الفصل السادس

الاجتهاد المطلق والمتجزي والأحكام المترتبة عليهما


المجتهد المتجزي

كان البحث يتعلق بالأحكام المترتبة على المجتهد المطلق من حيث حجيّة فتواه وجواز رجوع الغير إليه وتقليده، وكذلك نفوذ ولايته وقضاءه، فالمجتهد المطلق تترتب عليه جميع هذه الأحكام المذكورة، والآن نبحث في الأحكام المترتبة على المجتهد المتجزي القادر على استنباط بعض الأحكام الشرعية، والبحث في المتجزي يتمّ من عدّة جهات :

1 ـ البحث في امكان وعدم امكان التجزي في الاجتهاد.

2 ـ البحث في ترتب الأحكام على المتجزي وهل يحرم عليه تقليد مجتهد آخر أو لا ؟

3 ـ هل يجوز تقليد الغير له أو لا ؟

4 ـ البحث في نفوذ قضاءه وعدم نفوذه.

5 ـ البحث في نفوذ ولايته وعدم نفوذها.

أمّا البحث في الجهة الاُولى فالوارد في تعريف الاجتهاد أنّه عبارة عن ملكة استنباط الأحكام الشرعية، وكما تقدّم سابقاً في التعاريف الستة للاجتهاد ومنها تعريف الشيخ البهائي أنّ الاجتهاد عبارة عن ملكة وأمر بسيط نفساني وهو من مقولة الكيف النفساني وعليه فإنّ الاجتهاد عبارة عن ملكة نفسانية وأمر بسيط لا يقبل القسمة والتجزي، وبما أنّه أمر بسيط فإنّه يدور بين الوجود والعدم، فلو تحققت علته فإنّ ذلك الأمر البسيط سيتحقق وينوجد في الخارج وإلاّ فلا، ومن هنا لا يمكن القول بوجود تفكيك بين عناصر الأمر البسيط ولا يمكن القول بأن بعضه موجود والبعض الآخر معدوم، السوءال إذن : هل أنّ الاجتهاد قابل للتجزي أو غير قابل ؟ فباعتبار أنّه ملكة نفسانية أمرا بسيطا ليس قابل للتجزي، فالبحث في تجزي الاجتهاد وعدمه باعتبار متعلق ملكة الاجتهاد ومواردها، فبهذا اللحاظ يمكن القول بإمكانية تقسيم الاجتهاد، إذن فملكة الاجتهاد باعتبار كونها ملكة نفسانية قابلة للشدّة والضعف وقابلة للتكامل والزيادة والنقصان، وإن كانت غير قابلة للتقسيم.

وأمّا التجزي في الاجتهاد باعتبار التوسعة والتضييق وباعتبار متعلق ملكة الاجتهاد فهو قابل للتحقق، ومن الواضح اختلاف المعلوم واختلاف المقدور من حيث القلة والكثرة، مثلاً العلم والقدرة للمجتهد على الاستنباط في المسائل العقلية غير علمه وقدرته في المسائل الشرعية، وهكذا قدرة المجتهد العلمية في المسائل الاُصولية تختلف عن علمه وقدرته في استنباط المسائل الفرعية والشرعية، فربّما يكون المجتهد قادرا على الاستنباط في المسائل والاستلزامات العقلية من قبيل اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد هل يمكن أو لا ؟ وهل أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده أم لا ؟ وهل توجد ملازمة بين وجوب للمقدمة أو وجوب المقدمة، أو لا ؟ وهل هناك ملازمة بين الوجوب وعدم الحرمة، أو لا ؟ فبإمكانه استنباط الأحكام الفرعية والشرعية من هذه القواعد، فلو كان يعتقد بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد، فعلى هذا الأساس يقول بصحّة الصلاة في المكان المغصوب حيث يجتمع الأمر بالصلاة والنهي على التصرف الغصبي في هذا المورد.

وإذا كان يرى امتناع اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد عقلاً لأنّه يستلزم اجتماع الضدين وفيه استحالة ذاتية، فإنّ الحكم الفرعي والفقهي المترتب على ذلك عدم صحّة الصلاة في المكان المغصوب وفساد العبادة. أو إذا اعتقد المجتهد بحجيّة أو عدم حجيّة الاستصحاب في المسائل الاُصولية وكان قادراً على استنباط حجيّة الاستصحاب في جميع الموارد، سواءاً في مورد الشك في المقتضي أم الشك في الرافع والمانع وأيضاً في مورد الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية، ففي جميع هذه الموضوعات والمسائل الاُصولية يملك المجتهد القدرة على استنباط الأحكام الشرعية المترتبة عليها، وهكذا بالنسبة للمسائل الفرعية من أحكام الطهارة والنجاسة والحجّ والزكاة والصلاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

النتيجة: إذا قلنا أنّ الاجتهاد قابل للتجزية فإنّ إمكان المجتهد المتجزي يكون له وجه، وهذا يعني القول بإمكان التوسعة والتضييق في متعلق الاجتهاد ومتعلق الاستنباط لا أن علم المجتهد ونفس ملكة الاستنباط التي هي كيف نفساني وأمر بسيط قابلة للتجزي والتقسيم، فالمقصود هو متعلق المعلوم وهو متعدد، فيمكن للمجتهد أن تكون له القدرة على الاستنباط في المسائل الاُصولية، وليس له قدرة على الاستنباط في المسائل الشرعية، وهكذا في أبواب فقهية مختلفة فربّما يكون متعلق الاجتهاد الأحكام الشرعية في أبواب الطهارة والنجاسة والصلاة ويكون قادراً على استنباط الحكم الشرعي فيها، ولكنه غير قادر على الاستنباط في أبواب اُخرى كباب الصوم والأخماس والزكوات والحجّ والجهاد، إذن فمن يقول بإمكان التجزي في الاجتهاد فهو ناظر إلى اعتبار التوسعة والتضييق في متعلق الاجتهاد.

