّة والإجماع إذا تمكن من الفحص وإلاّ يجب عليه تقليد من يطمئن إليه من المجتهدين أو العمل بالاحتياط، إذن فوجوب تعلّم الأحكام من طريق التقليد أو الاجتهاد أو الاحتياط هو وجوب تخييري عقلي حيث يتحرك المكلّف في مورد فهم الأحكام الإلهيّة الواجبة عليه في مورد غير العقليات والضروريات من الدين كوجوب الصوم والصلاة والحج من خلال الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، ويعمل بوظيفته الواقعية والفعلية لتحصيل الأمن من العقاب ويؤدي تكليفه الشرعية العقلية.

وخلاصة الكلام في مسألة وجوب تعلّم الأحكام ما يلي:

1 ـ إنّ وجوب تعلّم الأحكام ليس وجوبا نفسيا أو غيريا أو طريقيا، ولا يمكن القول إنّ وجوب الاجتهاد في الأحكام الشرعية للمجتهد، أو وجوب تقليد المجتهد هو وجوب نفسي أو وجوب غيري، وإلاّ كان عمل تارك الاجتهاد والتقليد باطل، وليس كذلك كما تمّ توضيحه آنفا، مضافا إلى عدم وجود دليل على الوجوب النفسي للاجتهاد والتقليد، والأدلة على الوجوب النفسي للأحكام تواجه موانع عديدة و...

2 ـ إنّ الأحكام الواقعية إنّما تكون منجزة على المكلّف بملاك العلم الإجمالي أو باحتمال ثبوت التكليف الواقعي أو بملاك أدلة وجوب الأحكام، أو بكل هذه الملاكات الثلاثة ووجوب حق الطاعة.

إن قلت:لا يوجد لدى المكلّف علم إجمالي بالتكليف في بداية الأمر، وربّما يكون أو يحصل للمكلّف علم تفصيلي بوجوب أكثر الأحكام وحينئذٍ سينحل العلم الإجمالي، ويتمّ في موارد الشك بالتكليف اجراء البراءة أو الاستصحاب بعدم التكليف.

الجواب: أولاً: إنّ أدلة البراءة العقلية والنقلية قاصرة عن استيعاب أطراف العلم الإجمالي، لأنّ ذلك يستلزم التناقض.

ثانيا: وعلى فرض انحلال العلم الإجمالي في الشبهة الحكميّة، فالبراءة لا تجري قبل الفحص، لأنّ احتمال وجود التكليف الواقعي منجزٌ وعليه يجب إمتثال الأمر بالتكليف الشرعي ولو الاحتمالي على أساس قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وبقاعدة شكر المنعم وبحكم أنّ اطاعة المولى واجبة فطرة وعقلاً، أو بلحاظ العلم الوجداني بتكاليف المولى من قبيل الموارد الضروريات واليقينيات أو بالاجتهاد أو بالتقليد أو بالاحتياط، فكل واحدة منها تمثّل حجّة تخييرية عقلية ممضاة من قِبل الشارع وفي ذلك يتمّ امثتال التكاليف الشرعية، وفي صورة ترك جميع الابدال وترك جميع طرق الإمثتال فإنّ ذلك يؤدي إلى المخالفة الشرعية ويستوجب العقاب... وبعبارة أخرى، أنّه ثبت نقلاً وعقلاً وجوب إمتثال حكم اللّه‏ تعالى لوجود أدلة التكليف أو بمناط العلم الإجمالي أو لاحتمال ثبوت الحكم الواقعي بالطرق المعتبرة والممضاة شرعا، وذلك الامتثال إمّا أن يكون من خلال العلم الوجداني بالتكليف، أو من خلال الاحتياط لو لم يكن هناك حرج، أو عن طريق الاجتهاد في الأحكام بمقتضى أدلة جواز الاجتهاد، أو عن طريق التقليد للمكلّف من العوام بحكم أدلة جواز التقليد.

3 ـ عندما لا تكون أدلة وجوب تعلّم الأحكام قابلة للحمل على الوجوب النفسي والوجوب الغيري فإنّ ذلك يعني ثبوت الوجوب الإرشادي بحكم العقل، فالعقل يوجب تعلّم الأحكام وإمثتالها بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل والعقاب المحتمل وبقاعدة لزوم شكر المنعم، فحينئذٍ يكون وجوب تعلّم الأحكام إرشاديا بمعنى أنّ المكلّف إذا ارتكب المخالفة بسبب الجهل بالواقع قبل التعلّم فإنّ جهله هذا لا يكون معذرا لأنّ وجوب اطاعة المولى أمر فطري وعقلي مطلقا ولو في مورد التكليف المحتمل.

4 ـ إنّ الاجتهاد والتقليد والاحتياط في مورد العلم الوجداني بالأحكام كالضروريات واليقينيات «من قبيل وجوب الصلاة والصوم و...» غير معقول، لأنّ اعتبار حجّية الاجتهاد والتقليد حالها حال سائر الإمارات الشرعية هي من قبيل الأحكام الظاهرية، وفي مورد العلم بالواقع لا وجه لاعتبار الحكم الظاهري، فهكذا العمل بالاحتياط بنيّة الرجاء غير معقول مع وجود العلم الوجداني والتفصيلي بالحكم الشرعي.

5 ـ إنّ كل إنسان بمقتضى أدلة إثبات التكليف يملك علما إجماليا بالتكليف الإلهي، وهذا العلم الإجمالي بالتكليف يستدعي فراغ الذمّة من التكليف الإلهي، وفراغ الذمّة يحتاج لتعلّم الأحكام ومعرفتها لأنّ الإنسان بدون معرفة عاجز عن إتيان الأحكام الإلهيّة، مضافا إلى أنّ المكلّف لو لم يتعلم الأحكام الشرعية فإنّ ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تفويت الأحكام الإلهيّة، وهذا الجهل بالأحكام لا يكون معذرا بل سيكون مستحقا للعقاب، ولذلك يجب عليه تعلّم الأحكام الإلهيّة وإمثتالها بحكم العقل ودفع الضرر والعقاب.

6 ـ تبيّن ممّا تقدّم أنّ الجامع لوجوب التعلّم بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط هو الوجوب التخييري العقلي لا الوجوب النفسي ولا الوجوب الطريقي ولا الوجوب الغيري، فالإنسان مكلّف عقلاً بالبحث في الشبهات الحكمية من خلال الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط وتعيين وظيفته الفعلية، إلاّ أن نقول بأنّ العلم الإجمالي ينحل بواسطة العلم الوجداني والمتواترات القطعية والإمارات المعتبرة بالأحكام، ففي هذه الصورة يمكن القول إنّ وجوب تعلّم الأحكام طريقي و... وهذه المقولة غير مقبولة لدينا كما قلنا.

مصدر التشريع في الإسلام:

«شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللّه‏ُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» (10) .

إنّ التشريع عبارة عن مجموعة قوانين وقواعد كلية تتضمن أحكاما جزئية الغرض منها تنطيم الروابط الفردية والاجتماعية وعلاقة الإنسان باللّه‏ وبالأفراد الآخرين ويتبيّن من خلالها الوظائف والحقوق لأفراد البشر في بُعد العبادات والمعاملات والأخلاقيات فيما تمثّله من مسؤولية أمام اللّه‏ تعالى وأمام عباد اللّه‏، والعمل بتلك القوانين يكفل للإنسان سعادة الدنيا والآخرة. والشريعة الإسلامية هي آخر قانون إلهي وأكمل شريعة سماوية صدرت من اللّه‏ تعالى إلى البشر بواسطة نبي الإسلام محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله وتتمتع هذه الشريعة بنظام يشمل كافة مناحي الحياة وأبعادها وتفاصيلها.

يقول اللّه‏ تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللّه‏َ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ...» (11) .

مع ذلك فالسؤال هو: ما هو مصدر مشروعية التشريع الإسلامي والأحكام الإلهيّة؟

لا شك أنّ المالكية والحاكمية المطلقة على التكوين والتشريع هي للّه‏ تعالى، كما تقول الآية المباركة: «أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْءَمْرُ...»(1) . أي الحاكمية المطلقة للّه‏ على عالم التكوين وعالم التشريع، وكذلك قوله تعالى: «إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للّه‏ِِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ»(2) . و«رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى»(3) و «اللّه‏ُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ...»(4) و«وَللّه‏ِِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَاللّه‏ُ...» (12) .

لقد كان مصدر تشريع الأحكام في صدر الإسلام هو الوحي، بمعنى أنّ النبي الأكرم صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله كان يتلقى الأحكام من قِبل اللّه‏ تعالى بواسطة الوحي كما تقرر هذه الحقيقة الآيات الشريفة: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» (13) و«وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى» (14) . أي يبيّنها للناس.

إذن ففي صدر الإسلام كان مصدر القوانين والأحكام الإلهيّة هو الوحي الذي كان ينزل على النبي¨الكريم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله بهذه الأحكام وكان النبي لأكرم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله يبيّن ذلك للناس سواء بالنسبة لأصول الدين حيث يقول: «قولوا لا إله إلاّ اللّه‏ تفلحوا». أم بالنسبة لأمور العبادات أم المعاملات أم الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية التي تمس حياة المسلمين في جميع الجوانب، ومن هنا فإنّ تاريخ الفقه الإسلامي يتزامن مع نزول الوحي، لأنّ نبي الإسلام كان مكلّفا بالتكاليف الإلهيّة والعمل بها، وآية النفر تبيّن هذه الحقيقة أيضا: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (15) ، فهذه الآية الشريفة تبيّن وجوب التفقّه في الدين ووجوب النفر والرجوع إلى رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من بلاد المتفرقة منذ نزول الوحي.

تفويض بيان الأحكام للنبي صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله وللإمام عليه‏ السلام :

ورد في اصول الكافي باب بعنوان «فرض النبي وفرض الأئمّة» وأنّ اللّه‏ تعالى فوّض بيان أحكامه إلى رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله والأئمّة عليهم ‏السلام حيث يجب على النبي الأكرم صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله بيان الأحكام الإلهيّة للناس وبعده الائمّة المعصومين عليهم ‏السلام .

وقد أمضى القرآن الكريم بشكل عام كلام النبي صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله وبيانه في قوله تعالى: «وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى» (16) أي أنّ كل كلام يتكلّم به النبي صلى ‏الله ‏عليه‏ و‏آله ليس سوى وحيا إلهيا، ويقول في آية آخرى: «وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...» (17) .

