الفصل الرابع

الاجتهاد؛ تعريف ماهية الاجتهاد لغةً واصطلاحاً، ومناقشة تعاريف الاجتهاد تعريف الاجتهاد

كان البحث في مقدمة الاجتهاد والتقليد وقد ذكرنا بعض المسائل التي ترتبط ببحث الاجتهاد والتقليد من باب المقدمة، وهنا نبحث في أصل المقصود وحقيقة الاجتهاد وكذلك نبحث بالتبع مسألة التقليد. فالفقهاء الاُصوليون بشكل عام بحثوا مسألة الاجتهاد والتقليد في خاتمة مباحث علم الاُصول، والسبب في ذلك أن تعريف علم الاُصول لا يصدق على مورد الاجتهاد، والتعريف المذكور لعلم الاُصول في الجملة هو : «العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية لتعيين الوظيفة للمكلّف» وهذا التعريف لا ينطبق على مسألة الاجتهاد والتقليد.

ومعنى الاجتهاد عبارة عن: تحمل المشقة في البحث والتحقيق في قواعد علم الاُصول والعلوم الدينية، فالمحقق والمجتهد في علم الاُصول والعارف يبذل جهده في تحقيق هذه المسائل والمعرفة بالأدلة الشرعية وأحوالها، وثمرة ذلك التحقيق ومعرفة الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، ولذلك فبحث الاجتهاد لا يدخل في دائرة علم الاُصول ولكن ذكره في علم الاُصول له ملاك خاص وارتباط بهذا العلم، وعلى هذا الأساس فإنّ مسائل الاجتهاد بالنسبة لعلم الاُصول
كنسبة الثمرة إلى الشجرة، وبحث التقليد بالتبع متفرع على الاجتهاد أيضاً.

عندما يكون الاجتهاد ثمرة ونتيجة لعلم الاُصول فالمحقّق والمجتهد في علم الاُصول يحصل على معرفة بالأدلة الشرعية وأحوال تلك الأدلة من التعارض والتزاحم فيما بينها والعام والخاصّ، المطلق والمقيد، الظاهر والنصّ، المجمل والمبين، الإمارة والأصل، وكذلك يتعرف على الاستلزامات العقلية، إذن فالاجتهاد عبارة عن ثمرة ونتيجة لعلم الاُصول. ومن هنا بحث العلماء هذا البحث سواءً من أهل العامة كالغزالي أو علماء الإمامية، وعليه ينبغي التحقيق في تعريف الاجتهاد والمجتهد الذي هو موضوع سلسلة من الأحكام الشرعية والعقلية، ما هي تلك الأحكام الشرعية والعقلية المترتبة على الاجتهاد؟ ويجب أن نعلم ما هي وظيفة المجتهد والأحكام المترتبة عليه ؟ وما هو موضوع الاجتهاد، هذه الاُمور بحاجة لبيان عدّة اُمور :

الأمر الأوّل: إنّ الاجتهاد واجب تخييري عقلي والعمل به مفرغ للذمّة، لأنّ الإنسان بمقتضى قانون العبودية مكلّف بالتكاليف الإلهيّة، واطاعة أوامر المولى الحقيقي وهو اللّه‏ تبارك وتعالى واجبة لأنّ اللّه‏ تعالى خلق الإنسان عاقلاً وجعل له ملكة العقل وهو الجوهرة الثمينة الذي يخلق في نفس الإنسان المسوءولية أمام اللّه‏، فالإنسان مسؤول في مقابل القانون الإلهي.

وبعبارة اُخرى إنّ الإنسان يملك علماً اجمالياً بوجود تكاليف واقعية وإلزامية في الشريعة الإسلامية ومخالفة تلك التكاليف الإلزامية وارتكاب المحرمات وترك الواجبات يستلزم العقاب عقلاً، ولذلك يجب عليه افراغ ذمّته من تلك التكاليف، وبديهي أنّ جميع هذه التكاليف ليست بضرورية أو بديهية ولا تحتاج إلى استنباط واستدلال كوجوب الصلاة والصوم، ولذلك يجب على المكلّف الاهتمام بتحصيل الدليل والحجّة الشرعية لتحصيل الأحكام وامتثالها. ومن جملة الحجج الشرعية والطريق المفرغ للذمّة هو الاجتهاد والعمل به، فالإنسان بوسيلة الاجتهاد يحصل له العلم بالأحكام الإلهيّة ويتحرك بالتالي على مستوى امتثالها والعمل بها، أو يكون مقلداً للمجتهد أو يعمل بالاحتياط، فالوجوب التخييري هنا قبل
وجوب الاطاعة، فطري وذلك بمقتضى وجوب دفع الضرر المحتمل، حيث إن ترك جميع الابدال يحتمل الضرر، وكذلك بمناط وجوب شكر المنعم عقلاً (1) .

ولكن لولم يتمكن المكلّف من تحصيل الاجتهاد في مورد الأحكام الإلهيّة كالعوام مثلاً ويعلم بأنّ التقليد في المسائل الدينية حجّة شرعية جاز له التقليد، وإلاّ فلو لم يكن يعلم بأنّ التقليد يعتبر حجّة شرعية وكان لديه ظنّ بحجيّة التقليد، فالتقليد في هذه الحالة لا يكون حجّة عليه، لأنّ ذلك يستلزم الدور.

الطريق الآخر المفرغ للذمّة هو العمل بالاحتياط، فالشخص الذي لا يكون مجتهداً ولا مقلداً ويأتي بالتكاليف الإلهيّة المحتملة، وبعد العمل بالاحتياط يعلم يقيناً بفراغ الذمّة من التكليف الإلهي الواقعي يكون امتثاله هذا مجزياً.

النتيجة: إنّ الاجتهاد واجب تخييري عقلي لإفراغ ذمّة الإنسان من التكليف الإلهي.

الأمر الثاني: يحرم تقليد المجتهد لمجتهد آخر، وإن ذهب البعض إلى جوازه استناداً لقاعدة أنّ ذمّة الإنسان المجتهد مشغولة بالتكليف الإلهي وإسقاط الحكم عن الجماعة وعندما يكو فالحرج منتفٍ في الإسلام، ولذلك يجوز له التقليد.

ولكن الجواب لإثبات عدم جواز تقليد المجتهد لمجتهد آخر من وجهين:

الوجه الأوّل: الاجماع على عدم جواز تقليد المجتهد لمجتهد آخر، كما ذكر ذلك الشيخ الأنصاري رحمه‏ الله .

الوجه الثاني: إنّ أدلة جواز التقليد وهي رجوع الجاهل إلى العالم منصرفة عن مورد تقليد العالم لعالم آخر أو مجتهد لمجتهد آخر، لأنّ أدله جواز التقليد وهي سيرة العقلاء الممضاة من الشارع تقرر جواز رجوع الجاهل في كلّ فن وعلم إلى العالم، وأمّا الإنسان المجتهد فغير جاهل بل هو عالم بالأحكام، وإذا كان كذلك فلا تشمله أدلة جواز التقليد في رجوع الجاهل إلى العالم.

الأمر الثالث: في مسألة ولاية المجتهد وهل أنّ دائرة هذه الولاية للمجتهد واسعة وتشمل بيان الأحكام والولاية على أموال الغائبين وعلى طلاق زوجة الغائب وأخذ الأخماس والزكوات، أو أنّ دائرة ولاية المجتهد مضيقة وتختصّ في خصوص بيان الأحكام الشرعية والقضاء كما ارتضاه السيد الخوئي رحمه‏ الله وأتباع؟

الأمر الرابع: ومن جملة الأحكام المترتبة على الاجتهاد نفوذ قضاء المجتهد، فهل يحرم قضاء المجتهد في دائرة الأحكام التكليفية أو أنّها نافذة ؟ وإذا قلنا إنّ مقام القضاء هو مقام الولاية، فحينئذٍ تدخل مسألة القضاء في منصب الولاية ويكون مورد المسألة والبحث هو : هل أنّ دائرة ولاية المجتهد تشمل مورد القضاء، أو لا ؟ وإذا قلنا إنّ القضاء لا يرتبط بالولاية، فسوف يخرج عن دائرة ولاية المجتهد ويكون له حكم منفصل.

النتيجة: إنّ هذه الآثار الأربعة للاجتهاد يعني الوجوب التخييري العقلي للاجتهاد وحرمة تقليد المجتهد لمجتهد آخر، ودائرة ولاية المجتهد، وقضاء المجتهد مترتبة على الاجتهاد وموضوعها المجتهد نفسه.

الأمر الخامس: إنّ المجتهد تارة يكون انفتاحياً ويرى باب العلم والعلمي في مورد الأحكام الشرعية مفتوحا، وتارة اُخرى يكون انسدادياً ويرى باب العلم والعلمي في الأحكام الشرعية مسدودا، ويرى أن حصول مطلق الظّن في الحكم الشرعي حجّة من باب الحكومة أو من باب الكشف.

الأمر السادس: إنّ المجتهد تارة يكون مجتهداً مطلقاً وقادراً على استنباط واستخراج الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية في جميع أبواب الفقه من باب الطهارة إلى باب الديات والقصاص، وتارة اُخرى يكون المجتهد متجزئا وقادراً على الاستنباط في بعض مسائل الفقه، وأبوابه، مثلاً يكون قادراً على الاستنباط في مسائل باب الطهارة والصلاة وغير قادر على الاستنباط في سائر أبواب الفقه الاُخرى.

الأمر السابع: هل يمكن القول بالتجزيء في الاجتهاد أم لا ؟ وهذه المسألة وقعت مورد البحث، حيث يمكن القول بالتجزي في الاجتهاد بمعنى أنّ متعلق الاجتهاد قابل للتوسعة والتضييق.