المبنى الآخر يقول بعدم إمكان التجزي في الاجتهاد، ويقول : إذا استنبط المجتهد المتجزي حكم طهارة أهل الكتاب، وفي مقابله مجتهد مطلق استنبط نجاسة أهل الكتاب ومسائل اُخرى، فربّما لا يملك ذلك المجتهد المتجزي التسلط والهيمنة على جميع أبواب الفقه، وتكون هناك قرينة ورواية في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في باب الحجّ أو في باب الجهاد على خلاف ما افتى به من الحكم واستنبطه في باب الطهارة والنجاسة، وعليه فبمقتضى وجود قرينة ورواية على الخلاف فإنّه ينبغي عليه تغيير فتواه، وعندما تكون مثل هذه الفتوى في معرض التغيير فإنّ استنباطه فيما يتصل في باب الطهارة والنجاسة لا يكون تاماً، لأنّه غير محيط بجميع أبواب الفقه. وحينئذٍ فما لم يكن المجتهد مجتهداً مطلقاً فاحتمال تغيير رأيه وفتواه موجود.

الحاصل: إنّ استنباط المجتهد المتجزي لحكم شرعي في باب خاصّ غير تام، لأنّه يحتمل دائماً وجود قرينة على خلاف استنباطه في أبواب اُخرى من الفقه.

الجواب: أوّلاً: تقدّم أنّ المتجزي عندما يعلم يقيناً بالأحكام الشرعية فلا يوجد لديه احتمال الخلاف في مورد الاستنباط، بل لديه علم وجداني في الحكم من قبيل مورد الأحكام الضرورية ومورد الأخبار المتواترة والإجماعات ومورد القطع الوجداني بالمسألة، ففي هذه الموارد يكون لدى المجتهد المتجزي علم وجداني بالأحكام، وهذا الحكم لا يرتبط بباب آخر حتّى يقال باحتمال وجود قرينة على الخلاف، لأنّه مع وجود العلم واليقين في الحكم الشرعي فلا احتمال لوجود قرينة على الخلاف، إذن فالمجتهد المتجزي الذي يستنبط الأحكام في باب الطهارة والنجاسة ويفتي مثلاً بأنّ السائل المسكر نجس، فإنّه يملك علماً وجدانياً بالنجاسة.

ثانياً: إنّ المتجزي الذي يستنبط الحكم الشرعي لمسألة معيّنة يملك وثوقاً واطمئناناً نفسياً بذلك الحكم، وهذا الوثوق والاطمئنان النفسي حجّة عقلائية، يعني أنّه مع وجود الاطمئنان والوثوق في النفس بأمر وبحكم معيّن فإنّ هذا الوثوق والاطمئنان النفسي يعتبر عقلاً حجّة، وأمّا وجود قرينة على الخلاف في مكان آخر فلا ينبغي ترتيب الأثر على هذا الاحتمال الشخصي بسبب وجود ذلك الوثوق والاطمئنان النفساني.

ثالثاً: على فرض أنّه يحتمل وجود رواية في باب الديات والقصاص وفي باب الحجّ والجهاد على خلاف ما استنبطه المتجزي في باب الطهارة، فلا يجب عليه أن يكون مجتهداً أيضاً في باب الديات، بل يكفي اجتهاده في باب الطهارة والنجاسة والصلاة والصوم والأخماس والزكوات في صورة اثبات ذلك الحكم أو كان لديه علم وجداني بالحكم أو من خلال الخبر المتواتر أو الاجماع أو الوثوق والاطمئنان النفسي الذي حصل لديه من الامارات والاُصول الشرعية.

النتيجة: إنّ أدلة القائلين ببطلان التجزي في الاجتهاد ضعيفة، ولا يمكن بهذا الكلام المتقدم وبمجرد احتمال وجود روايات في أبواب اُخرى من الفقه على الخلاف، إثبات استحالة التجزي في الاجتهاد.

التجزي في الاجتهاد ثبوتاً وإثباتاً

ومن جملة القائلين بالتجزي في الاجتهاد المرحوم الآخوند (1) ، حيث استدلّ لذلك بما يلي: أوّلاً: إنّ الدليل على هذا المدّعى هو الوجدان، حيث يتضحّ بالوجدان إمكانية التجزي في الاجتهاد ولا شكّ أنّ مدارك الأحكام الشرعية مختلفة، وفي بعض الموارد يكون المدرك للحكم الشرعي هو حكم العقل والملازمات العقلية من قبيل الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أم لا ؟ أو هل أنّ مقدمة الواجب واجبة أم لا ؟

وفي بعض الموارد يكون مدرك الحكم الشرعي هو الدليل اللفظي الشرعي، وفي بعض الموارد الاُخرى يكون المدرك للحكم هو البراءة العقلية وقبح العقاب بلا بيان، وفي بعض الموارد يكون المستند للحكم هو البراءة الشرعية ورفع ما لايعلمون. إذن فالمدارك والمباني للأحكام الشرعية متعددة ومتفاوتة.