فالقرآن الكريم يبيّن هذه الحقيقة بعنوان كلي وقانون عام أنّ كل ما جاء به النبي الأكرم صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله من أحكام وتشريعات فيجب عليكم أخذه والعمل به، وما نهاكم عنه فانتهوا وعليكم اجتنابه، وهكذا نرى أنّ نبي الإسلام صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله قد انطلق في حياته لبيان جميع ما نزل عليه منذ بداية البعثة إلى النهاية وإلى كمال الدين الإسلامي سواء في مورد أصول الدين أم في مورد فروع الدين، أم فيما يتصل بالأخلاق والأحكام والقوانين الشرعية الأخرى.

وقد أورد الشيخ الأنصاري رحمه ‏الله في أول بحث الرسائل (ص 7 ـ 8) في باب القطع رواية عن رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله أنّه قال: «معاشر الناس ما من شيء يقربّكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به، وما من شيء يباعدكم عن الجنّة ويقرّبكم إلى الناس إلاّ وقد نهيتكم عنه» (18) .

ويذكر الشيخ الصدوق رحمة‏ الله خطبة النبي الأكرم صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله في حجة الوداع في عرفات في آخر كتاب ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، وأنّ النبي خطب هذه الخطبة وقال في ضمنها بعد أن رفع يده اليمنى: أيّها الناس أتعلمون ما في يدي يميني ؟ فقالوا: لا يارسول اللّه‏. ثم رفع يده اليسرى فقال: هل تعلمون ما في يد شمالي؟ قالوا: لا يارسول اللّه‏، اللّه‏ ورسوله أعلم. فقال النبي صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله بعد ذلك: أنّ أسامي السعداء منذ بداية خلق الأولين والآخرين وآباءَكم إلى يوم القيامة بيد اليمنى وأنّ أسامي الأشقياء وأبائهم من البداية إلى النهاية في يدي اليسرى.

الغرض أنّ هذه الحقائق قد بيّنها الرسول الأكرم صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله بجميع معانيها سواء في دائرة الهداية التكوينية للبشر، أم في ما يتصل بالحقائق في دائرة الهداية التشريعية للبشرية، وقد فوض اللّه‏ تعالى لنبي الإسلام صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله وكذلك للأئمّة الأطهار عليهم ‏السلام ، بيان ذلك: فمن هنا فالحكم الذي يبيّنه رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه‏ و‏آله وإن لم يكن بشكل ألفاظ وكلمات القرآن الكريم فهذا الحكم يكون حكما إلهيا على أساس ما جاء به النبي على لسان الروايات الشريفة، وكذلك كل حكم شرعي يبيّنه الإمام المعصوم عليه‏السلام على أساس أنّه فرض الأئمّة أو فرض الإمام عليه‏السلام وقد جاء في بعض الروايات التعبير بـ «سنّة النبي» أو «سنّة الإمام عليه ‏السلام »، مثلاً في مورد بيان معنى الصلاة وأنّ الصلوات ذات الأربع ركعات كانت قد فرضت من اللّه‏ ركعتين وقد وردت في القرآن الكريم بعنوان أنّها صلاة القصر، وأنّ الركعتين الأخيرتين هما فرض النبي، وقد ورد في روايات المعراج أنّ النبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله تلقى ليلة المعراج الصلاة من الوحي، وقد ورد التعبير في الروايات عن هاتين الركعتين بأنّهما «سنّة النبي» وقد توهّم البعض أنّ السنّة هنا بمعنى المستحب، فتساءلوا هل أنّ الركعتين الأخيرتين في الصلاة الرباعية مستحبة أم واجبة؟

وعلى أية حال فالمقصود من سنّة النبي هو فرض النبي وما جاء به النبي صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله .

وكيف كان فمصدر التشريع والتقنين في الإسلام هو الوحي وبيان رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله وقد أمضى القرآن الكريم بشكل كلي بيان النبي صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله وكلامه عندما قال: «وَما يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى» (19) و«وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...» (20) .

والروايات الشريفة تبيّن هذه الحقيقة أيضا وهي أنّ اللّه‏ تعالى فوّض بيان الأحكام الشريعية لنبي الإسلام صلى‏الله‏عليه‏و‏آله والأئمّة المعصومين عليهم ‏السلام فهم خزانة العلم الإلهي ومخزن جميع العلوم الإسلامية، ومن هذه الروايات:

عن زرارة بن أعين، عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهماالسلام : «إنّ اللّه‏ تبارك وتعالى فوّض إلى نبيّه صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ثم تلا هذه الآية «وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...»، و«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه‏َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ...» (21) (22) .

وهكذا نفهم من مضمون هذه الرواية الشريفة أنّ اللّه‏ تعالى فوّض مصير الخلق وأمور البشر للنبي الأكرم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله لمعرفة من يطيع نبي الإسلام وخلفائه المعصومين عليهم ‏السلام وكيفية هذه الإطاعة.

ثم إنّ هذين الإمامين عليهماالسلام بعد بيان ما تقدّم من الرواية من أجل تأكيد هذه الحقيقة وهي كيف أنّ اللّه‏ تعالى فوّض إلى النبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله أمر خلقه ذكرا هذه الآية الشريفة: «وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...»، فهذه الآية الشريفة تعتبر قانونا كليا في إمضاء وتأييد ما قاله النبي وأنّه يجب على المسلمين الأخذ بما جاء به النبي الأكرم صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله واجتناب ما نهى عنه. والآية الأخرى تقول: «مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه‏َ...» (23) .

والخلاصة أنّ مصدر التشريع والتقنين في الإسلام هو الوحي الإلهي في صدر الإسلام وأنّ رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله كان يستلم قوانين وأحكام الشريعة من اللّه‏ تعالى بواسطة الوحي ويبيّنها للناس على شكل أوامر ونواهي في نصوص الكتاب والسنّة. إذن على أساس صريح الآيات والروايات الشريفة أنّ اللّه‏ تعالى فوّض إلى نبي الإسلام صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله بيان الأحكام الإلهيّة، وقد بيّن النبي الأكرم صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله الأحكام الإلهيّة في جميع المراحل والوقائع.

ثلاثة وعشرون عاما في مكة المكرمة والمدينة المنورة:

«لَقَدْ مَنَّ اللّه‏ُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ» (24) .

كان رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله في عصر الرسالة والبعثة قد عاش 13 سنة في مكة و 10 سنوات في المدينة في عملية إيصال الأحكام الإلهيّة وتبليغ الشريعة السماوية، وقد تحمّل في سبيل ذلك الكثير من الصعوبات والأذى ولكنّه أدى وظيفته الإلهيّة بكامل الاستقامة والمثابرة والصبر، حتى حانت اللحظة المناسبة وخطب النبي صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله في حجة الوداع تلك الخطبة المفصلة والتي بيّن فيها الأحكام وما يتصل بخلق الدنيا والآخرة وما يدخل في إطار تحقيق سعادة الناس في دنياهم وآخرتهم أو ما يتصل ببيان ما يؤدي إلى شقائهم وانحرافهم فقال النبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله في عرفات ومنى: «معاشر الناس ما من شيء يقربّكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به وما من شيء يباعدكم عن الجنّة ويقرّبكم إلى الناس إلاّ وقد نهيتكم عنه» (25) .إلى أن طرح النبي الأكرم صلى‏ الله ‏عليه ‏و‏آله في أواخر عمره الشريف وبعد بيان الأحكام وبيان مسألة الولاية والإمامة، مرجعية الإسلام ومرجعية الثقلين بعده حيث نزلت آية إكمال الدين في يوم غدير خم: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاْءِسْلاَمَ دِينا...» (26) .

إتمام الحجّة الإلهيّة:

عندما نزلت الآية الشريفة: «قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى...» (27) . طرح رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه‏ و‏آله وبأمر من اللّه‏ تعالى، مسألة إمامة أميرالمؤمنين علي عليه ‏السلام للناس وعيّن الإمام علي عليه ‏السلام خليفة للمسلمين بعده، وأنّ الإسلام لا يفرّق بين منصب الإمامة والولاية ومنصب النبوة، بمعنى أنّه كما أنّ منصب النبوة والرسالة منصب إلهي وسماوي وأنّ النبي منصوب من اللّه‏ وأنّ اللّه‏ تعالى هو الذي أرسل النبي إلى الناس، فكذلك منصب الإمامة الإلهيّة، فالإمام منصوب من عند اللّه‏، كما ورد عن الإمام المهدي (عجل الله تعالي فرجه الشريف) بالنسبة لسؤال في تعيين الإمامة وأنّه لماذا لا يحق للبشر تعيين الإمام لهم؟ هذا السؤال ذكر بشكل مفصّل في كتاب الاحتجاج والكتب الكلامية الأخرى فراجع.

روى سعيد بن عبداللّه‏ القمي الأشعري... فقلت: خبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع الناس عن اختيار الإمام لأنفسهم؟

قال الإمام المهدي عليه‏ السلام : «مصلح أو مفسد».

فقال: مصلح.

فقال عليه ‏السلام : «هل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلموا أحد ما يخطر ببال غير من فلاح أو فساد....» (28) .

وعندما لا يعرف الإنسان أفراد البشر ولا يعرف من هو الصالح والطالح، فكيف يمكنه تعيين وتشخيص الإمام المعصوم والصالح ليقوده في خط الهداية والصلاح، إنّ العارف بالإنسان هو اللّه‏ تعالى فقط، واللّه‏ يعلم بعلمه الأزلي والحضوري أنّ هذا الفرد من الإنسان يملك الطهارة والعصمة في أصل الخلقة وطاهر من جميع شوائب الظلم والجور وسائر الصفات النفسانية الرذيلة، وبعبارة أخرى إنّ اللّه‏ تعالى هو الذي يعرف الإنسان الطاهر والمعصوم، ولذلك فإنّ اللّه‏ تعالى هو الذي يعين الإمام والهادي المعصوم للمجتمع البشري: «وَمايَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى» (29) و «إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه‏ُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا» (30) .

وعلى مستوى العقل أيضا فإنّ العصمة تلازم النبوة والإمامة أيضا، لأنّ النبي الأكرم صلى‏ الله ‏عليه ‏و‏آله مبعوث من قِبل اللّه‏ تعالى لهداية الناس إلى الصراط المستقيم الواقعي، والإنسان غير المعصوم غير عارف بالصراط المستقيم الواقعي، وعندما لا يعرف الإنسان العادي الصراط المستقيم الواقعي فكيف يمكنه أن يهدي المجتمع في خط الصراط المستقيم الواقعي؟ إذن فالإمام يجب أن يكون معصوما ليتمكن من هداية الناس إلى الصراط المستقيم الواقعي وإيصالهم إلى الكمال النهائي ومقام القرب من اللّه‏، وأمّا غير المعصوم والذي لا يعرف الصراط المستقيم الواقعي فكيف يمكنه هداية الناس إلى هذا الطريق؟ هذا أولاً.