الأمر الثامن: هل أنّ رأي المجتهد المطلق والمتجزي حجّة، أو أنّ رأيه غير حجّة ؟

الأمر التاسع: هل أنّ تقليد المجتهد المطلق والمتجزي ورجوع الغير إلى المجتهد في الأحكام الشرعية جائز، أو لا ؟

الأمر العاشر: هل ينفذ قضاء المجتهد المطلق الانفتاحي والانسدادي والمجتهد المتجزي، أم لا يكون نافذاً، أو نقول بالتفصيل بين قضاء المجتهد المطلق الانفتاحي فهو نافذ، وقضاء المجتهد المتجزي والانسدادي فهو غير نافذ؟

الأمر الحادي عشر: يقسم الاجتهاد إلى اجتهاد بالفعل وبالقوة، والاجتهاد بالفعل أن يكون المجتهد واجداً لملكة الاستنباط بالفعل ويكون لديه علماً وجدانياً بالأحكام أو علماً بحجّة الأحكام وأدلتها ويستنبط الحكم منها، وأمّا الاجتهاد بالقوّة بأن يكون المجتهد واجداً لملكة الاجتهاد وقادراً بالقوّة على الاستنباط ولكنه لا يستخدم فعلاً ملكة الاجتهاد بحيث يكون عالماً بالأحكام استنباطا.

الأمر الثاني عشر: فيما يتوقف عليه الاجتهاد من المباني والعلوم وما هو نوع هذه العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد من اللغة، الرجال، علم الاُصول وغير ذلك من مباني الاجتهاد ومبادئه.

الأمر الثالث عشر: هناك بحث في الأحكام العقلية للاجتهاد وهل أنّ استنباط المجتهد للحكم الشرعي مصيب للواقع دائماً، أو ربّما يخطيء الواقع أحياناً ؟

الأمر الرابع عشر: في شرائط الاجتهاد وهي : العدالة، الذكورية، الحياة، الأعلمية، الاورعية، وأمثال ذلك.

وكيف كان فإنّ جميع هذه الاُمور والمسائل تترتب على موضوع الاجتهاد والمجتهد ولذلك تحتاج إلى تحقيق ودراسة تفصيلية والبحث أوّلاً : ما هو الاجتهاد ومن هو المجتهد الذي هو موضوع هذه الأحكام ؟ وتبعاً لبحث الاجتهاد تأتي مسألة جواز أو عدم جواز تقليد المجتهد، فهذه مسألة تتفرع على بحث الاجتهاد.

إن قلت: لم يرد في لسان أدلة الأحكام الشرعية ترتيب الأحكام على عنوان الاجتهاد والمجتهد أو على عنوان التقليد والمقلِّد، وإنّما ورد في لسان أدلة الأحكام الشرعية ترتبها على عنوان راوي الحديث وناقل الرواية وعلى عنوان العارف بالأحكام والناظر إلى الحلال والحرام وأمثال ذلك.

الجواب: نعم، إنّ مفهوم الاجتهاد والمجتهد ـ وهو عبارة عن بذل الوسع لاستنباط الحكم الشرعي ـ يختلف عن مفهوم معرفة الأحكام والنظر إلى الحلال والحرام الوارد في الروايات، ولكنه في الواقع متحد معه لبّا، فكلّ ناظر للحلال والحرام وعارف بالأحكام الشرعية له جهتان : أحدهما أن يكون قادراً على فهم وحل المسألة الشرعية، والاُخرى أن يكون قادراً على إعمال فهمه ومعرفته في عملية تحصيل واستنباط الحكم الشرعي. وعلى هذا الأساس فالعارف بالأحكام ينبغي أن يكون واجداً لملكة معرفة الأحكام وكذلك قادراً على إعمال هذه الملكة في عملية استنباط أحكام الحلال والحرام وهذا هو معنى الاجتهاد.

الحاصل: إنّ العارف بأحكام الحلال والحرام الإلهيّة والذي ورد في لسان الروايات بأنه : «من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً وجعلته عليكم قاضياً» (2) ، فمثل هذا الشخص له حقّ القضاء وحقّ بيان الأحكام.

والشخص العارف بالأحكام والناظر للحلال والحرام يجب أن يتمتع بأمرين كما تقدّم : أن تكون لديه ملكة معرفة الأحكام، وكذلك القدرة على إعمال هذه الملكة في استنباط الحكم الشرعي من مداركه المعتبرة الشرعية. وفي الحقيقة هذا هو معنى الاجتهاد الوارد في لسان الأدلة والروايات وإن لم يرد تعريف للاجتهاد في لسان الأدلة والروايات وورد ذكره بوصفه العارف بالأحكام والناظر إلى الحلال والحرام، ولكن في الحقيقة فإنّ هذا هو معنى الاجتهاد والمجتهد الذي يتمتع بملكة معرفة الحكم الإلهي ويملك القدرة على إعمال هذه الملكة لاستنباط الأحكام الشرعية، فإن لم يكن المجتهد يتمتع بهذين الأمرين فليس بفقيه.

توهم باطل:

سؤال: إنّ الاجتهاد يمتد بجذوره إلى أهل السنّة وهو معروف منذ زمان عمر بن الخطاب الذي قال : «متعتان محللتان على عهد رسول اللّه‏، متعة النساء ومتعة الحجّ وأنا أحرمهما»وهكذا اجتهد عمر في مقابل نصّ رسول اللّه‏ الذي أقرّ حلية متعة النساء ومتعة الحجّ ومشروعيتهما في الإسلام بالكتاب والسنّة، ولكن عمر قال : أنا أحرمهما، ومن هنا طرح بحث الاجتهاد لدى علماء الإمامية تقليداً واتباعاً لأهل السنّة، وعليه فالاجتهاد في الأصل ورد من أهل السنّة وقد ورد إلى كتب الشيعة، وفي الحقيقة إن بحث الاجتهاد والمجتهد لم يرد في لسان أدلة الأحكام الشرعية.

الجواب: إنّ هذا التوهم باطل، لأنّ معنى الاجتهاد هو أنّ فقهاء الشيعة يبذلون الجهد لاستخراج الأحكام الشرعية من الآيات والروايات ومنابع الأحكام لا أنّهم يقلدون أهل السنّة في بيان الأحكام، وقلنا إنّ المجتهد هو الشخص الذي يتمتع بملكة معرفة الحكم الشرعي وكذلك يملك القدرة على إعمال هذه الملكة في عملية استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة والامارات الشرعية المعتبرة الاُخرى، وفقهاء الشيعة لا يقبلون بذلك الاجتهاد الذي يراه أهل السنّة على أساس أنّه دليل مستقل في مقابل نصّ الآيات والروايات ولا أنّهم يقلدون أهل السنّة في هذا المجال حيث يرى أهل السنّة أنّ الاجتهاد دليل مستقل في مقابل الروايات، فمثل هذا الاجتهاد لدى الشيعة باطل بالضرورة وبالبداهة، أمّا بالبداهة فإنّه اجتهاد في مقابل النصّ وهو باطل شرعاً وعقلاً، لوجود روايات متعددة تقرر : «إنّ دين اللّه‏ لا يصاب بالمقايس»، «والسنّة إذا قيست محق الدين»، وكذلك وجود روايات اُخرى سبق بيانها في اثبات بطلان مدرسة الرأي والقياس.

التعريف اللغوي:

الاجتهاد على وزن «افتعال» وهو مأخوذ من «جُهد» بالضم، وهو لغة : الطاقة أو أنّه من «جَهد» بالفتح ومعناه المشقة ويأتي بمعنى الطاقة أيضاً، وعليه فالاجتهاد مشتق من الجُهد بالضم بمعنى التحمل والطاقة لطلب أمر، أعم من التحمل والطاقة في سبيل تحصيل وفهم الأحكام الشرعية، أو التحمل والطاقة والمشقة لغير الأحكام الشرعية، إذن فمن حيث اللغة، فالاجتهاد بمعنى بذل الوسع والطاقة لتحصيل أمر، والمجتهد هو الذي يسعى لتحصيل العلم وفهم الأحكام الشرعية من أدلتها الشرعية ويبذل في ذلك الجهد والطاقة والمشقة، وعليه فالطاقة والمشقة متلازمان.

إذن إذا كان الاجتهاد مشتق من مادة «جهد» بمعنى الطاقة وتحمل المشقة، وإذا كان مشتقاً من مادة «جهد» فمعناه: المشقّة والصعوبة.

النتيجة: يمكن القول أنّ الطاقة وتحمل الشيء الثقيل وكذلك المشقة متلازمان، أي أنّ الاجتهاد المشتق من مادة «جهد» يعني المشقة والصعوبة وهو ملازم للطاقة وتحمل الشيء الثقيل، وعليه فمعنى الاجتهاد لغةً سواءال كان مشتقاً من «جهد» بالفتح، أو مشتقاً من «جهد» بالضم يعني بذل الوسع والطاقة في تحصيل أمر من الاُمور. لأنّ تحمل الطاقة وبذل الوسع لا ينفك من المشقّة.

التعريف الاصطلاحي للاجتهاد:

ومن حيث الاصطلاح فقد ذكرت للاجتهاد تعاريف متعددة، منها ما ذكره الغزالي وهو من علماء أهل السنّة، من أنّ الاجتهاد عبارة عن : «بذل المجتهد وسعه في تحصيل العلم بالحكم الشرعي».

وذهب بعض آخر من علماء أهل السنّة كالحاجبي وغيره، وكذلك من علماء الإمامية كالعلاّمة في التهذيب والنهاية من أنّ الاجتهاد عبارة عن : «بذل المجتهد وسعه واستفراغه في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي» (3) .

وكلا هذين التعريفين لا يخلو من تأمل ومناقشة، أمّا تعريف العزالي فغير تام، لأنّه أوّلاً :يستلزم الدور، فتعريف الاجتهاد يتوقف على معرفة المجتهد، لأنّ الغزالي عرّف الاجتهاد بأنّه بذل وسع المجتهد في تحصيل العلم في الحكم الشرعي، وبالعكس فإنّ تعريف المجتهد يتوقف على الاجتهاد، لأنّ المجتهد لا يفهم المقصود منه بدون معرفة الاجتهاد، وهذا دور واضح.