ثانيا: إنّ الأشخاص يختلفون فيما بينهم من جهة الفهم والقابلية، فبعض الأشخاص سريعوا الفهم ويستخرجون المسائل والأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية بيسر ولديهم قدرة على الاستنباط بسرعة، في حين يوجد بعض الأشخاص لا يملكون مثل هذه السرعة في الفهم والإدراك، بل يفهمون المسألة بعد تأمل وتفكير طويل، وعند ظمّ هاتين المسألتين نستنتج أنّ المسائل البسيطة والسهلة يمكن للإنسان السريع الفهم استنباطها، ولكن ربّما لا تكون لديه القدرة على استنباط المسائل
المشكلة والغامظة، مثلاً إذا كان الحكم الشرعي في مورد قام عليه الخبر بلا معارض فإنّه يمكنه استنباط الحكم من هذا الخبر، ولكن إذا كان هناك خبران متعارضان في مسألة شرعية فعلاج هذا التعارض مشكل وربّما لا يتمكن من استنباط الحكم الشرعي من هذين الخبرين المتعارضين، وعلى هذا الأساس فمن جهة مضامين الأدلة ومن جهة التفاوت والاختلاف في القابليات البشرية فإنّ القول بإمكانية التجزي في الاجتهاد في مورد المسائل العلمية وفي مورد الأحكام الشرعية واضح ووجداني.

ثالثا: البرهان العقلي على امكان التجزي في الاجتهاد، فالاجتهاد المطلق بدون التجزي في الاجتهاد غير ممكن، لأنّ الافراط والتفريط محال، فالاجتهاد يجب أن يحصل لدى الإنسان تدريجياً حتّى يصل إلى مرتبة الاجتهاد المطلق، ففي البداية يجب أن يكون مجتهداً في حجيّة ظواهر الكلام ثمّ يستنبط حجيّة الأخبار والروايات، وهكذا إلى أن يصل إلى اثبات حجيّة الاُصول العملية وغيرها، ولا يمكن التوصل في الاستنباط إلى المرحلة الأقوى ما لم يمر المجتهد بالمراحل الضعيفة للاستنباط، وعلى هذا الأساس فإنّ حصول الاجتهاد المطلق متوقف على حصول الاجتهاد المتجزي، والشخص الوحيد الذي له العلم والقدرة الفعلية المطلقة من جميع الجهات هو اللّه‏ تبارك وتعالى فقط، وأمّا غير ذات واجب الوجود فهي موجودات امكانية وقابلة للتكامل إلى أن تصل إلى المرحلة الفعلية.

وطبعاً فهذه الموجودات لها امكان ذاتي بأن تفهم وتعلم بجميع الاُمور دفعة واحدة إذا أراد اللّه‏ تعالى ذلك، من قبيل الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام حيث إن اللّه‏ تعالى منحهم العلم بجميع الأحكام دفعة واحدة وعلموا بالمسائل الشرعية والحقائق غير الشرعية وما كان وما يكون بموهبة إلهية، والدليل على إثبات هذا المدّعى أنّ اللّه‏ تعالى بمقتضى مشيئته الإلهيّة وحكمته الربانية قد وهب العلم بحقائق الأشياء للنبي الأكرم صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله والإمام المعصوم عليه‏ السلام وهذا ما ورد في القرآن الكريم وفي الروايات الشريفة ويوءيده حكم العقل أيضاً.

أمّا القرآن الكريم فقد ورد في الآية المباركة من آخر سورة الرعد : «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَـبِ» (2) وطبعاً الفاعل في «كفى باللّه‏» هو اللّه‏ تعالى ولكنه مجرور بحرف الجر والمقصود أنّ اللّه‏ يكفي شاهدا لإثبات رسالتي، والشاهد الآخر «ومن عنده علم الكتاب» أي أنّ العالم بالكتاب يوءيد ويشهد برسالتي، وكما ورد في الروايات الشريفة في تفسير «ومن عنده علم الكتاب» أنّ المقصود هو الإمام أميرالمؤمنين عليه‏ السلام وهو العالم بجميع أحكام القرآن، وطبعاً فلو أردنا اثبات الرسالة بواسطة الإمامة فإنّه يستلزم الدور لأنّ اثبات الإمامة يتوقف على الرسالة، أي أنّ الرسول صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله يجب أن يعين الولي والإمام عليه‏ السلام ، إذن فإثبات الإمامة يتوقف على الرسالة، وإذا كان اثبات الرسالة بدوره يتوقف على الإمامة فهذا دور محال. وأمّا فيما يخصّ الآية الشريفة المتقدّمة والاستشهاد بها فإنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه‏ السلام عالم بالقرآن وعالم بحقائق القرآن ويعلم أنّ القرآن معجزة إلهية، فالإمام أميرالمؤمنين عليه ‏السلام ومن خلال كون القرآن معجزة وأمراً خارق للعادة يثبت نبوة النبي الأكرم صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله لا من طريق إمامته، وإلاّ فإنّ ذلك يستلزم الدور المحال كما تقدّم.