ثانيا: إذا لم يكن النبي معصوما ولم يحل محلّه إمام معصوم فإنّ الحجّة الإلهيّة لا تكون تامّة على الناس، لأنّ الإنسان العادي يقع في الاشتباه والجهل والخطأ عادة، وحينئذٍ سوف نشك في الأحكام التي بلّغها هذا الإمام للناس وهل أنّه صادق في كلامه أم لا؟ وهل أنّه مخطيء في هذا الكلام وأنّ كلامه خلاف الواقع أم لا؟ ومن هنا فسوف لا تتمّ الحجّة الإلهيّة على البشرية، لأنّ ومثل هذه الإنسان يحتمل في كلامه وأفعاله أن تكون مقترنة بالخطأ وأن يكون خلاف الواقع.

إنّ الحجّة الإلهيّة على الناس إنّما تتمّ فيما إذا كان النبي معصوما وكان كلامه كلام اللّه‏ وقوله قول اللّه‏، وحكمه حكم اللّه‏ وأنّ هذا الحكم هو عين الواقع الذي لا يحتمل فيه الخطأ والاشتباه، والحجّة الإلهيّة على الناس إنّما تكون تامة إذا كان الإمام يتمتع بملكة العصمة وكان كلامه مطابقا للواقع مائة بالمائة والمعصوم يبلغ الناس عين الواقع، وعلى أساس هذين البرهانين العقليين فإنّ النبوة والإمامة تستلزمان العصمة قطعا، وإلاّ فلا يتمكن ذلك الرسول أو ذلك الإمام من هداية الناس إلى الصراط المستقيم الواقعي، ولا تكون الحجّة الإلهيّة تامة على الناس، لأنّ الشخص الذي لا يعرف الصراط المستقيم الواقعي فكيف يدعو الناس إلى الصراط المستقيم؟

مرجعية الثقلين:

قام رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله في حجة الوداع وعندما نزلت الآية الشريفة: «يَا أَيُّهَاالرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...» (31) . بتعيين الإمام ومرجعية الثقلين بعده للناس وقال في غدير خم: «معاشر الناس من كنت مولاه فهذا علي مولاه» (32) وهذه الرواية متواترة لفظا، ومن بين الروايات الشريفة لا يوجد رواية متواترة لفظا إلاّ نادرا فعادة يكون تواتر الروايات تواترا معنويا أو تواترا إجماليا.

ولكن الروايات المتواترة لفظا نادرة جدّا، ومن بين الروايات التي يتفق عليها الفريقان السنّة والشيعة، بإنّها متواترة لفظا هي رواية حديث الغدير وأنّ رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله قال: «معاشر الناس من كنت مولاه فهذا علي مولاه»هذه العبارة وردت بهذا اللفظ في الأحاديث النبوة الشريفة وقد نقل الرواة هذه العبارة بهذا اللفظ المتواتر عن النبي الأكرم صلى ‏الله ‏عليه‏ و‏آله .

وهكذا بالنسبة لحديث الثقلين الذي يبيّن مرجعية الأئمّة عليهم ‏السلام بعد رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله وقد صرّح النبي مرارا عديدة وخاصة في حجة الوداع في عرفات ومنى وقال: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه‏ وعترتي لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض إنّ تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا» (33) . وعلى هذا الأساس وبالاستناد إلى حديث الثقلين المتواتر فإنّ مرجعية الأُمّة الإسلامية والمجتمع البشري تتمثّل بأهل البيت عليهم‏ السلام .

ولكن ما الدليل على ذلك؟ الجواب:الدليل هو حديث الثقلين المتواتر الذي اتفق عليه الفريقان وورد في كتب الحديث ونقل عن رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله في أكثر من أربعين طريقا من طرق أهل السنّة، وكذلك يتفق الإمامية على أنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله جعل أهل البيت عدلاً للقرآن، وهذا دليل واضح على أنّ الأئمّة عليهم‏السلام بعد رسول اللّه‏ صلى‏ الله ‏عليه‏ و‏آله استلموا زمام الإمامة الإلهيّة ومرجعية الاُمّة الإسلامية وبيان الأحكام الإسلاميّة ومسؤولية هداية المجتمع البشري إلى الصراط الإلهي المستقيم. فإذا تمسك المكلّف بمرجعية الثقلين فإنّه لا يبتلي حينئذٍ بالانحراف والضلال والزيغ وسيكون مصيره في هذا الطريق الوصول إلى الكمال النهائي ونيل السعادة الأبدية والفوز بالقرب الإلهي وكذلك قول القرآن الكريم: «أُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ».

وأمّا إذا لم يتمسك الإنسان بمرجعية الثقلين وهما «القرآن الكريم وأهل البيت عليهم ‏السلام » فلا شك أنّه يتحرك في غير الصراط المستقيم ويتمسك بمرجعية على خلاف مرجعية الثقلين وسيكون مصيره الزيغ والانحراف عن الخط المستقيم وبالتالي الابتلاء بالشقاوة الأبدية: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّه‏َ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ» (34) .

وقد أنزل اللّه‏ تعالى من أجل اتمام الحجّة على الناس آيات بينات، ولكنّ الذين كانوا يخالفون اللّه‏ ورسوله ويتحركون في خط الانحراف والضلال سيكون مصيرهم العذاب الأبدي مع الكفّار والمعاندين.

أمواج الفتن:

وياللأسف فإنّ الحوادث المؤلمة التي وقعت بعد رحلة رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله للإسلام والمسلمين وعلى رأسها إعراض المسلمين عن وصية رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله وعدم عملهم بأوامر القرآن فإنّ القرآن قد أصبح مهجورا وكذلك العترة مهجورة، «وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورا» (35) .

ويا للأسف على ما حدث بعد رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله من إعراض الاُمة الإسلامية عن مرجعية الثقلين حيث انتزعوا الخلافة والإمامة الإلهيّة من أهل بيت الوحي والعصمة وهم الأئمّة المعصومين عليهم ‏السلام ولم يعملوا بأحكام القرآن وفسّروا القرآن برأيهم ولم يرجعوا في تفسير القرآن إلى المفسّرين الحقيقيين وهم الأئمّة المعصومين عليهم‏السلام وبالتالي تورطوا في دوامة الضلالة والاختلاف.

ويا للأسف على ما حدث بعد رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله من ظهور البدع والتفسير بالرأي، وظهور مدرسة الرأي والقياس وحدوث أمواج الفتنة والظلمة في الاُمّة الإسلاميّة في كل مكان وإمتدت آثارها وتبعاتها إلى يومنا هذا حيث وقعت الاُمّة الإسلاميّة في أسر المستكبرين وقوى الانحراف من الشرق والغرب حيث يأتمر المسلمون بأوامرهم وفقدوا بذلك كرامتهم الإنسانية وسقطوا في مهاوي الشقاوة ومتاهات الضلالة والانحطاط.

ويا للأسف أننا نعيش في عالم زاخر بالكذب والمكر والاستبداد والتزوير حيث غطت الرذائل الأخلاقية ومعالم العبودية والذلة على جميع ملامح الحياة لدى المسلمين وقد حرفوا دينهم وكرامتهم الإنسانية ولازالوا يمارسون الزيغ والتحريف والابتعاد عن جادة الحق والهداية.

ويا للأسف على أنّ الظالمين لآل رسول صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله والأئمّة المعصومين عليهم ‏السلام قد ظلموا البشرية بعدوانهم هذا وحرموها من معارف أهل البيت عليهم ‏السلام وعلوم أصحاب الوحي والعصمة، ومثل هذا الظلم لا يغتفر في تاريخ العالم والبشرية «إِنَّ اللّه‏َ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ» (36) وقال تعالى: «أَلاَ لَعْنَةُ اللّه‏ِ عَلَى الظَّالِمِينَ» (37) .

تطور الأحكام ودخول عنصر الاجتهاد والتقليد:

من الواضح أنّ مصدر التشريع والقانون في الإسلام هو الوحي حيث كان رسول اللّه‏ صلى‏الله ‏عليه‏ و‏آله يستلم الأحكام الإلهيّة من عند اللّه‏ لا بواسطة الوحي ويبلغها للناس، والبحث هنا يرتبط بتاريخ الاجتهاد والتقليد ومتى وكيف ظهر عنصر الاجتهاد.

إنّ عنصر الاجتهاد والتقليد لم يكن قد ظهر قطعا في عصر حضور المعصوم، لأنّ علم الأئمّة عليهم ‏السلام ليس اجتهاديا أو تقليدا، وإنّما علم الإمام المعصوم علم حضوري بالأحكام وبما هو موجود في الواقع، ومع وجود العلم الحضوري بالأحكام بعين الواقع لدى الإمام المعصوم فلا مجال للاجتهاد واستنباط الحكم من الأدلة الظاهرية، ولا مجال للتقليد أيضا.

ولكن في ذات الوقت فإنّ أصحاب الرسالة السماوية وأهل بيت العصمة والوحي الأئمّة المعصومين عليهم ‏السلام كانوا يعلّمون أصحابهم ويرشدون فقهاء الشيعة إلى كيفية الاستفادة من روايات المعصومين عليهم‏السلام ومن نصوص الكتاب والسنّة في عملية استنباط الأحكام الشرعية منها وبيانها للناس، كذلك كانوا ينهون الناس عن العمل بالرأي والقياس والعمل بغير علم.

إذن فالأئمّة عليهم ‏السلام كانوا يدعمون الاجتهاد الصحيح واستخراج الأحكام من الكتاب والسنّة ولكن بعد عصر النبي والأئمّة من أهل البيت عليهم ‏السلام سرعان من تحوّل طريق الاجتهاد الصحيح من مساره وظهر أصحاب الرأي ومدرسة أصحاب الحديث.