ثانياً: إنّ تحصيل العلم بالأحكام منحصر في موارد الاستلزامات العقلية،

وفي موارد غير الاستلزامات العقلية يحصل الظنّ بالأحكام الشرعية لا العلم بالأحكام، والبحث في مورد الاستلزامات العقلية من قبيل الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا، وهل هناك ملازمة بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة؟ وهل يمكن اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد أم لا ؟ وهل أنّ الحكم الوجوبي الشرعي يلازم عدم الحرمة أو لا يلازم عدم الحرمة، والحكم التحريمي الشرعي هل يلازم عدم الوجوب أو لا يلازمه ؟ ففي هذه الموارد للاستلزامات العقلية يكون لتحصيل العلم بالحكم الشرعي وجه.

وأمّا في غير موارد الاستلزامات العقلية فإنّ العلم بالأحكام لا يحصل للمكلّف إلاّ مع القول بالتصويب، أي أنّ كلّ ما استنبطه المجتهد من الأحكام الشرعية فإنّه مصيب في الواقع. إذن فتعريف الغزالي من جهة أخصّ من المدعى، ومن جهة ثانية يستلزم الدور وكذلك يستلزم التصويب.

بطلان التصويب:

التصويب باطل بالاجماع، سواءاً كان تصويباً اشعرياً أو تصويباً معتزلياً، و«التصويب الأشعري» يعني عدم وجود أي حكم في لوح الواقع وأنّه كلّما استنبط المجتهد من الحكم طبقاً للامارة فهو حكم اللّه‏، وحينئذٍ يتعدد الحكم الإلهي بتعدد آراء المجتهدين. مثلاً إذا استنبط المجتهد من الامارات والروايات الشرعية وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة فالحكم الواقعي لصلاة الجمعة هو الوجوب، وإذا استنبط مجتهد آخر خلافه وقال بأنّ صلاة الجمعة في زمان الغيبة حرام، فهو أيضاً مصيب في فتواه ويكون حكم صلاة الجمعة في لوح الواقع هو الحرمة، ومن الواضح أنّ هذا التصويب باطل بالنقل وبالاجماع وبالعقل، لأنّه أوّلاً : يستلزم الدور، فينبغي أن يكون هناك حكم واقعي ليتحرك المجتهد للعثور عليه واستنباطه، والعكس فالواقع تابع ومتوقف على رأي المجتهد، وهذا دور واضح ومحال.

وثانياً: لا يمكن أن تكون الأحكام غير تابعةً للمصالح الواقعية وتابعة لنظر المجتهد، لأنّ اعتبار الأحكام الشرعية فعل الشارع الحكيم، وفعل الحكيم له حكمة ومصلحة، مضافاً إلى ذلك فهو خلاف برهان الاشتراك في التكليف.

أمّا برهان الاشتراك في التكليف فيقرر أنّ اللّه‏ تبارك وتعالى جعل في لوح الواقع أحكاماً للعالم والجاهل، غاية الأمر أنّ العالم بالواقع يتنجز الحكم في حقّه ويجب عليه الامتثال، وأمّا الجاهل القاصر بالواقع فإنّ جهله عند اللّه‏ معذر.

أمّا «التصويب المعتزلي» فهو أنّ الحكم الشرعي الإنشائي موجود في الواقع للإنسان، غاية الأمر إذا قامت الامارة على خلافه فإنّ الواقع ينقلب ويصير مطابقاً لموءدى الامارة، مثلاً إذا كان حكم صلاة الجمعة في الواقع هو الحرمة في زمان الغيبة، ولكن إذا قامت الامارة لدى المجتهد على وجوب صلاة الجمعة فإنّ الحرمة الواقعية تنقلب إلى ما يتفق مع موءدى الامارة وهو وجوب صلاة الجمعة.

على أيّة حال فالتصويب باطل عقلاً ونقلاً وكذلك باطل بالاجماع وعلى خلاف بطلان الاشتراك في التكليف.

ونحن بدورنا «مخطئة» وذلك بأننا نعتقد بوجود تكاليف إلهية في لوح الواقع للمكلّفين، غاية الأمر أنّ المجتهد أحياناً يدرك هذه الأحكام الواقعية بواسطة أدلة الاجتهاد أو التقليد فيكون مصيباً للواقع، وتارة اُخرى يخطيء الواقع في اجتهاده وهو عند اللّه‏ معذور في هذه الصورة، وعلى هذا الأساس فإنّ تعريف الغزالي باطل عقلاً ونقلاً، وأنّه يستلزم الدور ويستلزم التصويب.

وعلى ضوء هذا الإشكال قام بعض المتأخرين من علماء أهل السنّة كالحاجبي وهو متأخر عن الغزالي، بتبديل تعريف الغزالي والقول بأنّ الاجتهاد عبارة عن : استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي.

وهذا التعريف بدوره لا يخلو من اشكال وضعف، لأنّه :

أوّلاً: يرد عليه اشكال الدور أيضاً كما ورد على تعريف الغزالي، وذلك أنّ الاجتهاد متوقف على معرفة المجتهد وبالعكس لأنّه لا مجتهد بدون اجتهاد.

ثانياً: إنّ هذا التعريف غير جامع للأفراد، لأنّ موارد العلم بالحكم الشرعي مثل موارد الاستلزامات العقلية خارجة عن هذا التعريف، لأنّ هذا التعريف يقول : إنّ الاجتهاد عبارة عن تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي، ومعلوم أنّ موارد الاستلزامات العقلية هي علم بالحكم الشرعي وأنّ المجتهد يستفرغ وسعه في تحقيق هذه الموارد ويحصل لديه علم بالحكم الشرعي وبالتالي فإنّ هذا التعريف لا يشمل موارد حصول العلم بالحكم الشرعي، إذن فهذا التعريف باطل أيضاً وغير جامع للأفراد.

وتوهم البعض أنّ هذا التعريف للاجتهاد وأنّه عبارة عن بذل وسع الفقيه لتحصيل الظنّ بالحكم الشرعي يقوم على أساس مسلك العامة وأهل السنّة وهو صحيح على مبناهم. وهذا التوهم باطل لأنّه أوّلاً :هناك خلاف بين أهل السنّة في الموارد التي يقال بحجيّتها والموارد التي ليست كذلك، فلا يرون الحجيّة منحصرة في مورد الظنّ، ومسلك أهل السنّة هو اعتبار أصل الحجيّة، والقدر المتيقن ممّا يعتبرونه حجّة أربعة اُمور : الكتاب، السنّة، الاجماع، القياس. إذن فالظنّ لدى العامّة غير معتبر، وأمّا أن نقول أن هذا التعريف بما أنّه وردت فيه كلمة الظنّ فإنّه قاصر وغير جامع للأفراد، فالمعتبر لدى العامّة هو الحجّة لا الظنّ، والمعتبر لديهم القياس ولا ينبغي الخلط بين اعتبار القياس واعتبار الظنّ الذي أخذ في تعريف الاجتهاد، فالعامة لا يرون الظنّ مطلقاً حجّة بل يرون القياس حجّة، ولذلك ذهب بعضهم إلى القول : علينا البحث عن الحجّة في الحكم الشرعي سواءً كانت تلك الحجّة مفيدة للظنّ أو غير مفيدة، ومثال المفيد للظنّ هو الظنّ الحاصل من القياس حيث يرونه حجّة ومفيدة غير الظن الاستحسانات المرسلة، وأمّا الإمامية فلا يرون الظنّ الحاصل من القياس حجّة، وعليه فالاختلاف بين أهل السنّة والشيعة في تعيين الحجّة، فهوءلاء يقولون بأنّ القياس حجّة، وأمّا الإمامية فيقولون أنّ القياس ليس بحجّة.

وهذا نظير الاختلاف بين الاُصوليين والاخباريين في دائرة علماء الشيعة، فكلّ طائفة من العلماء الاُصوليين والاخباريين يتفقون في الكبرى وهي أصل الحجيّة، فالاُصوليون يتحركون من أجل اثبات الحجّة للحكم الشرعي، وكذلك الاخباريون يتحركون لاثبات الحجّة للحكم الشرعي، فلا نزاع بينهم في هذا الأصل، وأمّا ما ذهب إليه البعض من أنّ الخلاف بينهما يمتد إلى دائرة العقيدة وإلى حدّ التكفير فهذا الكلام بعيد عن الصواب وبلا تحقيق.

وكما قلنا إنّ الاُصوليين والاخباريين يتفقون أنّهم يتحركون لتحصيل الحجّة للحكم الشرعي، ومن هذه الجهة نرى أنّ المرحوم الآخوند في الكفاية وكذلك آية اللّه‏ الخوئي رحمه‏الله في شرح العروة يذكرون أنّ اختلاف الاُصوليين والاخباريين ليس في أصل الحجّة فهم متفقون في هذا الأصل وهذه الكبرى، بل إنّه من هذه الجهة يمكن الجمع بين مقولة الاخباريين والاُصوليين، والخلاف فيما بينهم في تعيين مصداق وصغرى الحجيّة، فالاخباريون يقولون مثلاً : إنّ الاستصحاب ليس من مصاديق الحجّة الشرعية، بينما يرى الاُصوليون أنّ الاستصحاب من مصاديق الحجّة الشرعية، وكذلك يرى الاُصوليون أنّ الأحكام العقلية حجّة ولكن الاخباريين لا يقولون بذلك بل يعتقدون أنّ الأحكام العقلية بشكل عام ليست بمصاديق الحجّة الشرعية إلاّ إذا كان حكم العقل يستند على الحس أو ما يكون قريباً من الحس.

ونتيجة ما تقدّم من التعريفين للاجتهاد من قبل أهل السنّة هي أنّ الاجتهاد عبارة عن : بذل وسع المجتهد لتحصيل العلم بالحكم الشرعي، والتعريف الآخر هو ما ذكره الحاجبي وغيره من أنّ الاجتهاد عبارة عن : بذل وسع الفقيه لتحصيل الظنّ بالحكم الشرعي. وقد رأينا وجه الإشكال في هذين التعريفين عقلاً ونقلاً وأنّهم يستلزمان الدور المحال والتصويب، وأنّ هذين التعريفين غير جامعين للأفراد، وتقدّم أيضاً وجود توهم بعد بطلان هذين التعريفين وهو القول بأنّ هذين التعريفين صحيحان على مسلك العامة، وقد تقدّم بطلان هذا التوهم أيضاً لأنّه عندما يكون أصل تعريف الاجتهاد باطل فإنّه الدفاع عنه سيكون باطلاً أيضاً، هذا أوّلاً.