وحينئذٍ فإنّ القرآن يحوي جميع العلوم والمعارف والعلم بما كان وما يكون، وهناك آيات عديدة تدلُّ على هذه الحقيقة ومن ذلك الآية المباركة : «وَلاَ رَطْبٍ وَلاَيَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَـبٍ مُّبِينٍ» (3) وكما ورد في الروايات الشريفة أن جميع العلوم وحقائق العالم وردت في أربعة كتب سماوية : التوراة، الانجيل، الزبور، والصحف. وجميع العلوم الواردة في هذه الكتب السماوية الأربعة، أي في التوراة والانجيل «غير المحرفين» والزبور وصحف إبراهيم، كلّها مذكورة في القرآن الكريم وأن جميع علوم القرآن مذكورة في سورة الحمد (فاتحة الكتاب) حيث يصرّح بذلك القرآن الكريم نفسه ويقول : «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ» (4) فالسبع المثاني هي سورة الحمد التي ورد أنّها عِدل القرآن وأنّ اللّه‏ تبارك وتعالى قال لنبيه الكريم : أننا أنزلنا عليك السبع المثاني التي تعدل القرآن وهي سورة الحمد.

كتاب التكوين والتدوين

إن حقائق سورة الحمد وردت كلّها في «بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم» وجميع حقائق بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم ـ حسب ما ورد في الروايات ـ مختزنة في نقطة الباء في بسم اللّه‏، ويقول الإمام أميرالموءمنين عليه‏ السلام : «أنا النقطة في باء بسم اللّه‏»، ونقطة الباء هذه هي نقطة الاتصال بين الخالق والمخلوق لأنّ الباء في أحد معانيها تعني الاتصال والإمام علي هو نقطة الباء في بسم اللّه‏، وهي نقطة الوصل بين اللّه‏ تعالى والولي الإلهي الأعظم، وكذلك الواسطة في الفيض بين الخالق والمخلوق، وهذه النقطة الواسطة في الفيض علّة لجميع الأشياء لأنّ أحد معاني الباء هو السببية، وطبعاً ليس المقصود من حرف «باء» والنقطة فيها هو النقطة الظاهرية والخطية، بل إنّ حقيقة النقطة في باء بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم في الواقع الأمر هي الإمام أميرالموءمنين عليه ‏السلام ، وكما تقدّم في خطبة رسول اللّه‏ عليه ‏السلام المعروفة في حجّة الوداع في عرفات أنّه قال : «أيّها الناس، أتعلمون ما في يدي يميني ؟ فقالوا : لا يا رسول اللّه‏. فقال النبي : أيّها الناس أتعلمون ما في يدي شمالي؟  فقالوا : لا يا رسول اللّه‏. فقال النبي : في يميني جميع أسماء السعداء من الأوليين والآخريين وأسماء أبائهم وأجدادهم وأُمّهاتهم. وفي شمالي جميع أسماء الأشقياء من الأوليين والآخرين وأسماء أبائهم وأجدادهم إلى يوم القيامة» (5)، فهذا الحديث الشريف يبين تلك الحقائق الخافية، بمعنى أنّه يبين حقيقة نور «بسم اللّه‏ الرحمن الرحيم» والحقيقة النورية في «باء» بسم اللّه‏ وهي عبارة عن الوجود المقدس للإمام أميرالموءمنين الذي هو الولي الإلهي وواسطة الفيض بين الخالق والمخلوق والمصداق الواقعي لباء بسم اللّه‏.

والمقصود من هذا الكلام وحسب بيان القرآن الكريم «ومن عنده علم الكتاب» أي الشخص العالم بعلوم القرآن الكريم والكتاب الإلهي هو الإمام أميرالموءمنين، وفي القرآن جميع العلوم والحقائق الموجودة في اللوح المحفوظ وفي لوح المحو والإثبات، وبعبارة اُخرى أن جميع حقائق عالم التكوين من البداية إلى النهاية مذكورة في القرآن الكريم، وأنّ عالم التكوين وهو الكتاب التكويني الإلهي والقرآن هو الكتاب التدويني الإلهي، واجمال حقائق كتاب التدوين وردت في كتاب التدوين وهو القرآن، وإذا نشرت هذه الحقائق وفصلت فيظهر منها عالم التكوين من الملائكة والجنّ والأنس والقبر والقيامة والجنّة والنار، واجمال تلك الحقائق مصداق القرآن الكريم. ولمزيد من التوضيح راجعوا المجلد الثاني من مقدمة التفسير التحليلي للقرآن الكريم.

النتيجة: أنّ الإمام أميرالمؤمنين علي عليه‏ السلام عالم بجميع حقائق الأشياء وحقائق العالم، وقد أشار أميرالمؤمنين عليه‏ السلام في موارد عديدة إلى صدره المبارك وقال : «إنّ لهاهنا لعلماً جمّاً، لو أصبت له حملة» (6) وذلك عندما كان يتحدّث مع كميل أو كان يقول : «فأسألوني قبل أن تفقدوني» (7) وقد ورد في كتب التواريخ أنّ البعض أدّعوا هذا الأدعاء أيضاً ولكنهم افتضحوا ولم يستطيعوا الإجابة عن الأسئلة الموجهة لهم. على أيّة الحال أن الآيات والروايات الشريفة تبيّن أنّ الإمام عالم بجميع حقائق الأشياء بالفعل.