وقد كان مركز أصحاب الرأي والقياس والعمل بالاجتهاد غير الشرعي في العراق وكان على رأس هذه المدرسة «أبو حنيفة» وأتباعه، وأمّا مركز مدرسة الحديث وأصحاب الظاهر الذين كانوا يعملون بظواهر الحديث وفتاوى الصحابة والتابعين هو الحجاز ومدينة النبي، ويمكن القول إنّ الحركة التاريخية للفقه وبيان الأحكام الشرعية مرت بأربع مراحل تاريخية:

المرحلة الأولى: عصر نزول الوحي حيث كان أصحاب الوحي والعصمة يعلمون بالأحكام الإلهيّة بالعلم الحضوري ويبيّنون هذه الأحكام للناس بلغة الوحي والعلم الحضوري، وحينئذٍ لا مجال في مورد العلم الحضوري للاجتهاد والتقليد، لأنّ العلم الحضوري عين الواقع، وعندما كان أصحاب الوحي والعصمة وهم الأئمّة عليهم‏السلام يبيّنون للناس كل حكم من الأحكام الإلهيّة سواء على مستوى الحكم الفقهي والشرعي وعلى مستوى الأحكام العبادية والمعاملاتية، أم على مستوى الأحكام الاقتصادية والاجتماعية، فممّا لا شك فيه أنّ بيان المعصوم يعتبر حجّة شرعية كبيان النبي صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله ، والإمام المعصوم منصوب من عند اللّه‏، وكذلك يعتبر حجّة عقلية لأنّ بيان المعصوم هو عين العلم بالواقع ومعلوم أنّ حجّية العلم ذاتية، إذن ففي عصر المعصوم وهو عصر أصحاب الرسالة السماوية وأصحاب العلم اللدنّي والحضوري كان الناس يحصلون العلم بالأحكام الواقعية من خلال بيان المعصوم ولا حاجة حينئذٍ للاجتهاد والتقليد.

المرحلة الثانية: عصر أصحاب الرأي والقياس الذين تحركوا من موقع العمل بالقياس والاجتهاد بشكل واسع بدون اعتبار شرعي وكان مركز هذه المدرسة في العراق وعلى رأسها أبو حنيفة وأتباعه، وهذه هي مدرسة القياس والعمل بالرأي، وكما نعلم أنّ القياس باطل عقلاً وشرعا.

عدم مشروعية العقل:

إنّ العمل بالقياس باطل شرعا، لأنّ أرباب الرسالة السماوية والوحي الذين يملكون العلم الحضوري واللدنّي نهوا عن العمل بالقياس، وقد ورد في روايات متعددة وورد عن الإمام الصادق عليه‏ السلام أنّه قال: «السنّة إذا قيست محق الدين وأنّ دين اللّه‏ لا يصاب بالمقايس» (38) ، فالسنّة الإلهيّة تتعرض للمحق والمسخ في حالة العمل بالقياس وأنّ العمل بالقياس ضد الدين، وكذلك ما ورد في روايات أخرى عن الإمام الصادق عليه ‏السلام أنّه قال: «أول مَن قاس هو الشيطان» (39) ، فعندما صدر الأمر الإلهي للملائكة بالسجود لآدم عليه ‏السلام أبي البشر، استكبر الشيطان ورفض السجود لآدم وأخذ يستدل في مقابل الأمر الإلهي بالقياس، قال: «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» (40) . والنار تقترن بالنور، والطين يقترن بالظلمة، فكيف يسجد ويخضع النور أمام الظلمة والتراب؟ وعلى أساس هذا القياس والاستكبار والتمرد على الأمر الإلهي أضحى الشيطان رجيما وملعونا وطرد من مقام القرب الإلهي، إذن فكل عمل بالقياس مخالف للشريعة ويعتبر اتباعا للشيطان لا اتباعا للدين الإلهي ولا إتباعا لبيان أرباب الوحي والعصمة.

وفي رواية أخرى يقول الإمام الصادق عليه ‏السلام : «إنّ دين اللّه‏ لا يصاب بالمقايس» (41) ، والواقع أنّ العقل لا يستطيع إدراك وفهم الدين وملاكاته، ويجب على الإنسان أن يتحرك أمام الدين والوحي والقرآن الكريم ورسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله والأئمّة المعصومين عليهم ‏السلام الحاملين للقرآن والوحي من موقع التعبد ويسلك في أعماله سبيل التعبد.

وأمّا من يدعي التنوير ويعمل بعقله في مجال الدين ويحتج بآليات عقله وفهمه في مقابل الدين الإلهي فإنّه يعمل بالقياس وأنّ الحكم الشرعي ما يتفق مع عقله والحال أنّ «دين اللّه‏ لا يصاب بالعقول»فلا سبيل أمام الإنسان سوى التعبد بالأحكام الإلهيّة ولا يستطيع العقل البشري التوصل إلى كنه ملاكات هذه الأحكام ليقول في مقام الاحتجاج أنّ هذا صحيح وذلك خطأ.

على أية حال فالعمل بالقياس باطل عقلاً لأنّه: أولاً: لأنّ العقل ليس هو المشرع للأحكام الإلهيّة، والعقل لا يستطيع تشريع أحكام الدين، فالعقل كاشف عن الدين وأحكامه لا أنّه مشرع للأحكام، فالدين الإلهي قد تمّ ابلاغه وبيانه من قِبل أرباب الوحي والعصمة، وليس للعقل سوى الكشف عن الحكم الإلهي وذلك فقط في مورد وجود ملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل، وقد ورد في فقهنا وفي أصول الفقه أنّ أدلة الأحكام الإلهيّة أربعة:

1 ـ الكتاب (القرآن الكريم).

2 ـ السنّة (المعصومين عليهم‏ السلام ).

3 ـ الإجماع (الكاشف عن قول المعصوم عليه‏ السلام ).

4 ـ حكم العقل.

والعقل هنا إنّما يكون دليلاً تعبديا في عملية إستنباط في الأحكام الإلهيّة فيما إذا كانت هناك ملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل، وقانون الملازمة لا يكون بشكل مطلق، بمعنى أنّ قانون الملازمة إنّما يكون تاما فيما إذا كان حكم العقل داخلاً في سلسلة علل الأحكام الإلهيّة، لا أن يقع في سلسلة معاليل الأحكام مثلاً تقول الآية الشريفة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه‏َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ...» (42) فهذا الوحي والبيان يعتبر أمرا شرعيا في اطاعة اللّه‏ ورسوله وأولى الأمر، واطاعة الحكم الإلهي واجب، فإذا قال العقل أيضا أنّ اطاعة حكم اللّه‏ واجبة فهنا يقع حكم العقل بوجوب الاطاعة في سلسلة معاليل الأحكام الإلهيّة، وحكم العقل الواقع في سلسلة المعلولات لا يدلّ على إثبات وجود ملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل، لأنّ الشارع يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه‏َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ...» فحينئذٍ يكون وجوب الإطاعة بعد بيان الوحي هذا معلولاً للأمر الشرعي، وحكم العقل بلزوم الاطاعة يأتي في سياق معلول الأمر والبيان الشرعي، ففي هذا المورد لا يمكن العمل بقانون الملازمة وإلاّ فيستلزم اللغوية أو التسلسل المحال.

بيان ذلك: هل أنّ الأمر الشرعي يكفي في لزوم الاطاعة وتحريك العبد في مقام الإمتثال، أم لا؟ إذا كان كافيا فإنّ حكم العقل في لزوم الاطاعة يعتبر لغوا، وإذا كان البيان الشرعي في لزوم الاطاعة غير كافٍ، وأردنا من خلال القول بالملازمة بين الشرع والعقل أنّه يجب الاطاعة بعد أن حكم العقل بذلك فيلزم بيان الشارع للحكم بلزوم الاطاعة مرّة ثانية وبالعكس، فبقانون الملازمة أيضا يحكم العقل بوجوب الاطاعة وهكذا يتسلسل، إذن فيجب دفع هذه العويصة بأن نقول إنّ وجوب الاطاعة في الآية المباركة هو إرشادي لحكم العقل بلزوم اطاعة اللّه‏ ورسوله وأولي الأمر، وليس أمرا مولويا.

والمقصود من أنّ حكم العقل مدرك وكاشف للأحكام الشرعية هو في مورد تثبت فيه الملازمة بين حكم الشرعي وحكم العقل، فإنّ ثبوت هذه الملازمة إنّما يكون فيما إذا كان حكم العقل واقعا في سلسلة علل الأحكام الإلهيّة لا في سلسلة المعاليل من قبيل حكم العقل بلزوم اطاعة اللّه‏ سبحانه وتعالى كما تقدم.

على أيّة حال فلا يجوز العمل عقلاً بالقياس لأنّ العقل لا يكون مشرعا للأحكام الإلهيّة، والعقل في الجملة في موارد ثبوت الملازمة يعتبر كاشفا ومدركا للحكم الشرعي لا أنّه مشرع للحكم الشرعي حتى يقال بحجّية القياس والاستحسانات العقلية، إذن: أولاً: أنّ العمل بالقياس باطل عقلاً لأنّ العقل ليس مشرعا للأحكام الإلهيّة.

ثانيا: أنّ العقل ليس له إحاطة بالواقع، والعقل إنّما يدرك سلسلة من الأحكام ثبتت الملازمة فيه بين حكم الشرع وحكم العقل، وهذا لا يعني الاحاطة بالواقع، فكيف يمكنه أن يكون مشرعا للأحكام الإلهيّة؟ والعقل في مورد الشك، وعلى حدّ تعبير العلماء في مورد ما لا نص فيه، لا يستطيع أن يحكم بصحة ذلك الأمر أو بفساده، إذن ففي موارد عدم وجود النص الشرعي لا يستطيع العقل أن يقول بأنّ هذا الشيء واجد للمصلحة في الواقع ويجب إمتثاله أو أنّ ذلك شيء حرام للمفسدة في الواقع ويجب تركه، لأنّ العقل لا يملك الاحاطة بالواقعيات، وحينئذٍ العقل في مثل هذه الموارد يحكم بالتوقف لا أنّه يصدر فتوى، وعلى هذا الأساس فالعمل بالرأي والقياس والاجتهاد الذي لا يتمتع بتأيد المعصوم باطل شرعا وعقلاً.

أمّا أنّه باطل شرعا فلأنّ أرباب الرسالة السماوية وأصحاب العلم اللدنّي والحضوري وهم الأئمّة الأطهار عليهم‏السلام نهوا عن العمل بالقياس وقالوا: «السنّة إذا قيست محق الدين» (43) وقالوا: «أول من قاس هو الشيطان» (44) وقالوا: «إنّ دين اللّه‏ لا يصاب بالمقايس» (45) .

والقرآن الكريم أيضا نهى عن العمل بغير العلم والعمل بالظنّ غير المعتبر شرعا وقال: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً» (46) . و«إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئا إِنَّ اللّه‏َ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ» (47) .

وأمّا أنّه باطل عقلاً فلأنّه أولاً: أنّ العقل ليس مشرعا للأحكام الإلهيّة بل هو كاشف ومدرك للحكم الشرعي في الجملة في مورد اثبات الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل.

ثانيا: إنّ العقل لا يملك احاطة بالواقع، وفي موارد ما لا نص فيه لا يدرك العقل أنّ هذا الشيء له مصالح أو مفاسد، وعندما لا يكون العقل مدركا للواقع فكيف يمكن القول بجواز العمل بالقياس والعمل بالرأي وإصدار الفتوى على هذا الأساس؟!