وثانياً: إنّ الدفاع عن تعريف الاجتهاد بحصول الظنّ بالحكم الشرعي باطل من وجهة نظر أهل السنّة أنفسهم، لأنّهم لا يرون مطلق الظنّ حجّة، ولا يمكن الجمع بين الحجّة (القياس) واللاحجّة (الظنّ).

تعريف الشيخ البهائي:

وقد ذكر الشيخ البهائي في زبدة الاُصول، المنهج 4 ص 115 في تعريف الاجتهاد بأنه ملكة الاستنباط، وقال : إنّ الاجتهاد ملكة للمجتهد يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي. وعلى أساس هذا التعريف يمكن القول أنّ الاجتهاد عبارة عن الأمر الحاصل من الملكة العلمية وعبارة عن تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي، وتحصيل الحجّة هذا منشوءه الملكة العلمية، لأنّ تحصيل الحجّة على الأحكام الشرعية لا يتيسر بدون ملكة الاجتهاد.

ولكن يرد على هذا التعريف اشكالات متعددة :

أوّلاً: إنّ هذا التعريف لا يشمل الأحكام العقلية، فإذا استنبط الفقيه الحكم الشرعي من الأحكام العقلية، مثلاً يتمسك الفقيه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان في مورد الشبهة البدوية، فإنّ تعريف الشيخ البهائي لا يشمله، لأنّه يقول في هذا التعريف : إنّ الاجتهاد عبارة عن ملكة للمجتهد يقتدر بواسطتها على استنباط الحكم الشرعي، والحال أنّ الفقيه في مورد التحقيقات العلمية يتحرك من أجل تحصيل الموءمّن من العقاب لا تحصيل نفس الحكم الشرعي، وتحصيل الموءمّن من العقاب أعمّ من أن يكون في الأحكام الشرعية أو موارد الأحكام العقلية، مثلاً في مورد الشبهة بعد الفحص والتحقيق وعندما لا يوجد نصّ على تعيين الحكم يتمسك المجتهد بقاعدة قبح العقاب بلا بيان وهي حكم عقلي، فهنا يوجد موءمّن من العقاب عقلاً ويحصل لهذا المجتهد هذا الموءمّن من العقاب وهو غير تحصيل الحكم الشرعي، على أيّة حال فإنّ هذا التعريف لا يشمل الملازمات العقلية والأحكام العقلية التي يستنبطها المجتهد.

ثانياً: إنّ هذا التعريف يقول : إنّ الاجتهاد عبارة عن ملكة تمكن المجتهد بواسطتها من استنباط الأحكام الشرعية، وعلى هذا الأساس فإن جعل الاجتهاد عِدلاً لوجوب التقليد والعمل بالاحتياط لا وجه له، وقد تقدّم في المباحث المقدّماتية وما يعتقد به معظم العلماء والفقهاء بما يقرب من الاتفاق أنّ الاجتهاد عِدل الواجب التخييري العقلي للتقليد والاحتياط، فإذا كان الاجتهاد عبارة عن ملكة فإنّه لا يكون عدلاً للتقليد والاحتياط، لأنّ التقليد والاحتياط عبارة عن الالتزام العملي بالتكليف، فالشخص العامي الذي لا يعلم الأحكام الشرعية يتحرك في تحصيل الحكم الشرعي على مستوى تقليد المجتهد، أي أن يعمل بفتوى العالم، والشخص المحتاط إذا كان بالنسبة للأحكام الشرعية غير مجتهد وغير مقلد فإنّه يعمل بالاحتياط، إذن فالتقليد والاحتياط من الاُمور العملية بينما الاجتهاد ملكة نفسانية، وحينئذٍ لا وجه لكون الاجتهاد عدلاً للتقليد والاحتياط.

ثالثاً: إن قوله بأنّ الاجتهاد عبارة عن ملكة نفسانية فإنّ ذلك ليس ملازماً لاستنباط الحكم الشرعي، فربّما تتحقق ملكة الاجتهاد لدى الفقيه ولكنه لا يستنبط الحكم الشرعي، ولكن الاجتهاد ظاهر في الاستنباط، وعليه فهذا التعريف قاصر وغير جامع.

تعريف الميرزا القمي:

عرّف الميرزا القمي الاجتهاد بأنّه : «استفراغ الوسع لتحصيل الأحكام الشرعية من أدلتها لمن عرف أدلتها وأحوالها وردّ الفرع إلى الأصل». وهكذا نرى أنّ الميرزا القمي وبسبب وجود اشكالات على تعريف الاجتهاد للغزالي والحاجبي وتعاريف اُخرى وإنها تستلزم الدور، فإنّه لم يذكر تلك النقاط المثيرة للإشكال وأنّ الاجتهاد عبارة عن بذل وسع المجتهد في تحصيل العلم أو في تحصيل الظنّ في الحكم الشرعي، فنرى أنّ المرحوم الميرزا القمي حذف هذه العبارات من تعريف الاجتهاد
واضاف إلى تعريف الاجتهاد سلسلة من القيود الاُخرى منها معرفة الأدلة وأحوال الأدلة وردّ الفرع إلى الأصل.

ولكن هذا التعريف بدوره لا يخلو من أوجه الضعف والتأمل.

نقد ومناقشة:

ومن جملة الإشكالات الواردة على هذا التعريف، أنّ هذا التعريف يشمل المجتهد المتجزي لأنّ قيد ردّ الفرع إلى الأصل مطلق في هذا التعريف، أي أنّ المجتهد هو الشخص الذي يستفرغ الوسع لتحصيل الأحكام الشرعية في صورة كونه عارفاً بالأدلة وعارفاً بأحكام أدلة الشرعية وردّ الفرع إلى الأصل، بمعنى استنباط المسائل الجزئية وتطبيق الحكم الكلي المستنبط من الأدلة على هذه المسائل الجزئية، وهذا العمل من ردّ الفرع إلى الأصل مطلق، ويشمل بإطلاقه المجتهد المطلق والمجتهد المتجزي، لأنّ ردّ الفرع إلى الأصل لا يختصّ بالمجتهد المطلق بل إنّ المجتهد المتجزي يملك معرفة ومهارة في المسائل الفرعية الشرعية في بعض أبواب الفقه ويرد الفرع إلى الأصل فيها، ويعمل على تطبيق القواعد الاُصولية عليها ويستنبط الحكم الشرعي منها.

نعم، المجتهد المطلق والمتجزي يختلفان من حيث ترتب الأحكام، منها أنّ المجتهد المطلق يستطيع استنباط جميع الأحكام الشرعية، بينما المتجزي لا يستطيع استنباط جميع الأحكام بل يتمكن من استنباط بعضها. ومن جملة الفروق بينهما أن حقّ الولاية لا يترتب على المجتهد المتجزي، لأنّ موضوع الولاية يختصّ بالمجتهد المطلق، هذا أولاً.

ثانياً: إنّ الميرزا القمي يقول في تعريفه : الاجتهاد عبارة عن تحصيل الحكم الشرعي من أدلة الأحكام الشرعية، وهذا لا يشمل الأحكام العقلية، لأنّه لا توجد أدلة شرعية في مورد الأحكام العقلية، وبالتالي فإنّ استنباط الحكم العقلي خارج عن هذا التعريف.

ثالثاً: إنّ تخصيص أدلة جواز التقليد على الأحكام الفرعية والشرعية بلا مخصص، حتّى يمكن القول بأنّ التقليد في المسائل الاُصولية للمجتهد غير جائز، مثلاً إذا استنبط المجتهد في علم الاُصول حجيّة الاستصحاب، ومعلوم أن حجيّة الاستصحاب مسألة اُصولية لا مسألة شرعية وفرعية، أو أنّه استنبط في الاُصول حجيّة الخبر الواحد وحجيّة الخبرين المتعارضين، فهذه الأحكام في حجيّة الاستصحاب والخبر الواحد والخبرين المتعارضيين من أحكام علم الاُصول لا من الأحكام الفقهية والشرعية. وفي هذه الموارد فإنّ المجتهد يستنبط أحكاماً اُصولية، وعليه فبناءً على تعريف الميرزا القمي لا ينبغي للمكلّف أن يقلد المجتهد في هذه المسائل، فالشخص الذي لا يرى حجيّة الاستصحاب فإنّه لا يجوز له تقليد الفقيه الذي استنبط حجيّة الاستصحاب، لأنّ استنباط حجيّة الاستصحاب واستنباط حجيّة الخبريين المتعارضيين لا يقع في دائرة الأحكام الشرعية. وهذا وهذا الاختصاص بلا وجه وخلاف الاطلاق.

وهناك إشكال رابع سيأتي إن شاء اللّه‏.

اشتراط القوة القدسية والعدالة:

ومن جملة الإشكالات الواردة على تعريف الميرزا القمي هي أنّه يشترط وجود قوة قدسية وعدالة في تعريف الاجتهاد، وهذا الشرط غير تام، لأنّه يمكن القول : إنّ المجتهد كما أنّه بإمكانه أن يكون عادلاً فكذلك بإمكانه أن يكون فاسقاً أو كافراً. فالفاسق بإمكانه أن يدرس في الحوزة العلمية ويحقق في الأدلة النقلية والعقلية ويستنبط الحكم الشرعي منها، مثلاً في مورد اجتماع الأمر والنهي وفي مورد الاستلزامات العقلية والاستصحاب وتعارض الأدلة وأحوال الأدلة والاجماع وأمثال ذلك فهذه كلّها قواعد مذكورة في علم الاُصول وتعتبر من المبادئ التصديقية للفقه حيث يعمل المجتهد على استنباط الأحكام الشرعية منها، مثلاً بالنسبة لأدلة البراءة الشرعية والآيات التي تقول : (وما كنا معذبين حتّى نبعث رسولا) وفي حديث الرفع والروايات التي تقول : «كلّ شيء حلال حتّى يرد فيه النهي» وكذلك بالنسبة للاستصحاب وقواعده يستطيع هذا الشخص أن يدرسها ويصير مجتهداً ويستخرج من هذه القواعد حجيّة البراءة عقلاً ونقلاً وحجيّة الاستصحاب كذلك ويرتّب عليها الآثار الفقهية سواءً في الشبهة الحكمية أم في الشبهة الموضوعية (وهكذا في قاعدة الفراغ، واليد، و...).