وهكذا بالنسبة للبرهان العقلي والفلسفي على هذه الحقيقة فلأن الخليفة يجب أن يعمل عمل المستخلف عنه، والمستخلف عنه هو ذات الباري تعالى، فاللّه‏ تبارك وتعالى هو المحيط بجميع الأشياء والعليم بجميع الأشياء والقدير على جميع الأشياء، وعندما يجعل مستخلفا عنه فلابدّ أن يكون خليفته محيطاً بكلّ شيء وقديراً على كلّ شيء وعليماً بكلّ شيء أيضاً.

إنّ اللّه‏ تبارك وتعالى عليم بالذات وقدير بالذات وغير متناهٍ بالذات، وخليفته الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام محيطون أيضاً بجميع الأشياء بالعرض وعالمون بالأشياء بالعرض وقديرون على الأشياء بالعرض، حيث وهب اللّه‏ تبارك وتعالى لهم القدرة على كلّ شيء والعلم بكلّ شيء لوجود القابلية لذلك. وقد ورد عن الإمام أميرالمؤمنين عليه‏ السلام أنّه دخل إلى داره فرأى فاطمة الزهراء عليهاالسلام قد تغيرت سحنتها من شدّة الجهد وأثّر العمل على يديها، فعندما رأى الإمام هذه الحالة للزهراء انقلب حاله وتأثر كثيراً، فعندما رأت الزهراء عليهاالسلام أنّ الإمام علي عليه ‏السلام قد تأثر لها أرادت أن تطيب خاطره وقالت : «يا علي عدني مني لأحدثك بما كان وما هو كائن وما لم يكن»، فعندما سمع الإمام منها ذلك رجع القهقرى إلى رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله وأراد أن يحدثه عن عظمة علم فاطمة الزهراء عليهاالسلام فعندما وصل إلى رسول اللّه‏ صلى‏ الله ‏عليه ‏و‏آله وقبل أن يتحدّث معه بشيء قال رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله : «يا علي أنّ فاطمة متصلة باللّه‏ تبارك وتعالى كما اتصلنا أنا وأنت به».

على أيّة حال، إذا تعلقت العناية الإلهيّة ومشيئة اللّه‏ تعالى بالنسبة لأحد الأشخاص فإنّه من الممكن وبطريقة المعجزة أن يمنحه العلم والفهم بكلّ شيء دفعة واحدة كما هو حال الأئمّة المعصومين عليهم‏السلام الذين يعلمون بجميع الأشياء وحقائق العالم دفعة واحدة، فهذا المعنى من جهة ممكن ذاتاً ومن جهة اُخرى واقع أيضاً، أمّا مسألة الإعجاز فخارجة عن هذا البحث، وقلنا في بحث مقدّمات الاجتهاد والتقليد أن اطلاق الاجتهاد والمجتهد لا يصحّ على الإمام المعصوم لأنّ المجتهد هو الشخص الذي يحصل على القدرة على الاستنباط بعملية اكتساب العلم وعلم، الإمام لدني وإلهي ولم يدرس الأئمّة في أي مدرسة، إذن فمن الخطأ اطلاق كلمة المجتهد على الإمام المعصوم.

وكذلك اطلاق كلمة «اجتهاد» على علم الإمام، لأنّ اطلاق كلمة الاجتهاد إنّما تكون على العلم الحصولي والتحصيلي الذي يحصل عليه الإنسان من خلال الكسب والدرس، وعلم الإمام علم حضوري لا علم تحصيلي وحصولي، ولذلك فلا وجه لاطلاق كلمة الاجتهاد على علم الإمام.

إذن فقد ثبت بالوجدان والبرهان أن تحقق الاجتهاد المطلق لا يمكن بدون التجزي في الاجتهاد والتوصل تدريجياً إلى مرتبة الاجتهاد المطلق، لأنّ الطفرة في العلم محال.

هذا تمام الكلام في البحث في الجهة الاُولى من مسألة التجزي في الاجتهاد وهي امكان التجزي في الاجتهاد ثبوتاً وإثباتاً.

الجهة الثانية: البحث في الأحكام المترتبة على المجتهد المتجزي، فعندما يكون الاجتهاد المتجزي ممكناً ويكون المجتهد قادراً على استنباط بعض الأحكام الشرعية، فسوف تترتب على هذا المجتهد آثار وأحكام شرعية، منها أنّ فتوى المجتهد المتجزي هل هي حجّة لنفسه ومقلديه أو غير حجّة ؟ هنا نزاع وخلاف بين الفقهاء، والدليل الذي ذكروه على عدم حجيّة فتوى المجتهد المتجزي هو الرجوع إلى الأصل، فنحن نشك : هل أنّ استنباط وفتوى المجتهد المتجزي حجّة بالنسبة له أو غير حجّة ؟ ومقتضى القاعدة عند الشك في الحجيّة عدم الحجيّة، طبعاً فإنّ محل التمسك بالأصل في هذا المورد فيما إذا لم يكن هناك دليل لفظي وعقلي على حجيّة فتوى المتجزي، وإلاّ فإن قام دليل اجتهادي على حجيّة فتواه فلا تصل النوبة إلى التمسك بالأصل.

وذهب بعض إلى أنّ حجيّة وعدم حجيّة فتوى المتجزي في المسائل الفقهية مبتنية على أنّ المتجزي مجتهد في المسائل الاُصولية وصاحب نظر، وإلاّ فإن لم يكن مجتهداً في المسائل الاُصولية فإنّ فتواه في الفقه ليست بحجّة. إلاّ أنّ هذا الكلام ليس له وجه، لأنّه إذا قلنا أنّه ينبغي أن يكون في المسائل الاُصولية مجتهداً مطلقاً وقادراً على استنباط جميع المسائل الاُصولية فإنّ ذلك يستلزم الخلف، وأننا قد افترضنا أن هذا المجتهد المتجزي قادر على الاستنباط في بعض المسائل.