النتيجة: أنّ الأئمّة عليهم‏السلام في مورد بيان الأحكام الإلهيّة أيدوا الاجتهاد الصحيح من الكتاب والسنّة ونهوا عن العمل بالرأي بدون دليل معتبر كالعمل بالقياس ومنعوا عن ذلك: «السنّة إذا قيست محق الدين».

المرحلة الثالثة: وفي مقابل أصحاب الرأي والقياس ظهر أصحاب العمل بالظاهر وكما تقدّم فإنّ مركزهم الحجاز ومدينة النبي صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله وتتحرك هذه المدرسة على أساس العمل بظواهر الأحاديث النبوية أو بظاهر فتوى الأصحاب والتابعين وقد سلكوا في العمل بظواهر الأحاديث النبوية والاهتمام بكلام الأصحاب والتابعين إلى حدّ أنّ هذه المدرسة عرفت بأنّها مدرسة أصحاب الظاهر أو الظاهرية وعندما تبرز في الحجاز مسألة جديدة فإنّهم يتمسكون في هذه المدرسة بالإجماع وبظاهر الحديث النبوي وفتوى الأصحاب والتابعين.

وبطلان هذه المدرسة واضح أيضا، لأنّ كلام الأصحاب والتابعين لا يعتبر حجّة بدون تأييد وتقرير المعصوم عليه ‏السلام ، بل في موارد عدم التعرف على رواية معينة وأنّها رواية عن النبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله وبعد التحقيق يتبيّن أنّ هذا الكلام، كلام النبي والمعصوم فحينئذٍ يكون حجّة، وأمّا في موارد التي لا يتبيّن أنّ هذا الحديث هو كلام النبي أو كلام المعصوم، فالعمل بظاهر ذلك الحديث وظاهر كلام الأصحاب والتابعين لا يكون حجّة، لأنّ التابعين لم تكن أجمعهم معصومين حتى يمكن القول بشكل مطلق أنّ كلامهم حجّة ومطابق للواقع.

وممّا لا شك فيه أنّ الإنسان العادي الذي يقترن كلامه باحتمال الخطأ والمخالفة للواقع لا يكون حجّة شرعية لاحتمال وجود الخطأ في كلامه، ومع وجود هذا الاحتمال في مورد تلك الرواية أو كلام الأصحاب والتابعين فلا يكون كلامهم حجّة شرعية، لأنّه أولاً: مطلق الظن غير حجّة «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئا...». و«وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ...»، فعندما نشك في حجّية هذا الكلام فمع وجود هذا الشك في هذه الحجيّة لا يحكم العقل بشيء بل على حدّ تعبير بعض العلماء أنّ الشك في الحجّية بمعنى القطع بعدم الحجيّة.

وثانيا: إنّ جميع الأصحاب والتابعين لم يكونوا معصومين حتى يكون كلام مطلق الأصحاب حجة، بل كلامهم يتضمن الخطأ وخلاف الواقع ولا يمكن لأحد أن يدعي أنّ كلامهم حجّة شرعا وعقلاً، إذن فكلام مدرسة أصحاب الحديث والظاهرية في هذا المجال ومن دون تشخيص أنّ ذلك الحديث هو حديث المعصوم عليه ‏السلام فليس بحجّة شرعا وعقلاً أيضا.

المرحلة الرابعة: في مورد بيان أحكام الإلهيّة، مدرسة الاجتهاد والاستنباط وهي مدرسة الاجتهاد الشيعي الذي وقع مورد تأييد وتقرير أرباب الوحي والعصمة وهم الأئمّة المعصومين عليهم‏السلام حيث عمل فقهاء الشيعة في الموارد التي لا يوجد فيها نص صريح من الكتاب والسنّة كالنص الصريح على حرمة الربا، وحرمة الزنا، و حرمة شرب الخمر، وحرمة نكاح المحارم، ففي مثل هذه الموارد التي لا يوجد فيها نص صريح فإنّ الفقهاء يتحركون للكشف عن الأحكام الشرعية من خلال الطرق والامارات الشرعية التي تثبت الجعل لحجّيتها شرعا وهذا الجعل الشرعي مستند إلى المعصوم، وبلا شك أنّ الطريق والدليل الذي يقع مورد تقرير وتأييد المعصوم عليه‏السلام فهو حجّة، لأنّ بيان المعصوم مضافا إلى التعبد هو طريق للعلم بالواقع.

وعندما يكون ذلك الطريق ثابت بحكم الشرع واعتباره وتقريره، ومن الواضح أنّ كل دليل كان دليل المولى إلى الواقع فهو الحجّة شرعا وعقلاً، «وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى» (48) و«وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا...» (49) وبلا شك أنّ كلام الذي يؤيده أرباب الوحي والعصمة ستكون حجّة ويجب قبوله.

وأمّا في زمان غيبة إمام العصر عليه‏السلام فإنّ كلام الفقهاء الجامعين للشرائط في بيان الأحكام الشرعية حجّة: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه‏ عليهم» (50) ، وقد نقل هذه الرواية اسحاق بن يعقوب عن إمام العصر عليه‏ السلام (51) ، حيث سيأتي في بحث جواز الاجتهاد والتقليد التحقيق في هذه المسألة وتوضيحها إن شاء اللّه‏...

توضيح المقال حول القياس والعمل بالظاهر وبطلانهما:

إنّ منشأ العمل بالرأي والقياس في الإسلام حسب ما ورد في التاريخ قد حدث بعد فترة قليلة من رحلة الرسول الأكرم صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله وظهر ذلك في زمن الخلفاء وخاصة في زمن الخليفة الثاني عمر، فقد ذكر العامة في كتبهم أنّ عمر بن الخطاب قال لكاتبه أن يكتب قول عثمان ورأي عمر ومن ذلك ما ذكر في مسألة الحج، حيث قال: «إنني أرى وجوب الفصل بين العمرة والحج وافراد العمرة عن الحج لا أنّ عمرة التمتع يأتي بها الحاج مع حج التمتع».

وكذلك أرسل عمر شريح القاضي إلى العراق للقضاء وعلّمه اسلوب وكيفية القضاء وأنّه إذا الحكم مذكورا في الكتاب والقرآن فعليك أن تقضي به، وإن لم تفهم الحكم من القرآن عليك بالاستفادة من سنّة النبي صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله ، فإذا لم يكن في سنّة النبي فاجتهد برأيك (52) ، وطبقا لهذا النقل التاريخي ولما ذكره هذا الكاتب من أهل السنّة (علي حسن عبدالقادر المصري) فإنّ منشأ الاجتهاد يمتد إلى زمان عمر، فالعمل بالقياس بعد الشيطان ينسب في تاريخ الإسلام إلى عمر، وعلى هذا الأساس فالعمل بالرأي والقياس لدى العامة بدأ بعد رحلة رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله ، غاية الأمر أنّ ذروة العمل بالرأي والقياس تحقق في زمان خلفاء بني عباس.

وأمّا المقصود من العمل بالرأي، فإنّ أصحاب الرأي والقياس لم يطرحوا تعريفا محددا للرأي وما هو المقصود من الرأي الوارد في كلمات الفقهاء؟ هل يعني العمل بالرأي بذلك المعنى اللغوي أو أنّ العمل بالرأي هو الرأي والاجتهاد والقياس الشخصي، أو المقصود من العمل بالرأي هو القياس والاستحسانات الشخصية، فهذا ما لم يتضح من كلامهم.

ويذكر ابن القيم، وهو أحد علماء أهل السنّة، في معنى العمل بالرأي ما يلي: «العمل بالرأي يعني أن يتأمل الشخص في مسألة معينة أو حكم معين ويفكر بها وعندما يتبيّن لقلبه وجه الصواب فيها فعليه العمل به هذا هو معنى العمل بالرأي» وقد ورد هذا التعريف للعمل بالرأي لابن القيم في كتاب تاريخ التشريع الإسلامي، ص94.

وأمّا الكاتب المصري أحمد أمين، فقد ذكر في كتابه المعروف «التكامل في الإسلام»، تعريف الرأيبأنّه العمل بالقياس وبالرأي وبنظر الشخص، أي أنّ الشخص الذي يعمل بالقياس والذي يعمل برأيه الشخصي فهو العمل بالرأي، وعلى أية حال فإنّ مدرسة العمل بالرأي وأصحاب القياس قد بلغت ذروتها في عصر الخلفاء العباسيين في العراق وكانت تقع في مقابل مدرسة أصحاب الحديث والظاهر، وهي المدرسة التي كان لها أتباع من الحجازيين.

ومن جملة الأدلة التي يوردها أهل السنّة وأصحاب العمل بالقياس لاثبات صحة العمل بالرأي والقياس، الحديث المعروف لمعاذ بن جبل،فعندما أرسل رسول اللّه‏ صلى‏ الله ‏عليه‏ و‏آله معاذ للقضاء إلى اليمن قال له رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله : كيف تقضي فيهم؟ قال: بكتاب اللّه‏، فقال له رسول اللّه‏: إذا لم يكن ذلك في كتاب اللّه‏ فكيف تقضي بينهم؟ قال معاذ: بسنّة رسول اللّه‏، فقال رسول اللّه‏: إذا لم تجده في السنّة، فقال معاذ: أجتهد برأيي ـ هذا الحديث يبيّن جواز العمل بالرأي، ويقول في آخر الحديث ـ فضرب رسول اللّه‏ صلى‏ الله ‏عليه ‏و‏آله على صدره وقال: الحمد للّه‏ الذي وفق رسول رسول اللّه‏ لما يرضى اللّه‏ ورسول اللّه‏ (53) .

فعندما قال معاذ: إذا لم أجده في كتاب اللّه‏ وسنّة نبيّه أجتهد برأيي، فإنّ رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أقره على ذلك وحمد اللّه‏ على أنّ معاذ نال مثل هذا التوفيق بحيث إنّه إذا لم يجد الحكم في كتاب اللّه‏ وسنّة نبيّه فإنّه يعمل برأيه ويجتهد في ذلك الحكم وقد رضي رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه‏ و‏آله عن ذلك. وقد أورد هذه الرواية الشوكاني في «إرشاد الفحول»، ص202. وهو من كتب أهل السنّة، و الغرض أنّ هذه الرواية تدلّ على المطلوب لوجود كلمة الرأي فيها حيث قال معاذ: أجتهد برأيي. واستدل أصحاب الرأي والقياس برواية معاذ هذه كما وردت في طرق العامة.