إذن ففي الاجتهاد لا يشترط وجود القوة القدسية، وإلاّ فإنّ اللّه‏ تبارك وتعالى لا يمنح القوّة القدسيّة للفاسق والعاصي والكافر وقد ورد ذلك في آيات متعددة من القرآن الكريم :

«وَاللّه‏َ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الفَاسقِينَ»«إِنَّ اللّه‏َ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (4) . «إِنَّ اللّه‏َ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» (5)

والدليل على أنّ القوة القدسية لا تمنح للفاسق والعاصي أنّها بحثت في شرائط الاجتهاد وهل أنّ القوة القدسية والعدالة من شروط المجتهد، أو أنّ العدالة ليست شرطاً للمجتهد ؟ لأنّ المفتي والقاضي أعمّ من العادل وغير العادل. والميرزا القمي والشهيد الأوّل ذهبا إلى اعتبار القوة القدسية في المجتهد، وطبعاً فالقوّة القدسيّة أخصّ من العدالة وهي مقام أسمى من مقام العدالة، ولكن يمكن استظهار أنّ وجود القوّة القدسيّة لا يعتبر شرطاً في المجتهد والاجتهاد، بل إنّ القوّة القدسيّة والعدالة شرط تنفيذ ولاية المجتهد لا أنّها شرط لأصل تحقق الاجتهاد، فربّما يكون الشخص كافراً وفاسقاً ولكنه مجتهد ومحقق في الفنون العلمية.

شرط التنفيذ:

نعم، العدالة شرط لنفوذ ولاية المجتهد وشرط لنفوذ قضاوة القاضي، ولا يمكن تنفيذ هذه المناصب الإلهيّة من الولاية والقضاوة من الفاسق والظالم : «وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ...» (6) و «وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ» (7) و «لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (8) .

القرآن الكريم ينهى بصراحة عن الركون والميل إلى الظالم، بل إنّه يوءكد ويشدد على هذا النهي بحيث أن أدنى درجة من الميل والركون إلى الظالم يتسبب في استحقاق العذاب حيث وعد اللّه‏ تعالى نار جهنم على مجرد الركون إلى الظالم، فكيف الحال إذا صار الإنسان بنفسه ظالماً وفاسقاً وكافراً ؟ إذن كيف يمكن أن يضع اللّه‏ تعالى مقام الولاية ومنصب الهداية الإلهيّة باختيار الفاسق والظالم الذي من شأنه أن يزيد من ظلمه وعناده وتمرده ويدعو الناس إلى طريق الظلم والكفر والضلالة. وحينئذٍ كيف يمكن القول بأنّ هذا الظالم أو الفاسق مجتهد وأنّ قوله واجب الإطاعة ويجب العمل به ؟ وكيف يتفق ذلك مع الوعيد بالعذاب الشديد لمجرّد الميل والركون إلى الظالم مع قولنا بوجوب العمل بقوله وإطاعته ؟ أليس هذا من التناقض، وهل يعقل وجود هذا التناقض في الوحي الإلهي ؟

وقد ورد في الروايات : «ولا تصلي خلف المحدود» هذا في حين أنّه قد أجري عليه الحدّ وكان هذا الحدّ كفّارة لمعصيته ولكن الروايات تنهى عن الصلاة خلفه مع أنّ مقام إمام الجماعة يعتبر مرتبة نازلة جدّاً من المناصب الشرعية حتّى أنّ النساء يمكنهن أن يتولين هذا المنصب للمأمومات من النساء، وحينئذٍ كيف يمكن القول بجواز ولاية الفاسق على الأحكام الشرعية؟

وطبعاً سيأتي في المباحث اللاحقة بيان وتوضيح أكثر إن شاء اللّه‏ لهذه المسألة وفي بحث شرائط المجتهد، ولكننا في هذا البحث نستعرض وجوه النقد على نظرية وتعريف الميرزا القمي حيث اشترط توفر القوّة القدسية في الاجتهاد.

وعلى أيّة حال فإنّ الفاسق ليست له ولاية أبداً على الأحكام وعلى أخذ الأخماس والزكوات ومقام القضاء الإلهي، لأنّ الولي وحاكم المسلمين يجب أن يكون أمين اللّه‏ وأمين دين اللّه‏ وحافظ دين المسلمين، والفاسق لا أمانة له في الدين والشارع المقدس لم يوءيد عمل الفاسق في أي من الموارد حتّى في مورد قبول أعماله في العبادات والمعاملات الشخصية، فإذا صلّى الفاسق أو أدّى معاملة شرعية اُخرى، فإنّها لا تكون مقبولة في الواقع عند اللّه‏ تعالى وإن كانت صلاة هذا الفاسق أو الظالم صحيحة في ظاهر الشرع ولا يجب عليه إعادتها وقضاءها، ولكن عمله لا يكون مقبولاً عند اللّه‏ تبارك وتعالى كما يصرح القرآن في ذلك : «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه‏ُ مِنْ الْمُتَّقِينَ» (9) وهذا من قبيل عبادات الزوجة الناشزة فصلاتها وإن كانت صحيحة حسب الظاهر والشرع ولا يجب عليها القضاء والإعادة، ولكنها بحسب الواقع غير مقبولة عند اللّه‏، أو الأعمال العبادية والمعاملاتية للمخالفين من غير أتباع أهل البيت عليهم‏السلام حيث لا يترتب على أعمالهم القبول.

عندما كان إبراهيم الخليل يبني الكعبة، قال بعد فراغه منها : «رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (10) .

على أيّة حال فإنّ صحة الأعمال بحسب ظاهر الشرع غير قبول الأعمال، فربّما يكون العمل حسب الظاهر صحيحا شرعاً ولا يجب على الشخص القضاء أو الإعادة، فلو أنّ فاسقاً صلّى أو صام أو أدّى عملاً آخر فعمله هذا صحيح ويسقط التكليف من ذمّته ولا يجب عليه الإعادة والقضاء، ولكن هذا العمل لا يكون مقبولاً بحسب الواقع وعند اللّه‏ تعالى كما تقول الآية الشريفة: «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه‏ُ مِنْ الْمُتَّقِينَ»، «والعـاقِبَةُ لِلمتَّقِينَ»، و...

النتيجة: لا يجوز تصدي الفاسق لهذه المناصب الإلهيّة، فالفاسق والظالم منهي شرعاً وعقلاً عن التصدي لهذه الاُمور : «وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ» (11) و «وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ...» (12) و «لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (13) .

نقض الغرض وعدم قابلية القابل:

لا يجوز عقلاً وضع المناصب الشرعية في اختيار الفاسق، وعلى حدّ تعبير الفلاسفة: إنّ العقل لا يرى الفاسق قابلاً للتصدي لمقام الولاية الشرعية الإلهيّة، لأنّ الفاسق والظالم عاصٍ للّه‏ وغير أمين لحمل الأمانة الإلهيّة والدين الإلهي، فالشخص الذي يعصي الأوامر الدينية ويعمل على خلاف الأحكام الشرعية فكيف يمكن أن تكون له القابلية للتصدي لمقام الاجتهاد وهي مقام الولاية الشرعية، وطبعا فالمراد من الاجتهاد هو مقام الولاية له لا نفس الاجتهاد، وقد تقدّم أنّ الاجتهاد بنفسه غير مشروط بتحقق القوّة القدسيّة والعدالة، فربّما يدرس الفاسق الشديد الفسق في الحوزة العلمية ويصبح مجتهدا، ولكن مقام تنفيذ ولاية المجتهد والأحكام المترتبة على الاجتهاد مشترطة بالعدالة، وتنفيذ مقام ولاية الاجتهاد يستلزم وجود الأمانة والعدالة.

إذن فالفاسق شرعا وعقلاً ليست له القابلية للتصدي لمقام الولاية الإلهيّة ولا ينسجم ذلك مع حكمة الفاعل الحكيم، لأنّ وضع مقام الولاية الشرعية بيد الفاسق من شأنه اضلال الناس وتسليط الظالم على الدين والشريعة وعلى نفوس وأموال وأعراض الناس.

مضافا إلى أنّه يستلزم نقض الغرض وهو محال، إنّ اللّه‏ تبارك وتعالى إنّما يضع مقام الولاية ومقام بيان الأحكام الشرعية بيد من تكون له اللياقة لهداية المجتمع وانقاذ الناس من الضلالة والانحراف، وأمّا الفاسق الذي يترتكب المعاصي فإنّ يخون الدين ونواميس الدين، وعندما يتسلط على الناس فإنّه يقودهم إلى الضلالة والفسق وهذا من شأنه نقض للغرض، فمن جهة أنّ الشارع المقدّس وهو اللّه‏ تبارك وتعالى، العليم المطلق، القدير المطلق، الحكيم المطلق، الرحمن والرحيم المطلق، والهادي على الاطلاق، قد وضع مقررات وأحكام في الدين الإلهي من قبيل حرمة شرب الخمر، القمار، الظلم، التبرج والأعمال المنافية للعفة و...