مضافاً إلى ذلك فإننا إذا قلنا إنّ الأصل في اجتهاد المتجزي في علم الاُصول متفق عليه ومورد قبول الفقهاء، فإنّ مثل هذا الاتفاق والإجماع لا أثر له، لأنّ الإجماع إنما يكون حجّة إذا كان مقترناً مع قول المعصوم وكاشفاً عن قول المعصوم، ولكن اتفاق العلماء واجماعهم على أنّ هذا المجتهد صاحب نظر لا أثر له، لأنّ مثل هذا الاتفاق والإجماع لا يلازم قول المعصوم ولا يكشف عنه.

النتيجة، يمكن القول أنّ مقتضى القاعدة جواز عمل المتجزي برأيه، لأنّ المدارك والمباني المطروحة في علم الاُصول لاستنباط الحكم الشرعي على نحوين : فإما أن تكون تلك المدارك والمباني عقلية أو نقلية وشرعية، فإذا كان متجزي مبانٍ اُصولية وأحكام عقلية وكان في مورد الأحكام العقلية متيقناً منها، مثلاً كان رأيه في علم الاُصول أنّ وجوب ذي المقدّمة يستلزم وجوب المقدّمة، وأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، وأنّ النهي في العبادات والنهي في المعاملات يستلزم الفساد والبطلان، فإذا كان يرى مثل هذه الأقوال في المباني العقلية في علم الاُصول، فحينئذٍ تكون حجيّة هذا العلم ذاتية وقطعية ولا يمكن الإشكال فيها. وبالتالي يكون رأي هذا المجتهد المتجزي في مورد مدارك الأحكام العقلية حجّة له لاستنباط الأحكام الشرعية، لأنّه يملك العلم بهذه المدارك، سواءً علم أنّ الاستصحاب التعليقي حجّة أو غير حجّة، وسواءً علم أنّ الاستصحاب في الأحكام الوضعية يجري أم لا يجري، فهذا لا ربط له في القطع بالملازمات العقلية التي يستخدمها في عملية استنباط الأحكام.

وأمّا في المسائل الشرعية من قبيل حجيّة خبر الثقة وحجيّة ظاهر الكتاب والسنّة، فإذا أثبت بمقتضى مفهوم آية النبأ أو بمقتضى التواتر الإجمالي للروايات أو بمقتضى سيرة العلماء حجيّة خبر الواحد في المباحث الاُصولية وأثبت هذا المتجزي حجيّة ظواهر الكتاب، فحينئذٍ فإنّ حجيّة هذه الأدلة الشرعية في علم الاُصول تكون تامة بالنسبة له، فإذا قام خبر الثقة على وجوب صلاة الجمعة في زمن الغيبة فإنّ هذا المتجزي يستنبط وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة بواسطة خبر الثقة وتكون فتواه حجّة على هذا الأساس، وحينئذٍ لا يجوز له تقليد غيره في هذه المسألة، لأنّه في هذه المسألة صاحب حجّة شرعية.

وأمّا المجتهد المطلق الذي لا يرى وجوب صلاة الجمعة في هذا المورد ويرى أنّ فتوى المجتهد المتجزي على خطأ، وأنّ فتواه مخالفة للواقع، فعندما يكون ذا حجّة فلا يعقل أن يرجع ذو الحجّة في الحكم الشرعي إلى شخص بلا حجّة في المسألة، لأنّه يعتقد أنّ المتجزي يفتي خلافاً للواقع وأنّه لا يملك الحجّة. وعلى هذا الأساس يتبين أنّ المجتهد المتجزي عندما يقيم الحجّة بالفعل على الحكم الشرعي ويقطع بالحكم الشرعي فإنّ العمل بالحجّة بالنسبة له واجب ولا يجوز له الرجوع إلى الشخص الذي لا حجّة له.

تقليد المتجزي

الجهة الثالثة: هل أنّ تقليد الغير للمتجزي جائز أم لا ؟

الجواب: إنّ المقلِّد على أقسام : فتارة يكون المقلِّد صاحب نظر واجتهاد في القواعد والمسائل الاُصولية، ويرى هذا المقلِّد في الاُصول جواز تقليد المكلّف للمتجزي في الفقه، إذن فمثل هذا الشخص المجتهد في المسائل الاُصولية يمكنه حسب نظره أن يقلد المتجزي في المسائل الفقهية.

وتارة اُخرى يكون المكلّف مقلد في المسائل الاُصولية والمسائل الفقهية، ففي هذا القسم تكون وظيفة العامي والمقلِّد على ثلاثة أقسام :

1 ـ أن يرجع إلى الأعلم، فإذا أجاز المجتهد الأعلم تقليد المجتهد المتجزي فبإمكانه أن يقلد المتجزي، وإلاّ فلا يجوز له الرجوع إلى المتجزي.

2 ـ أن يقلِّد المجتهد المطلق، لأنّه متيقن الجواز وتقليد المتجزي مشكوك الجواز، ولا شكّ بأنه مع وجود متيقن الجواز لا تصل النوبة إلى مشكوك الجواز.