ولكنّ هذه الرواية يمكن المناقشة فيها من جهات حيث لا تدلّ على حجّية العمل بالرأي والقياس لأنّه أولاً: إنّ هذه الرواية من روايات العامة ولم تنقل من طريق معتبر عن رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله ، بل نقلت لأغراض خاصة وتبرير أمر شخصي من خلال نسبته إلى رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله ومن أجل الاطلاع أكثر راجع الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم، ص309، فهناك تلاحظ أنّ هذه الرواية لا تملك طريقا معتبرا.

ثانيا: إنّ علماء الحديث وكتّاب المصادر الحديثية يشككون في اسناد هذه الرواية عن رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، ولم يؤيدوا أنّ هذه الرواية صدرت عن النبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله .

ثالثا: هذه الرواية مضطربة من حيث المتن، وأنّ هذه الروايات نقل عن طريق حارث بن عمرو وهو مجهول لا يدري أحد من هو... قال البخاري في تاريخه الأوسط: لا يعرف الحارث إلاّ بهذا و لا يصحّ إذن خبر معاذ سندا ولا اعتبارا له (54) . واضطراب المتن فيها يبيّن أنّ هذه الرواية مجعولة وموضوعة بعد رحلة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله ، فهذه الرواية مشكوكة من حيث السند ولم توثق من قِبل كتّاب الحديث وكذلك من حيث المتن واضطرابه فلا قابلية لها على إثبات المطلوب، بل كذبه واضح لأنّ من المحال البيّن أن يكون اللّه‏ تعالى يقول: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاْءِسْلاَمَ دِينا...» (55) .

وقال تعالى: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» (56)

وقال تعالى: «تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ» (57) . ثم يقول رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله إنّه ينزل في الديانة ما لا يوجد في القرآن ومن المحال البيّن أن يقول اللّه‏ تعالى لرسوله صلى‏ الله ‏عليه ‏و‏آله : «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (58) .

ثم من المحال الممتنع أن يقول رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله : فاتخذ الناس رؤوسا جهّالاً فافتوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا.

مضافا إلى أنّ استقاضة الأحاديث عن أهل البيت عليهم‏السلام في عصر تلك المعركة لتأكد كمال الشريعة ووجود البيان الشرعي الكافي لكل الأحكام متمثّلاً بالكتاب والسنّة النبوية وأقوال الأئمّة عليهم‏السلام ونذكر هنا جملة من الأحاديث:

أ ـ عن الإمام الصادق عليه ‏السلام أنّه قال: «إنّ اللّه‏ تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى واللّه‏ ما ترك اللّه‏ شيئا يحتاج إليه العباد...» (59) .

ب ـ وعنه عليه ‏السلام أيضا أنّه قال: «ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة» (60) .

ج ـ وعنه عليه ‏السلام أيضا أنّه قال: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصلٌ في كتاب اللّه‏ عزّوجلّ ولكن لا تبلغه عقل الرجال» (61) .

د ـ عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‏السلام سئل: أكل شيء في كتاب اللّه‏ وسنّة نبيّه صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله ؟ أو يقولون فيه؟ قال: «بل كل شيء في كتاب اللّه‏ وسنّة نبيّه صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله » (62) .

هـ ـ عن الإمام الصادق عليه‏ السلام أنّه قال وهو يصف الجامعة: «فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش...» (63) .

النتيجة إثبات مشروعية القياس بخبر المعاذ وبغيره يضحك الثكلى، إذن ليس فيه ولا في غيره للقياس أثر لا بدليل ولا بنص ولا للرأي أيضا، لأنّ رواية معاذ موضوعة وضعيفة بالوضوح ومخالفة للكتاب والسنّة.

على أيّة حال فربّما كان في زمن رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله لم يعتنى بحديثه الشريف وكمثال على ذلك عدم اعتناء عمر بكلام رسول للّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله في حياته عندما قال النبي: «ءاتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا»، فلم يعتن عمر بكلام رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله وقال: «إنّ النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن وحسبنا كتاب اللّه‏» (64) وهذه الرواية من الروايات الصحيحة لدى أهل السنّة وتبيّن بوضوح عدم اعتناء عمر بكلام رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله وأحاديثه.

ويقول الغزالي في «سرّ العالمين»: «ولمّا مات رسول اللّه‏ قال قبل وفاته (ءاتوني بدواة وبياض لازيل عنكم إشكال الأمر واذكر لكم من المستحق لها بعدي) قال عمر: دعو الرجل فإنّه ليهجر، وقيل، يهذو» (65) .

وكذلك نقل عن أبي بكر أنّه جمع الناس بعد رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه‏ و‏آله وقال لهم: إنّكم تكثرون الحديث عن رسول اللّه‏ وتختلفون فيه، وهذه الأحاديث تؤدي إلى اختلاف الناس وقال: «فلا تحدثوا عن رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله شيئا فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب اللّه‏ فاستحلوا حلاله وحرّموا حرامه» (66) . وهذا الرواية تدلّ على أنّ أبا بكر قد نهى أهل المدينة عن نقل الأحاديث عن رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله ، وقد غفل عن أنّ القرآن بدوره يحتاج إلى تفسير الإمام المعصوم.

وكان عمر يقول للأشخاص الذين يرسلهم إلى البلاد الإسلامية مثل شريح القاضي الذي أرسله إلى العراق لأمر القضاء يقول: لا تحدثوا الناس عن رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله (67) ، وقد حبس ثلاثة أشخاص من الذين كانوا يحدثون عن رسول اللّه‏ كثيرا (68) . وقد نقل ابن سعد في طبقاته أنّ الناس جمعوا أحاديث نبوية في زمان عمر وأمر عمر باحراقها وقال لهم إنّ هذه الأحاديث مثل أحاديث أهل الكتاب واليهود، وقال عمر: مثناة كمثناة أهل الكتاب. أي أنّ الأحاديث التي تنقلوها عن النبي تشبه أحاديث أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وأمر باحراقها (69) .

وكيف كان ففي عصر الشيخين منع الناس من كتابة روايات النبي صلى‏ الله ‏عليه ‏و‏آله والأئمّة عليهم‏ السلام وكذلك التحدّث بها، وهذه الأمور تؤيد نظرية الاجتهاد بالرأي، حيث إنّهم تحركوا على مستوى العمل بالرأي والقياس منذ رحيل النبي الأكرم صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله غاية الأمر أنّ العمل بالرأي والقياس قد بلغ الذروة في عصر العباسيين.

وبعد عصر إمامة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه ‏السلام حيث كانت الحكومة الأموية قد بلغت أوج القدرة والسلطة في عام 100 للهجرة وبعد شهادة الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام وعندما انتهت حكومة بني أمية وحلت محلها حكومة بني العباس ازدهر العمل بالقياس في القرن الثاني الهجري (حدود 150 هـ ق) بين العلماء، ومن جملة العلماء الذين شددوا على العمل بالرأي والقياس «أبو حنيفة وأتباعه» الذين لم يهتموا بالأحاديث النبوية ورجحوا العمل بالقياس (70) .

وقد ذكر في كتاب تاريخ بغداد عن يوسف ابن اسباط، إنّ أبا حنيفة عمل بالقياس في مورد سهم الخيل من غنائم الحرب، ولم يعمل بحديث رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله الذي حكم للمجاهد الراجل بسهم واحد وللفارس بسهمين، وهكذا نرى أنّ أبي حنيفة ـ وفق هذا الكلام ـ لم يعتن بأكثر من أربعمائة الحديث عن رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله وفضلّ العمل بالقياس فيها ومن ذلك في مورد سهم الفارس وقال: «أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمنين» وفي مسألة غنيمة الجهاد نرى أنّ رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه‏ و‏آله وضع سهم للراجل وسهمين للفارس من الغنيمة ولكنّ أبا حنيفة عمل على تحريف هذا الحديث كما تقدّم، وقرر أنّ سهم الفارس مثل سهم المجاهد الراجل أي سهم واحد لكل منهما.

وكذلك عمل على تحريف الحكم الشرعي في رواية أخرى حيث قال رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله : «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» وهذه الرواية تبيّن خيار المعاملة في مجلس البيع وهي من جملة الأدلة على خيار المجلس، ولكنّ أباحنيفة قال: «إذا وجب البيع فلا خيار» (71) . أي حتى لو لم يفترق المتعاملان من مجلس البيع واجتهد برأيه في هذه المسألة في مقابل نص رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه‏ و‏آله الذي قال: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا» (72) .

وقد كان رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله عندما يتوجه في سفره يقرع بين نسائه وتخرج القرعة باسم الزوجة التي يأخذها معه في سفره، وقد عمل أصحاب النبي أيضا بهذا الأمر ولكنّ أبا حينفة اعتبر القرعة كالقمار وقال: «القرعة قمار» (73) والغرض أنّ أبا حنيفة أصحاب الرأي لم يكونوا يعتنون بأحاديث النبي صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله (74) .

يقول ابن أبي جميع: دخلت على جعفر بن محمد عليه ‏السلام أنا وابن أبي ليلا وأبو حنيفة، فقال الإمام عليه ‏السلام لابن أبي ليلى: من هذا معك؟

قال ابن أبي ليلا: هذا رجل له تبصر ونفاذ في أمر الدين.

قال الإمام عليه ‏السلام : لعله يقيس أمر الدين برأيه.

وقد وردت هذه الرواية بالتفصيل في كتاب عناية الأصول في شرح الكفاية .

ثمّ إنّ الإمام عليه‏ السلام قال لأبي حنيفة: «يانعمان حدثني أبي عن جدّي أنّ رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله قال: أوّل من قاس برأيه ابليس. قال اللّه تعالى له: اسجدوا لآدم فقال الشيطان: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين».

ثم قال الإمام عليه ‏السلام : «فمن قاس الدين برأيه قرنه اللّه‏ يوم القيامة بإبليس، لأنّه اتبعه بالقياس» (75) .

وهكذا نرى طبقا لمضمون هذه الروايات أنّ الشخص الذي يعمل بالرأي والقياس يتحرك في خط الشيطان وأنّ اللّه‏ سيحشره مع ابليس لأنّ تابع ومريد له.

ثم قال له أبو جعفر عليه ‏السلام كما في رواية ابن بشرمة: «أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟ قال أبو حنيفة: قتل النفس، قال الإمام عليه ‏السلام : فإنّ اللّه‏ عزّوجلّ قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا، إلاّ أربعة.

ومن جملة المسائل التي طرحها الإمام عليه ‏السلام أنّه قال لأبي حنيفة: أيّهما أعظم الصلاة أو الصوم؟ قال أبوحنيفة: الصلاة.