ومن جهة أخرى يبعث ظالما يحلل المحرمات الإلهيّة ويقول للناس إنّ شرب الخمر حلال أو التبرج لا مانع منه، والزنا جائز كما نرى هذا الوضع في مجتمعات الشرق والغرب حيث إنّ الخونة والظالمين يعملون على تحليل حرام اللّه‏ وتحريم حلال اللّه‏، فبالضرورة و القطعية والدينية والبرهانية فإنّ الفاسق ليست له القابلية لمقام الولاية الإلهيّة نقلاً وعقلاً، فإنّ مثل هذا التصدي لهذا المقام لا ينسجم مع قابلية القابل ولا مع فاعلية الفاعل الحكيم.

ونستنتج من ذلك أنّ المرزا القمي الذي يشترط توفر القوّة القدسّية في الاجتهاد إنّما هو من حيث ترتب أحكام الاجتهاد، لا بلحاظ أصل تحقق الاجتهاد وأنّ هذا الشرط والقوّة القدسيّة في المجتهد إنّما هي بلحاظ وجود نفوذ الولاية والقضاء والشهادة وإمامة الجمعة والجماعة للمجتهد لا أنّه لا يحصل له الاجتهاد بدون قوّة قدسيّة، فحصول الاجتهاد غير مشروط بوجود القوّة القدسيّة في المجتهد، طبعا القوّة القدسيّة أخص من العدالة وأسمى منها كما تقدّم، والعدالة شرط لنفوذ حكم المجتهد وشرط لترتب أحكام الولاية والقضاء للمجتهد.

ومن جملة الأدلة على اشتراط العدالة هو الكلام المعروف على لسان العلماء والمذكور في كتب الأصوليين أنّه في مورد تعارض الأدلة يكون الترجيح لما خالف العامة، بمعنى أنّه إذا حكم الحاكم بحكم معين، أو كانت هناك روايتان متعارضتان فإذا كانت أحدهما موافقة للعامة والأخرى مخالفة فإنّ الرواية الثانية ترجح على الأولى، لأنّ الإمام لمعصوم عليه‏السلام قال:«الرشد في خلافهم»أي في مخالفة العامة، وسبق أن ذكرنا أنّه عندما سأل الراوي من الإمام عليه‏السلام أنّه يعيش في بلد لا يوجد فيه من الشيعة أحد فما هي وظيفته وكيف يمكنه تحصيل الحكم الشرعي؟ قال له الإمام عليه‏السلام : سل من فقيه البلد ثم إعمل على خلافه والرشد في خلاف قوله. وهذا دليل على أنّ المجتهد الفقيه لو لم يكن عادلاً فإنّ قوله لا يترتب عليه أثر شرعا من إعمال الولاية والقضاء والافتاء ولو كان عمل ذلك العامي «من أهل السنّة» مورد إمضاء الشارع حيث توجد قاعدة فقهية تدعى قاعدة الالزام: «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم» (14) .

النتيجة: أنّ تحقق القوّة القدسيّة في العدالة ليست شرطا في تحقق الاجتهاد، ولكن العدالة شرط في مورد تنفيذ حكم المجتهد، فالمجتهد لو لم يكن عادلاً ولم يكن يتمتع بالملكة القدسيّة والعدالة فإنّ حكمه وقضاءه وافتاءه وإمامته للجمعة والجماعة لا أثر لها شرعا وليست له الولاية على أخذ الأخماس والزكوات وحضور الشهادات وغير ذلك.

التعريف الخامس:

وهذا التعريف للاجتهاد هو ما طرحه المرحوم آية اللّه‏ الخوئي رحمه ‏الله حيث قال: «والصحيح أن يعرف الاجتهاد باستفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الأحكام الشرعية أو تعيين الوظيفة عند عدم الوصول إليها والاجتهاد بهذا المعنى ممّا لا مناص عن الالتزام به للأخباري والأصولي، فلا وجه لاستحاش الأخباري عنه غاية الأمر أنّه ينازع في حجّية ما يراه الأصولي حجّة» (15) .

وهكذا نرى أنّه ذكر في هذا البيان تعريفين للاجتهاد:

1 ـ إنّ الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة على الأحكام الشرعية الواقعية والظاهرية.

2 ـ الاجتهاد عبارة استفراغ الوسع لتعيين الوظيفة للمكلّف.

ولازم الشق الثاني من التعريف الوارد في مصباح الأصول شمول الاجتهاد لموارد العلم بالأحكام الواقعية والعلم بالأحكام الظاهرية، كالاصول العملية، البراءة الشرعية، قاعدة الحل، قاعدة الطهارة و... ولكن الإشكال الذي يرد على هذا التعريف أنّ هذا التعريف يخرج موارد الطرق والامارات عن دائرته، لأنّ الشق الثاني من التعريف يقرر أنّ الاجتهاد عبارة عن تعيين الوظيفة في مورد لا يمكن للمكلّف تحصيل الحجّة وهذا البيان يشمل الحكم الفعلي والظاهري وجعل الحكم الظاهري في الأصول العملية لا في مورد الطرق والامارات وخبر الواحد، على أساس في اعتبار الطريقية والكاشفية في مورد الامارات.

إذن قوله أنّ الاجتهاد عبارة عن العلم بالواقع في مورد الأحكام الشرعية ومورد الطرق والامارات لا يكون علما بالأحكام الشرعية، وبهذا يخرج مورد امارات علمية بالأحكام من هذا التعريف وينحصر الواقع بمورد القطع بالأحكام الشرعية.

النتيجة: على أساس الشق الثاني من تعريف مصباح الأصول أنّ هذا التعريف غير جامع للأفراد، فإذا حصل للمكلّف العلم بالأحكام الشرعية من طريق الامارات وخبر الواحد فإنّ ذلك يخرج عن دائرة هذا التعريف وينحصر هذا التعريف بمورد العلم الوجداني بالأحكام الواقعية والعلم الظاهري بالحكم والأصول العلمية.

وأمّا الشق الأول من التعريف حيث قال إنّ الاجتهاد عبارة عن تحصيل الحجّة على الأحكام الشرعية، فإنّ الإشكال الثاني الوارد على الشق الثاني من التعريف لا يرد على الشق الأول منه، لأنّ العلم بالطرق والامارات علم بالحجّة على الأحكام الواقعية، وذلك على أساس الطريقية والكاشفية، ولكن يرد عليه إشكال آخر أنّه لا وجه للترديد في التعريف بأنّ الاجتهاد عبارة عن تعيين الوظيفة، أو تحصل الحجّة، لأنّ الوظيفة بذاتها من مصاديق الحجّة لا أنّها تكون في مقابل الحجّة.

وقد ذكر المصنّف في الجزء الأول من المحاضرات الصفحة 10، عندما تعرض لتعريف علم الأصول قال: علم الأصول عبارة عن ذلك العلم الذي يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية بل المراد به «الاستنباط» معنى جامع بينه وبين غيره وهو الإثبات الجامعة بين أن يكون وجدانيا أو شرعيا أو تنجيزا أو تعذيرا فالمسائل المذكورة تقع في طريق الاستنباط...».

فكون الاستنباط أعم من العلم والعلمي والتنجيز والتعذير وكلها تشترك في جامع المنجزية والمعذرية والحجيّة، والفقيه محصل للحجّية على الأحكام الشرعية أعم من كونها حجّة للعلم بالأحكام الواقعية أو عدم العلم بالأحكام الواقعية فهي حجّة منجزة ومعذرة للواقع كموارد الأصول العملية، والبراءه النقلية والعقلية، وخبر الواحد، فجميع هذه الموارد إمّا منجزة للأحكام للمجتهد في صورة اصابته للواقع أو تكون معذرة للمجتهد في صورة عدم اصابة الواقع، والغرض من علم الأصول هو تحصيل الحجّة على الأحكام الإلهيّة والمجتهد محصل للحجّة، غاية الأمر أنّ الحجيّة تارة تكون ذاتية، مثل العلم الوجداني بالحكم، وأخرى تكون الحجيّة اعتبارية وجعلية من قبيل حجية الإمارات والأصول العلمية، فمع وجود العلم الوجداني لا يصل الدور إلى الإمارات والأصول العملية، لأنّ مورد الإمارة والأصول العملية هو الشك في الواقع وأمّا في حال وجود العلم الوجداني والقطع بالحكم فهنا لا يوجد شك بالحكم.

النتيجة: أنّ الجامعية والمعذرية والمنجزية كلها تشترك في مورد العلم بالواقع وكذلك في مورد الامارة والطرق والأصول العملية نقلاً وعقلاً، ووظيفة الفقيه تحصيل الحجّة على الأحكام الشرعية وهذه كبرى كلية وجميع هذه الموارد سواء مورد العلم الوجداني أم مورد الطرق والامارات أم مورد الأصل العملي هي مصاديق الحجّة، وعلى هذا الأساس لا وجه للترديد في تعريف الاجتهاد بالكيفية التي ذكرها لأنّ جميع تلك الموارد من مصاديق الحجّة سواء العلم الوجداني أو الإمارة أو الأصول العملية.

التعريف السادس:

وعرّف المرحوم الآخوند الاجتهاد بأنّه عبارة عن: «استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي، وكيف كان فالأولى تبديل الظن بالحكم بالحجّة عليه» وعلى أساس هذا التعريف تكون موارد العلم و العلمي و الاصول العملية كلهامن مصاديق الحجة.

و من نقاط القوّة في هذا التعريف انّه يزيل جميع الاختلافات بين فقهاء الشيعة والسنّة، والإخباريين والأصوليين في مورد الاجتهاد، لأنّ هذا التعريف يقول: الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع في تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي، وهذا البيان ينطبق على جميع موارد القواعد الأصولية أعم من العلم والعلمي، ومن الأدلة النقلية و العقلية، لأنّ جميع هذه الموارد تكون من مصاديق الحجّة ويكون النزاع صغرويا، لأنّ أصل الكبرى وهي تحصيل الحجّة يتفق عليها الأصوليون والإخباريون، والعامة والخاصة.