3 ـ أن يقلِّد المجتهد المتجزي في صورة عدم وجود المجتهد المطلق، وإلاّ فلا.

بعد هذا البيان في تصوير أقسام المقلِّد ورجوع المقلِّد إلى المتجزي، نستعرض آراء الفقهاء في مورد تقليد المجتهد المتجزي، فالفقهاء في هذه المسألة على عدّة أقوال :

1 ـ يرى صاحب العروة السيّد كاظم اليزدي قدس‏سره في المسألة 22 من العروة في أبواب الاجتهاد والتقليد، عدم جواز تقليد المجتهد المتجزي، ويقول في العروة : يشترط في المجتهد اُمور : البلوغ، العقل، الإيمان، العدالة، الذكورية، والحرية على قول، وكونه مجتهدا مطلقا، فلا يجوز تقليد المتجزي.

2 ـ ويرى المرحوم آية اللّه‏ الشاهرودي قدس‏سره في حاشيته على العروة القول بالتفصيل، فإذا لم يكن المقلِّد متمكناً من تقليد المجتهد المطلق فهنا يجوز له تقليد المتجزي، وإذا امكنه تقليد المجتهد المطلق فلا يجوز له تقليد المجتهد المتجزي.

3 ـ ويرى الإمام الخميني قدس‏سره في حاشية العروة أيضاً جواز تقليد المتجزي في المسائل التي اجتهد فيها المتجزي واستنبط الحكم الشرعي.

4 ـ أمّا آية اللّه‏ المرعشي النجفي قدس‏سره فإنّه يقول بأن الأقوى جواز تقليد المتجزي في المسائل التي استنبطها وكانت تلك المسائل والأحكام متطابقة مع استنباط المجتهد المطلق.

5 ـ ويرى السيّد الكلبايكاني قدس‏سره في حاشيته على العروة أنّ القول بعدم جواز تقليد المتجزي مطلقاً محل تأمل ونظر.

النتيجة: هناك خلاف في هذه المسألة لدى الفقهاء، فالمانعون من تقليد المجتهد المتجزي على ثلاثة طوائف :

الأولى: القول بأنّ اطلاق أدلة جواز التقليد كآية النفر وآية السؤال ومقبولة عمر بن حنظلة، قاصرة الشمول على المتجزي، وكذلك بالنسبة لسيرة العقلاء في مورد جواز التقليد فإنّ امضاء مثل هذه السيرة قاصر على شموله لمورد تقليد المجتهد المتجزي، وعندما لا يكون اطلاق أدلة جواز التقليد شامل للمجتهد المتجزي فحينئذٍ تصل النوبة إلى الدليل الثاني وهو مورد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وفي دوران الأمر بين التعيين والتخيير هناك ثلاثة أنحاء قابلة للتصوير :

أحداها: دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم، فإذا كان هناك دليلان وحكمان متزاحمان وكان أحداهما محتمل الأهمية فالمتعين ترجيح محتمل الأهمية، من قبيل انقاذ غريقين أحداهما نبي والآخر ليس بنبي، أو أن أحد الغريقين عالم والآخر جاهل، وهنا يتعين انقاذ النبي لوجود الأهمية، وانقاذ العالم المحتمل الأهمية، وبلاشكّ أنّ المتعين في هذين المثالين ترجيح انقاذ النبي وانقاذ العالم المحتمل الأهمية.

المورد الثاني، دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مورد الواجب العيني والواجب التخييري، مثلاً يقول المولى : اعتق رقبة، واعتق رقبة موءمنة. إمّا يكون هذا الواجب عينياً أو واجبا تخييرياً لأنّه إذا كان عتق الرقبة الكافرة غير مجزي في الواقع فإنّ عتق الرقبة الموءمنة يكون واجبا تعييناً، وإذا كان عتق الرقبة الكافرة مجزياً في الواقع فإنّ عتق الرقبة الموءمنة واجب تخييرياً، هنا يقول العلماء في مورد دوران الأمر بين الواجب التعييني وهو عتق الرقبة الموءمنة، الواجب التخييري، يجب التمسك بأصالة التعيين، فالمتعين هو عتق الرقبة الموءمنة لأنّه اجمالاً معلوم الوجوب.

المورد الثالث، دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجيّة، فلو دار الأمر بين الحجيّة التعيينية والحجيّة التخييرية فالظاهر أنّ العلماء متفقون على أصالة التعيين. النتيجة في هذا المقام إذا لم يكن اطلاق أدلة جواز التقليد تاماً بالنسبة للمتجزي، وإذا كانت سيرة العقلاء وسيرة المتشرعة أيضاً في مورد جواز تقليد المتجزي غير تامة، فالوظيفة الفعلية للمقلد العامي التخيير بين الرجوع إلى المجتهد المتجزي والرجوع إلى المجتهد المطلق، وحينئذٍ يكون الرجوع إلى المجتهد المطلق متعينا، لأنّه إذا كان قول المجتهد المتجزي حجّة في الواقع مع وجود المجتهد المطلق، فإنّ قول المجتهد المطلق أيضاً حجّة تخييرية ويكون قوله أحد طرفي التخيير في الحجيّة مع قول المتجزي، لأنّ قولهما حسب الفرض حجّة في الواقع، غاية الأمر حجّة تخييرية لكلّ واحد منهم لا تعيينية.