قال الإمام عليه ‏السلام : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فكيف ويحك قم. وهذا يعني أنّك عندما تقول إنّ الصلاة أفضل من الصوم فينبغي على الحائض أن تقضي صلاتها أيّام عادتها وقضاء الصلاة أولى من قضاء الصوم، إذا قلنا بجواز العمل بالرأي والقياس، والحال أنّ الحكم الشرعي ليس كذلك.

هنا نرى أنّ الإمام عليه‏ السلام قام بتهديد أبي حنيفة تهديدا على المستوى المعنوي وقال له: ويحك قم، أي الويل لك في قياسك في الأحكام الإلهيّة وعملك برأيك في حكم اللّه‏ وقال: واتق اللّه‏ ولا تقس الدين برأيك (76) .

المهم أنّ الروايات الواردة عن الأئمّة الأطهار عليهم‏ السلام التي تنهى عن العمل بالرأي والقياس والاستحسانات العقلية كثيرة وتدلّ على أنّ هذه الأمور غير معتبرة شرعا، وقد وتقدّم من الروايات قول الإمام: «إنّ دين اللّه‏ لا يصاب بالمقايس» و«السنّة إذا قيست محق الدين»إذن لا شك في أنّ العمل بالقياس باطل شرعا وعقلاً، لأنّ العقل لا يجوز له تشريع الأحكام بل هو كاشف عن الحكم الإلهي وذلك فقط في مورد إثبات وجود ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وإلاّ فلا توجد ملازمة في جميع الموارد بينهما وحينئذٍ لا يكون حكم العقل في جميع الموارد دليلاً تعبديا.

قانون الملازمة:

إنّ الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في الجملة تكون في سلسلة علل الأحكام. مثلاً ورد في الشريعة المقدّسة أنّ الغيبة حرام: «وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ...» (77) . فالغيبة على أساس هذا البيان الشرعي ظلم للمغتاب، والظلم منهي عنه شرعا، وحينئذٍ المناط للحكم الشرعي في هذا المورد والنهي عن الغيبة هو الظلم والاهانة للمغتاب.

ولو كانت حرمة الغيبة لشخص تختلف عن حرمة إهانته، وقد ورد عن النبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله أنّه قال: «من أهان مسلما بشطر الكلام، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه‏».

إذن فإهانة المؤمن بذاتها حرام ودليل ذلك غير دليل حرمة الغيبة، ولكن في مسألة الغيبة نرى أنّ المناط والملاك في هذا النهي الشرعي هو الظلم، ومن جهة أخرى يقول العقل أيضا الغيبة حرام لأنّها ظلم والظلم قبيح، وهذا الحكم العقلي في هذا المورد يقع في سلسلة علل الأحكام الإلهيّة، بمعنى أنّ هذا الحكم العقلي بقبح الغيبة يشترك في ملاك حرمة الغيبة شرعا وهو الظلم، فعندما يقول الشارع: الغيبة حرام، ويقول العقل: الغيبة أمر قبيح، لأنّ الملاك في ذلك الظلم، إذن فحكم العقل في هذا الموارد واقع في سلسلة علل الأحكام الإلهيّة، وهنا يأتي قانون الملازمة، أنّ كل ما حكم به الشرع بحرمته وحكم بالعقل بقبحه وحرمته، وقعت الملازمة بينهما ويمكن القول هنا أنّ العقل في هذا المورد في استنباط الأحكام الإلهيّة يعتبر دليلاً شرعيا تعبديا، وإلاّ ففي الموارد التي يحكم العقل بحكم معين ويكون الملاك والمناط لحكم العقل غير الملاك لحكم الشرع، وبعبارة أخرى: أن يكون حكم العقل واقعا في سلسلة معاليل الأحكام، فإنّ الملازمة بينهما غير تامة ولا يمكن القول أنّ حكم العقل هنا يعتبر دليلاً تعبديا شرعيا. لاستحالة اللغوية والتسلسل.

صفوة الكلام:

أولاً: إنّ العمل بالرأي والقياس لا اعتبار له عقلاً، لأنّ العقل لا يمكنه تشريع الأحكام الإلهيّة بل هو كاشف ومدرك للأحكام وذلك في مورد وجود الملازمة المذكورة، وقانون الملازمة ليس كليا، بل يكون في موارد اتحاد الملاك للحكم الشرعي مع ملاك الحكم العقلي، وحينئذٍ يكون للملازمة وجه، إذن ففي هذا المورد فإنّ العقل مدرك وكاشف لا مشرع للأحكام الإلهيّة لكي يتشرع العمل بالرأي والقياس.

ثانيا: إنّ العمل بالقياس حاله حال التمثيل المنطقي، بمعنى أنّه يوجد بحث في المنطق باسم التمثيل، يعني أنّ هذا الشيء مثل شيء آخر، ولكن لا توجد هناك ملازمة في أنّ هذين الشيئين متشابهان من جميع الجهات، مثلاً عندما نقول أنّ زيد وعمرو متماثلان، ولكن هذا لا يعني أنّ زيد يشبه عمرو من جميع الجهات حتى يقال بالقياس أحدهما مع الآخر.

ثالثا: إنّ التمثيل المنطقي أمر جزئي مفيد للظن فقط، والظن الحاصل من القياس لا دليل على حجيّته، وعلى فرض أنّ القياس أورث الظنّ أيضا فلا دليل على اعتباره، وأمّا الظنون الخاصة مثل الظن الحاصل من ظواهر الكتاب والسنّة، والظن الحاصل من الأخبار والروايات المعتبرة، والظن الحاصل من الإجماع كلها تملك دليلاً شرعيا معتبرا على التعبد بها، وأنّ الظن الحاصل من الشهرة والظن الحاصل من القياس ليسا من الظنون الخاصة التي تملك دليلاً على اعتبارها شرعا.

رابعا: إنّ العقل لا يحيط علما بالواقع لكي يدرك مناطات الأحكام فيقول إنّ ملاك هذا الحكم موجود في ذلك الحكم الآخر وحينئذٍ يكون حكمهما واحدا وتتمّ بذلك عملية القياس، وعليه فإنّ مدرسة الرأي والقياس لا تملك دليلاً على اعتبارها لا شرعا ولا عقلاً، فهي غير حجّة وبالتالي فهذا القول باطل ومردود بالبرهان والوجدان، إذن ليس للقياس أثر لابدليل ولا بنص ولا برأي.

خامسا: وفي مقابل مدرسة الرأي والقياس هناك مدرسة الحديث وأصحاب الظاهر ومركزها الحجاز حيث يعملون بظواهر الحديث النبوي وأقوال الصحابة والتابعين، والبعض من أتباع هذه المدرسة كداود معروفون بالظاهرية والمراد، من أصحاب الحديث في مقابل أصحاب الرأي هو أنّهم لا يقبلون الحكم من غير ظاهر الكتاب والسنّة ويعتقدون ببطلان الرأي والفتوى به، وقد انتشرت هذه المدرسة إلى حدّ بحيث إنّ مدرسة الرأي والقياس وأتباع أبي حنيفة وحتى تلميذه الخاص حسن الشيباني توجه من العراق إلى الحجاز وكتب كتابا يدعى «مقتضى الآثار» حيث انتقد في هذا الكتاب أصحاب الرأي والقياس وكذلك انتقد أستاذه أبا حنيفة، وقد امتدت مدرسة المحدثين وأصحاب الظاهر إلى حدّ أنّها أثّرت على مدرسة أصحاب القياس والرأي وهزمتها (78) .

وفي هذا العصر أي عصر ظهور مدرسة الحديث والظاهر برزت فتنة أخرى وهي المباحثات الكلامية والاعتقادية بين المعتزلة والأشاعرة والتي تتضمن مشكلة خلق القرآن وهل أنّ القرآن مخلوق أو قديم، وهذا هو النزاع المعروف بين المتعزلة والأشاعرة، وفي علم أصول الفقه ورد هذا البحث تحت عنوان الكلام النفسي حيث يقول الأشاعرة بالكلام النفسي وأنّ الكلام اللفظي حاكٍ عن الكلام النفسي والقول بقدم القرآن هو ما يبحث في الجملة في موضوع الإرادة والطلب من المباحث الأصولية.

وقد ورد في مبحث الإرادة والطلب هذا السؤال: هل أنّ الإرادة والطلب متحدان مصداقا ومفهوما كما هو مختار المرحوم الآخوند صاحب الكفاية، أو أنّ الإرادة والطلب متغايران مصداقا ومفهوما؟ الأشاعرة قالوا بهذه النظرية وأنّ الإرادة غير الطلب وذكروا عدّة أدلة منها فيما يتصل بالأوامر الامتحانية حيث لا يوجد إرادة فيها، لأنّه لو كان هناك إرادة فلا يمكن أن تنفك الإرادة عن المراد فإذا كانت هناك إرادة للمولى في مورد الإرادة الامتحانية فيجب أن يتحقق المراد في الخارج والحال أنّ المراد لا يتحقق، وهذا دليل على أنّ الإرادة غير الطلب، وأمّا في موارد أوامر الامتحانية فهناك طلب من المولى. ومن هنا ذهب الأشاعرة إلى الكلام النفسي.

الكلام النفسي:

يعتقد الأشاعرة بالكلام النفسي حتى في القرآن، نقول: كيف تقولون أنّ القرآن قديم؟ يقولون: إنّه في ذات الباري تعالى، إنّ البحث الكلامي في هذا المورد يرتبط بالبحث في صفات بالباري تعالى وكونه متكلّما، فهل أنّ التكلّم من صفات الذات للباري تعالى أومن صفات الشأن؟ ذهب الأشاعرة إلى أنّ التكلم من صفات الذات، ومن جهة أخرى نرى أنّ الكلام لفظ وأمر حادث ومتصرم الوجود، أي أنّ ماهية الكلام اللفظي عبارة عن «نَفَس» وعندما يخرج هذا النفس إلى الخارج في عملية التنفس يتبدل في كل مرحلة ومرتبة من مخارج الحروف إلى لفظ وكلام، وهذا التنفس هو المنشأ للكلام عندما يخرج النفس من خلال الحنجرة ليوجب الألفاظ والكلمات، فهو حادث ومتصرم الوجود، فعندما يخرج الحرف الأول من مخرجه مثل «ح» وما لم يخرج هذا الحرف وما لم يتصرم فلا تصل النوبة إلى الحرف اللاحق وهو «ر» أو «ط» وعندما يكون الكلام اللفظي أمرا حادثا وأنّ اللّه‏ تبارك وتعالى بسيط وواجب الوجود فلا يمكن أن يكون متصفا بالكلام اللفظي والأمر المتصرم الوجود حيث ينعدم اللفظ الأول لينوجد اللفظ اللاحق، ومن جهة أخرى أنّ اللّه‏ تعالى متكلّم وله كلام لفظي وهو القرآن القديم والموجود في نفس ذات الباري تعالي، وهذا الكلام النفسي في ذات الباري تعالى هو المنشأ للكلام اللفظي، والكلام اللفظي يحكي عن ذلك الكلام النفسي.