إنّما نزاع في مصداق هذه الحجّة ومصداق الحجيّة، مثلاً يقول الأصوليون إنّ الاستصحاب هو من مصاديق الحجّة على الحكم الشرعي، أمّا الإخباريون فيقولون: إنّ الاستصحاب ليس بحجّة وليس من مصاديق الحجّة للحكم الشرعي، وأهل السنّة يقولون:إنّ الظنّ الحاصل من القياس من مصاديق الحجيّة، وأمّا فقهاء الشيعة فيقولون: إنّ الظن الحاصل بالقياس ليس بحجّة وبالتالي ليس من مصاديق الحجيّة.

الحاصل ممّا ذكره صاحب الكفاية في مورد الاجتهاد قوله: «ومنه قد انقدح أنّه لا وجه لتأبي الأخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى، يعني تحصيل الحجيّة فإنّه لا محيص عنه كما لا يخفى، غاية الأمر له (يعني للأخباري) أنّ ينازع في حجّية بعض ما يقول الأصولي باعتباره ويمنع عنها وهو غير جائز بالاتفاق على الحجيّة الاجتهاد بذلك المعنى يعني تحصيل الحجّة، ضرورة أنّه ربّما يقع بين الأخباريين كما وقع بينهم وبين الأصوليين».

النتيجة: إنّ الاجتهاد على أساس هذا التعريف هو عبارة عن تحصيل الحجّة على الأحكام الشرعية فهذه الكبرى مسلّمة بين الأصوليين والإخباريين ويتفق عليها جميع الفقهاء، لا أنّ الإخباريين يخالفون الاجتهاد بالمعنى المذكور، لأنّ الإخباري والأصولي كلاهما يسعيان لتحصيل الحجّة، غاية الأمر أنّ النزاع في تعيين مصداق الاجتهاد والحجّة كما تقدم.

كما أنّ هذا النزاع موجود بين الإخباريين أنفسهم فبعضهم ذهب إلى أنّ مطلق نقل الروايات حجّة، سواء كان نقل الرواية عن المعصوم بلاواسطة أو مع الواسطة، وسواء كانت الرواية صحيحة السند أم غير صحيحة، ولكنّ بعض الإخباريين يقولون إنّ الرواية الحجّة هي الصحيحة من الدرجة الأولى.

وعلى أساس بيان المرحوم الآخوند وبيان مصباح الأصول يمكن القول بإمكانية الجمع بين الإخباريين والأصوليين في مورد الاجتماع وفي مورد الاجتهاد، حيث إنّهم يتفقون في أصل كبرى الاجتهاد ولا خلاف بينهم في هذه المسألة، فكلا الطائفتين يشترطون وجود الحجّة في مورد الحكم الشرعي وهذا هو معنى الاجتهاد، وإنّما النزاع في هل أنّ الظنّ الحاصل من الاستصحاب يعتبر مصداقا وصغرى لتلك الكبرى للحجّية كما ذهب إلى ذلك الأصوليون، أو أنّ الظن الحاصل للاستصحاب ليس مصداق تلك الكبرى كما ذهب إلى الإخباريون؟ والنزاع الصغروي لا يخل بأصل الكبرى المتفق عليها وحجّية الاجتهاد.

نقد ومناقشة:

أولاً: الإشكال الذي يمكن إيراده على بيان الآخوند رحمه‏الله في تعريف الاجتهاد أنّه يقول في تعريف علم الأصول: بأنّه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي أو الذي ينتهي إليه «المجتهد» في مقام العمل (16) ، وكما يقول المرحوم الكمباني: أنّ لازم هذا التعريف أنّ علم الأصول مركب من علمين، لأنّه على أساس هذا التعريف يوجد غرضان لعلم الأصول أحدهما استنباط الحكم الشرعي، والآخر تعيين وظيفة المكلّف في مقام العمل عند الشك في الحكم الواقعي، و لاسيما أنّ مبنى الآخوند رحمه‏الله نفسه هو أنّ امتياز العلوم بالأغراض يعني أنّ الفارق بين مسألة تبحث في علم معين ومسألة أخرى في تبحث في علم آخر إنّما هو بلحاظ تعدد الغرض من مسائل هذين العلمين، مثلاً بحث الاستصحاب يعد من مسائل علم الأصول، وغرض علم الأصول عبارة عن استنباط الحكم الشرعي فإذا بحثت مسألة الاستصحاب في علم الفقه فإنّما هو لتحقيق هذا الغرض وهو استنباط الحكم الشرعي وفي هذه الصورة لا يكون الاستصحاب من مسائل العلمين، وإن بحث في كلا العلمين، أي علم الأصول وعلم الفقه، ولكن بما أنّ الغرض واحد من بحث هذه المسألة وأنّ الغرض من الاستصحاب في كلا هذين العلمين هو استنباط الحكم الشرعي ولذلك تكون المسألة من مسائل علم واحد باعتبار وحدة الغرض، ولكن إذا بحث الاستصحاب في علم الأصول بلحاظ استنباط الحكم الشرعي وبحث في علم الفقه بلحاظ فعل المكلّف والفوز بالعليين فالغرض متعدد، وعندما يكون الغرض متعددا يكون الاستصحاب من مسائل العلمين أي من مسائل علم الأصول ومن مسائل علم الفقه باعتبار تعدد الغرض.

وطبعا هذا البحث بحاجة لتوضيح أكثر حيث تبحث هذه المسألة في أوائل علم الأصول، ولكن هنا نشير إلى إشكال المرحوم الكمباني حيث  أشكل على الآخوند رحمه‏ الله أنّه على أساس هذا التعريف يلزم منه أن يكون الاجتهاد مركب من علمين بلحاظ تعدد الغرض.

على أية حال فإنّ المرحوم الآخوند رحمه‏الله يرى أنّ الاجتهاد عبارة عن تحصيل الحجّة على الأحكام الشرعية، غاية الأمر أنّ الحجيّة لذلك الشيء تارة تكون ذاتية كالعلم الوجداني بالحكم وأخرى تكون الحجيّة أمرا اعتباريا كما في الأمارات والأصول العملية.

ثانيا: الإشكال الآخر الوارد على تعريف الآخوند رحمه‏الله هو: هل أنّ قول المجتهد الانسدادي حجّة في الأحكام الشرعية أو غير حجّة؟ فإذا كان قول الانسدادي في مورد الأحكام الشرعية حجة فسوف يشمله تعريف الآخوند، لأنّ المجتهد الانسدادي حاله حال المجتهد الانفتاحي يملك قوله الحجيّة في الأحكام الشرعية، ولكن إذا لم يكن قول المجتهد الانسدادي حجّة في الأحكام الشرعية لأنّه يعتقد أنّ باب العلم والعلمي مسدود، فعليه لا يشمله تعريف المرحوم الآخوند للاجتهاد.

الجواب: بالايجاب فقول المجتهد الانسدادي حجة في الأحكام الشرعية سواء على الحكومة أو على الكشف، غاية الأمر إنّ تعريف الفقيه لا يشمل المجتهد الانسدادي بمعنى أنّ اطلاق الفقاهة على المجتهد الانسدادي لا وجه له، لأنّه يرى أنّ باب العلم والعلمي مسدود ومعنى الفقاهة عبارة عن فهم العلوم الشرعية والعلوم الإلهيّة، وعندما يكون باب العلم والعلمي مسدود فلا سبيل إلى فهم الأحكام الشرعية إلاّ بالمعجزة.

النتيجة: إنّ تعريف الآخوند الخراساني رحمه‏الله للاجتهاد مع كونه محل مناقشة وتأمل لكنّه أنسب التعاريف وأحسنها للاجتهاد وذلك بلحاظ ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أنّ المرحوم الآخوند لا يرى تعريف العلوم تعريفا حقيقيا بل تعريفا لفظيا واسميا، وهذا من آراء الآخوند في باب العلوم وأنّ تعريفها مجرّد بيان لفظي واسمي، مثلاً عندما نقوم بتعريف العام والخاص، المطلق والمقيد، المنطوق والمفهوم، الأوامر والنواهي، الصحيح والأعم، والحقيقة والمجاز، يقول المرحوم الآخوند: إنّ تعريف العلوم ليس تعريفا حقيقيا كما هو في التعريف الفلسفي الماهوي حتى يقال بأنّه مركب من جنس وفصل وما هو جنسه وما هو فصله، بل التعريف مجرّد شرح الإسم وتبديل لفظ بآخر، والتعريف الحقيقي يجب أن يتوفر فيه شرطان وجوديان وستة شروط عدمية: الشرط الوجودي هو أن يكون المعرِّف والمعرَّف متساويان من حيث المصداق، وأنّ المعرِّف أجلى من المعرَّف من حيث المفهوم، أمّا الشروط العدمية فهي أن لا يكون التعريف بالأعم، ولا بالأخص، ولا بألفاظ مشتركة، ولا بألفاظ غريبة، ولا بألفاظ مجملة.

أمّا التعريف اللفظي فهو عبارة عن تبديل لفظ بلفظ آخر ولا يلزم أن يكون واجدا للشروط الوجودية والعدمية للتعريف الحقيقي، مثلاً عندما يسأل شخص: ما هي السعدانة؟ الجواب، هي اسم لنبات خاص، ومعلوم أنّ النبات أعم من السعدانة وغير السعدانة، فهنا نرى أنّ هذا التعريف بالأعم ولكنّه تعريف لفظي والمراد منه شرح اللفظ وتبديل سعدانة بلفظ آخر، وفي التعريف اللفظي والاسمي لا مانع من التعريف الأعم.