وحينئذٍ نصل إلى مسألة الطلب والإرادة، الإرادة الحقيقية كلام نفسي وهذه الإرادة الحقيقية والكلام النفسي هي المنشأ للإرادة الإنشائية والكلام اللفظي، والكلام اللفظي يحكي عن ذلك الكلام النفسي القديم، والطلب الحقيقي كلام نفسي، والزجر الحقيقي في دائرة النواهي كلام نفسي أيضا، وهذا الكلام النفسي وهو الزجر الحقيقي الذي يقع في دائرة النواهي هو المنشأ للزجر الإنشائي، والنهي اللفظي يحكي عن النهي أو الزجر الحقيقي والذي يسمى عند الأشاعرة بالكلام النفسي.

وهذا البحث هو بحث اعتقادي وكلامي، ومن ذلك يرى البعض تسمية علم الكلام بهذا الاسم كما هو مبيّن في محلّه، وقد ذكرنا بتوفيق اللّه‏ في بحث الإرادة والطلب هذا الموضوع بالتفصيل وإنّ اسم علم الكلام نشأ من هذا البحث الفلسفي والعقلي بين المعتزلة والأشاعرة، فالمعتزلة وهم أتباع واصل بن عطاء، والأشاعرة وهم أتباع أبي الحسن الأشعري بحثوا في مسألة أنّ اللّه‏ تعالى متكلّم وهل أنّ التكلّم من صفات الذات أو من صفات الفعل؟ وبحثوا في هذا المورد وفي هذه المسألة ومن ذلك نشأ علم الكلام، وعلم الكلام يبحث في أصول الدين وأحوال المبدأ والمعاد الثواب والعقاب.

النتيجة: إنّ الأشاعرة قالوا بالكلام النفسي كما تقدّم بيانه، وأنّ ذلك الكلام النفسي هو المنشأ لهذا الكلام اللفظي، والكلام اللفظي يحكي عن ذلك الكلام النفسي، وقد استدلوا لذلك بعدّة أدلة مذكورة في بحث الإرادة والطلب في علم الأصول وقد ثبت بطلانها.

بطلان الكلام النفسي:

أولاً: إنّ الكلام النفسي باطل بالوجدان لأنّ الأشاعرة يرون أنّ الطلب وهو الكلام النفسي غير العلم والإرادة، لأنّهم يقولون: إنّ الطلب غير الإرادة ويستدلون لذلك بأنّ الأوامر الامتحانية ليست فيها إرادة مع وجود طلب المولى، ولكن عندما يراجع الإنسان وجدانه فإنّه لا يرى في وجدان نفسه شيئا غير العلم والإرادة والتمني والترجي، وهو الطلب الذي يسمى بالكلام النفسي وأنّه غير الإرادة، فبالوجدان لا وجود في الإنسان طلب غير الإرادة والعلم، نعم، إنّ مبدأ الكلام بحاجة إلى تصور، وهو شيء آخر ولا ربط له بالكلام النفسي، إذن فما يقال بأنّ الإنسان يوجد في نفسه طلب غير الإرادة منتفي بالوجدان.

ثانيا: إنّ الكلام النفسي باطل بالبرهان أيضا، لأنّ مقتضى أدلة إثبات توحيد الذات المقدّسة هو أنّ واجب الوجود بالذات واحد وأنّ تعدد المبدأ محال، «وَلَو كَانَ فِيهما آلِهةٌ إلاّ اللّه‏ لَفَسَدَتا»وحينئذٍ إذا قلنا بالكلام النفسي وأنّ هذا الكلام النفسي قديم فإنّ ذلك يستلزم تعدد القدماء تعدد المبدأ باطل بالبرهان وأنّه شرك بالذات وغير ممكن، وعليه فنظرية الأشاعرة باطلة بالوجدان والبرهان، ونكتفي في هذا المورد بالإشارة فقط لأنّ المسألة هذه خارجة عن محل البحث فليطلب في موطنه.

أمّا مدرسة أصحاب الحديث والظاهر الذين يرون حجية قول ورواية الصحابة والتابعين فبطلانها واضح، لأنّ الصحابي غير معصوم ويقترن كلامه بالخطأ والاشتباه،ولا شك أنّ جميع أصحاب رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله غير الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام ليسوا بمعصومين، وعندما لا يكونون معصومين فإنّ كلامهم سيقترن بالاشتباه ولا يمكن القول إنّ الرواية التي ينقلها الصحابي غير المعصوم حجّة ومطابقة للواقع لوجود احتمال الخطأ وخلاف الواقع في موردها.

وببيان آخر إنّ ما هو حجّة بالنسبة لنا هو فعل وقول وتقرير المعصوم لا فعل وقول وتقرير الصحابة والتابعين ما لم يتنه إلى بيان المعصوم، لأنّ قول غير المعصوم مقترن باحتمال الخطأ وخلاف الواقع، إذن ليس بحجة شرعا وعقلاً.

قال اللّه‏ تبارك وتعالى:

«لَقَدْ مَنَّ اللّه‏ُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ‏ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ» (سورة آل عمران، الآية 164)


------------------------------------------------------------------------

1 - سورة العلق، الآية 1 ـ 5.

2 - سورة الأنبياء، الآية 7.

 3 - وسائل الشيعة، ج 18، الباب 4 من أبواب صفات القاضي.

4 - مجمع الفوائد والبرهان، ج 2، ص 110.

5 . تفسير البرهان، ج1، ص 560، الطبعة الجديدة نقلاً عن أمالي الشيخ المفيد
رحمه ‏الله .

6 - سورة العنكبوت،الآية 45.

7 - سورة البقرة، الآية 183.

8 - سورة آل عمران، الآية 97.

9 - سورة التوبة، الآية 122.

10 . سورة الشورى،الآية 13.

11 . سورة النحل، الآية 36.

12 . سورة الاعراف، الآية 54.

13 . سورة يوسف، الآية 67.

14 . سورة طه،الآية 50.

15 . سورة النور، الآية 35.

16 . سورة آل عمران، الآية 189.

17 . سورة النمل، الآية 6.

18 . سورة النجم،الآية 3 و 4.

19 . سورة التوبة، الآية 122.

20 . سورة النجم،الآية 3 و 4.

21 . سورة الحشر، الآية 7.

22 . الكافي، ج 2، ص 74.

23 . سورة النجم،الآية 3 و 4.

24 . سورة الحشر، الآية 7.

25 . سورة النساء، الآية59.

26 . اصول الكافي، ج1، ص 247.

27. سورة النساء، الآية 80.

28 . سورة آل عمران، الآية 164.

29 . الكافي، ج 2، ص 74.

30 . سورة المائدة، الآية 3.

31. سورة الشورى، الآية 23.

32 . الاحتجاج، للشيخ الطبرسي، ج2، ص 273 نقلاً عن سعيد بن عبداللّه‏ الأشعري القمي.

33. سورة النجم،الآية 3 و 4.

34. سورة الأحزاب، الآية 33.

35 . سورة المائدة،الآية 67.

36 صحيح الترمذي، ج2، ص 298؛ فضائل الخمسة، ج1، ص 249 وغيرها من المصادر الروائية الكثير من الخاصة والعامة.

37 . فضائل الخمسة‏من الصحاح الستة، ج2، ص 53 وغيرها من المصادر الروائية الكثير من الخاصة والعامة.

38. سورة‏المجادلة، الآية 5.

39. سورة الفرقان، الآية 30.

40. سورة الجمعة،الآية 5.

41. سورة هود، الآية 18.

42 . بحار الأنوار، ج2، ص 315، ح81.

43 . بحار الأنوار، ج2، ص286، ح 3.

44 . سورة الاعراف، الآية 12.

45 . بحار الأنوار، ج2، ص 315، ح 81.

46 . سورة النساء، الآية 59.

47 . بحار الأنوار، ج2، ص 315، ح81.

48. المصدر السابق.

49 . بحار الأنوار، ج2، ص 315، ح81.

50 . سورة الإسراء، الآية 36.

51 . سورة يونس، الآية 36.

52 . سورة النجم،الآية 3 و 4.

53 . سورة الحشر، الآية 7.

54 . وسائل الشيعة، ج18، باب 9 من أبواب صفات القاضي. ح9.

55. اكمال الدين، الصدوق رحمه‏الله ، ص 482 ـ وسائل الشيعة، ج18، ص 101، ح11.

56 . النظرة العامة في تاريخ الفقه الإسلامي، ص 215.

57 . دروس في أصول الفقه، ص 142.

58 . دروس في أصول الفقه، ص 142 محمّد حسين الاشكناني.

59. سورة المائدة، الآية 3.

60 . سورة الانعام،الآية 38.

61. سورة النحل، الآية 89.

62 . سورة النحل،الآية 43 و 44.

63 . أصول الكافي، ج1، ص 59، ح1.

64 . المصدر السابق، ص 59، ح4.

65 . المصدر السابق، ص 60، ح6.

66 . أصول الكافي، ج1، ص 62، ح10.

67 . المصدر السابق، ص 239، ح1.

68 . ورد هذا الحديث في صحيح البخاري من أهل السنّة، ج1 و ج4، وكذلك نقله أحمد بن حنبل في مسنده، ج1، ص 325.

69 . سرّ العالمين، ص21 المقالة الرابعة في ترتيب الخلافة.

70 . تاريخ التشريع الإسلامي، ص 91 ـ 92.

71 . المصدر السابق.

72 . طبقات الحفاظ الذهبي، ج1، ص 7.

73 . الطبقات الكبرى، لابن سعد، ج5، ص 140.

74 . مقدمة ابن خلدون، ص 37.

75 . الرأي السديد في الاجتهاد والتقليد، ص 14.

76 . المصدر السابق.

77 . الرأي السديد في الاجتهاد التقليد، ص 14.

78. تاريخ بغداد، ج 14، ص 39.

3 . الأصول العامة للفقه المقارن، ص 329 نقلاً عن حلية الأولياء، ج 3، ص 197.

1 . الأصول العامة للفقه المقارن، ص 329 نقلاً عن حلية الأولياء، ج 3، ص 197.

1 . سورة الحجرات، الآية 12.

1 . يرجع للتوضيح في كتاب النظرة العامة في تاريخ الفقه الإسلامي، ص 221 ـ 222.