وهكذا بالنسبة إلى تعريف العلوم حيث نعلم في الجملة أنّ مسائل علم الأصول غير مسائل علم الفقه، ومسائل علم الكلام غير مسائل علم المنطق، وهذا العلم في الجملة يعتبر أمورا ممّا تمتاز به مسائل علم الأصول بالنسبة لعلم النحو وعلم الكلام وعلم الفقه حيث يكفي هذا الفارق والامتياز، ولو لم يكن التعريف بالجنس والفصل الحقيقيان، ولو لم يكن التعريف بتمام المعنى مانعا عن الأغيار وجامعا للأفراد، فمجرّد أن نعلم في الجملة بأنّ الاجتهاد عبارة عن تحصيل الحجّة على الأحكام الشرعية يكفي، ودليل الآخوند على هذا المدعى وهو أنّ التعريف الحقيقي للأشياء غير ممكن يقول: أنّه لا أحد غير الباري تعالى يعلم بحنس وفصل الأشياء، لأنّ التعريف الواقعي والماهوي للأشياء عبارة عن بيان حقيقة وجود ذلك الشيء ولا يعلم حقيقة وجود الأشياء إلاّ اللّه‏ تعالى،وعندما لا يكون أحد عالما بحقيقة الأشياء سوى اللّه‏ تعالى فلا يمكن  لأحد أن يأتي بالجنس والفصل الواقعيان في تعريف ذلك الشيء، ولذلك يكفي التعريف اللفظي للأشياء وخاصة في تعريف العلم.

الأمر الثاني: تعريف الآخوند رحمه‏ الله يعتبر جامعا ومانعا بالنسبة للتعاريف الأخرى، لأنّ هذا التعريف يقول إنّ الاجتهاد عبارة عن تحصيل الحجّة وتحصيل الحجّة شامل لمورد العلم بالأحكام ومورد العلمي بالأحكام وهو الطرق والامارات وكذلك يشمل الأحكام الظاهرية والأصول العملية، خلافا للتعاريف الأخرى التي لا يشمل بعضها للأحكام العقلية وبعضها لا يشمل الأحكام الظاهرية، وبعضها لا يشمل العلم القطعي.

الأمر الثالث: إنّ تعريف المرحوم الآخوند للاجتهاد يفضي لايجاد مصالحة بين الإخباريين والأصوليين، وكذلك بين العامة الخاصة في مورد الاجتهاد، لأنّ كل هذه الطوائف تسعى لتحصيل الحجّة في الأحكام الشرعية وهذه الكبرى الكلية متفق عليها من قِبل الجميع وإنّما النزاع في الصغريات وفي مصداق الحجيّة.

وعلى أساس هذه الأمور الثلاثة يمكن القول إنّ تعريف الآخوند رحمه‏ الله للاجتهاد يعتبر بالنسبة للتعاريف الأخرى أحسن التعاريف.

النتيجة: كان البحث في التعريف الاصطلاحي للاجتهاد وقد ذكرنا تعاريف متعددة وتبيّن ممّا تقدم عدّة أمور:

الأمر الأول: ذكرنا ستة تعاريف للاجتهاد، وتمّ نقد ومناقشة هذه التعاريف، فأمّا تعريف الغزالي للاجتهاد فقد أوردنا عليه عدّة إشكالات عقلية ونقلية، أولاً: إنّ هذا التعريف يستلزم الدور حيث يتوقف الاجتهاد على معرفة المجتهد وبالعكس فمعرفة المجتهد يتوقف على معرفة الاجتهاد، لأنّ المجتهد بدون اجتهاد محال.

ثانيا: إنّ تعريف الغزالي لا يشمل الاستلزامات والاستنباطات العقلية، فلو أنّ المجتهد استنبط أحكاما في الاستلزامات العقلية من قبيل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، وأنّ اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ممكن، فمثل هذه الأحكام العقلية لا تدخل في تعريف الغزالي لأنّ الأحكام الشرعية ليست أحكاما عقلية.

الأمر الثاني: ذكرنا تعريف الحاجبي وأوردنا عليه عدّة إشكالات ونقود، فمن جهة يرد عليه إشكال الدور الوارد على تعريف الغزالي لأنّ الحاجبي عرّف الاجتهاد بأنّه عبارة عن بذل وسع الفقيه في تحصيل الظنّ بالأحكام الشرعية، إذن فالاجتهاد متوقف على الفقيه والفقيه عبارة أخرى عن المجتهد، وقلنا إنّ المجتهد بدون الاجتهاد غير ممكن، والفقيه يتضمن الفقاهة وهذا هو الدور، ومن جهة أخرى فإنّ هذا التعريف لا يشمل الأحكام العقلية أيضا بالبيان المتقدم.

الأمر الثالث: ذكرنا تعريف الشيخ البهائي للاجتهاد في «زبدة الأصول»، حيث عرّف الاجتهاد بأنّه عبارة عن ملكة للمجتهد يستطيع بواسطتها استنباط الحكم الشرعي، وقلنا إنّ هذا التعريف يواجه إشكالات من جهات عديدة:

أولاً: إنّ هذا التعريف لا يشمل الأحكام العقلية، لأنّه يقول إنّ الاجتهاد عبارة عن حصول الملكة للمجتهد يستطيع بواسطتها استنباط الأحكام الشرعية، إذن فالإستنباط العقلي خارج عن هذا التعريف، والحال أنّ المجتهد في علم الأصول يبحث عن المؤمّن من العقاب، والمؤمّن من العقاب أعم من الأحكام الشرعية والأحكام العقلية.

ثانيا: إنّ الاجتهاد عدل الاحتياط والتقليد، ولكنّه في هذا التعريف يقول: إنّ الاجتهاد عبارة عن ملكة، والملكة أمر باطني نفساني، والاحتياط والتقليد أمران عمليان لا أنّهما أمران باطنيان ونفسانيان، وعليه فإنّ هذا تعريف يخرج الاجتهاد عن كونه عدلاً وقسيما للاحتياط والتقليد في رتبة العمل.

ثالثا: إذا كان الاجتهاد عبارة عن ملكة نفسانية، فالملكة لا تلازم فعلية استنباط الحكم الشرعي، فربّما يكون الشخص واجدا لملكة الاستنباط ولكنّه لا يتحرك على مستوى العمل والفعل لاستنباط الحكم الشرعي، والشخص الذي لا يعمل على استنباط الحكم الشرعي لا وجه لاطلاق كلمة الاجتهاد عليه.

الأمر الرابع: ما ورد في تعريف المرزا القمي للاجتهاد، حيث قال: إنّ الاجتهاد عبارة عن استفراغ الوسع لتحصيل الحكم الشرعي من أدلة الأحكام، وهذا التعريف وقع أيضا مورد النقد والمناقشة لأنّه أولاً: إنّ هذا التعريف لا يشمل الأحكام العقلية، لأنّ الحكم العقلي ليس حكما شرعيا بالبيان الذي تقدّم ذكره.

ثانيا: إنّ هذا التعريف يشمل المجتهد المتجزي أيضا وهو أعم من المدعى، فالمدعى هو تعريف المجتهد المطلق لا تعريف المجتهد المتجزي، وهذا التعريف يشمل المجتهد المطلق والمجتهد المتجزي أيضا ولذلك فهو أعم من المدعى.

ثالثا: إنّ هذا التعريف يستلزم تخصيص أدلة جواز التقليد في الأحكام الشرعية فهو تخصيص بلا مخصص، فإذا استنبط شخص مسألة أصولية، مثلاً استنبط حجّية الاستصحاب، ومعلوم أنّ حجّية الاستصحاب من المسائل الأصولية لا من المسائل الفقهية والفرعية، فالشخص الذي يعمل على تقليد المجتهد في مسألة أصولية كحجّية الاستصحاب فلا مانع من ذلك، لأنّ ذلك مشمول لأدلة جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم.

رابعا: قال في تعريفه أنّه يعتبر في الاجتهاد توفر القوّة القدسيّة الإلهيّة والعدالة، وهذا كلام ليس له وجه، فلا يشترط في الاجتهاد توفر القوّة القدسية والعدالة، لأنّه من الممكن أن يدرس الفاسق أو الكافر في الحوزة العلمية ويصير مجتهدا ولكنّ العدالة شرط في تنفيد حكم المجتهد، فلو لم تتوفر ملكة العدلة فلا نفوذ لحكمه شرعا لا أنّ العدالة شرط في أصل وجود وتحقيق الاجتهاد، وعلى هذا الأساس فإنّ تعريف الميرزا القمي يواجه هذه الإشكالا الأربعة.

الأمر الخامس: ما ورد من تعريف الاجتهاد في «مصباح الأصول والمحاضرات» وتقدّم وجه النقد والمناقشة على هذا التعريف وأنّه على أساس هذا التعريف لا تدخل فيه موارد استنباط الحكم الشرعي من الامارات والطرق الشرعية، لأنّ الامارات حجّة علمية لا أنّها مورد العلم ولا أنّها جعل الحكم الظاهري والأصول العملية، إذن فالتعريف الوارد في المحاضرات ومصباح الأصول يشمل العلم بالأحكام الشرعية أو جعل الحكم الظاهري في هذا المورد وهو عبارة عن الأصول العملية. وأمّا الإمارات والطرق فهي خارجة عن تعريف مصباح الأصول والمحاضرات في صورة جعل الطريقية والكاشفية عن الواقع في مورد الامارات، لأنّ الامارات أمر علمي بالواقع لا أنّها علم بالواقع

الأمر السادس: ذكرنا تعريف المرحوم الآخوند للاجتهاد وقد ذكرنا أنّه هو المختار للملاحظات الثلاث ونقاط القوة التي يمتاز بها عن التعاريف الأخرى.

قال اللّه‏ تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَـوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَا كِعُونَ» (17)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 . المستمسك، ج1، ص 9.
2 . وسائل الشيعة، ج18، ص 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1.
3 . عناية الأصول، ج6، ص 162؛ كفاية الأصول، ج2، ص 463.
4 . سورة المائدة، الآية 50.
5 . سورة المائدة،الآية 67.
6. سورة هود، الآية 113.
7 . سورة الشعراء، الآية 151.
8 . سورة البقرة، الآية 124.
9 . سورة المائدة، الآية 27.
10. سورة البقرة، الآية 127.
11 . سورة الشعراء، الآية 151.
12. سورة هود، الآية 113.
13 . سورة البقرة، الآية 124.
14. وسائل الشيعة، ج 15، من أبواب مقدماته وشرائطه، ح 5.
15. مصباح الأصول، ج4، ص 521.
16 . كفاية الأصول، ج1، ص 9 طبع مؤسسة آل البيت عليهم‏ السلام .
17. سورة المائدة : الآية 55.