وإذا كان قول المجتهد المتجزي غير حجّة في الواقع يكون قول المجتهد المطلق حجّة تعيينية، وحينئذٍ يدور الأمر بين الحجّة التعيينية والتخييرية، ويرى العلماء هنا ترجيح الحجّة التعيينية وتقليد المجتهد المطلق.

ثانياً: بالنسبة لتقليد المكلّف للمجتهد المتجزي لا يوجد احتمال التعيين، لأنّ غاية ما يحتمل في حقّه الحجيّة التخييرية لا التعيينية، ولكن في مورد تقليد المجتهد المطلق فهناك احتمال التعيين، أي أن قول المجتهد المطلق حجّة في الواقع تعييناً لا تخييراً، فعندما يحتمل التعيين في تقليد المجتهد المطلق يدور الأمر بين التعيين والتخيير، ومقتضى القاعدة عقلاً أصالة التعيين، إذن فمع وجود المجتهد المطلق نشك في حجيّة قول المجتهد المتجزي، والشك في الحجيّة مساوق لعدم الحجيّة.

وذهب البعض إلى أكثر من ذلك وأنّ الشك في الحجيّة مساوق لقطع بعدم الحجيّة، لأنّ العقل في مورد الشك لا يحكم بشيء، وعندما لا يحكم العقل بشيء في مورد الشك، فإنّ الشيء مشكوك الحجيّة ليس بحجّة. وعلى هذا الأساس فإنّ نتيجة الدليل الثاني، هو أصالة التعيين، غاية الأمر أن أصالة التعيين هذه التي توجب تقليد المجتهد المطلق تعييناً معلّقة على عدم الدليل على جواز تقليد المتجزي، وإلاّ فإنّ كان الدليل اللفظي أو سيرة العقلاء أو سيرة المتشرعة تدلّ على جواز تقليد المتجزي، فإنّ هذه الأدلة حاكمة على أصالة التعيين، وحينئذٍ لا يكون المورد من موارد جريان أصالة التعيين، لأنّ الأصل إنما يكون حجّة حيث لا يوجد دليل. وعندما يكون لدينا دليل اجتهادي على جواز تقليد المجتهد المتجزي فلا تصل النوبة إلى أصالة التعيين.

الدليل الثالث: للقائلين بعدم جواز تقليد المتجزي، أنّ الإنسان بعد العلم بالتوحيد والعلم بالنبوة والرسالة ومعرفة اُصول الدين لديه علم اجمالي بالتكليف الإلهي حسب قانون العبودية وأنّ الإنسان مكلف، ومن جهة اُخرى فإنّ المقلِّد والعامي لا طريق له للعلم والعلمي بالأحكام والطريق إلى الأحكام مسدود، والآن ماذا يصنع ؟ فمن جهة يجد نفسه مكلفاً بالتكليف الإلهي والأحكام الإلزامية في شريعة الإسلام، ومن جهة اُخرى فإنّ باب العلم والعلمي بالأحكام مسدود، فمن أجل أداء وظيفته الشرعية يجب عليه في هذه الصورة العمل بالاحتياط، ولكن العمل بالاحتياط إمّا أن يؤدّي للعسر والحرج أو يكون مخلاً بالنظام وكلا هذين الأمرين منهي عنهما في الشريعة، وليس لديه القدرة على الاجتهاد لاستنباط الأحكام، لأنّه حسب الفرض من العوام، وحينئذٍ فالطريق الأقرب للإمتثال هو التقليد، غاية الأمر أنّ الضرورة تقدر بقدرها، فيجب عليه التقليد بالقدر المتيقن، والقدر المتيقن هو جواز تقليد المجتهد المطلق في صورة الإمكان.

وعلى أساس هذه الأدلة الثلاثة: «أحدها قصور اطلاق أدلة جواز التقليد لشمولها للمتجزي. والآخر أصالة التعيين في مورد تقليد المجتهد المطلق، والثالث أن تقليد المجتهد المطلق هو القدر المتيقن»، ولا يجوز تقليد المجتهد المتجزي مع التمكن من تقليد المجتهد المطلق، وطبعاً فجميع أدلة المانعيين هذه لا تخلو من اشكال ومناقشة.

أدلة المجوزّين

ومن جملة المجوزّين لتقليد المجتهد المتجزي، آية اللّه‏ الحكيم رحمه‏ الله ، حيث استدلّ على جواز تقليد المتجزي برواية أبي خديجة المشهورة (8) ، حيث يروي أبي خديجة عن الصادق عليه ‏السلام : «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم، يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم حاكماً فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه» (9) .

والمستفاد من هذه الرواية المشهورة كما يقول السيّد الحكيم رحمه‏ الله أنّه لا يجب أن يكون القاضي عالماً بجميع القضايا والأحكام، لأنّ موضوع جواز القضاء في المشهورة والتي يعبّر عنها بالمعتبرة، هو العلم بشيء من القضايا، ومفهوم الشيء يصدق على الكثير والقليل، فالرجل منكم إذا علم شيئاً من قضايانا فإني قد جعلته عليكم قاضياً فتحاكموا إليه.

وهنا يستدلّ السيّد الحكيم رحمه‏الله بهذه الكبرى الكلية وبالملازمة، فالشخص الذي يحقّ له الفتوى واستلام منصب القضاء هو: كلّ من له منصب القاضي له منصب الافتاء وليس بالعكس. لأنّ القضاء يحتاج إلى إذن الإمام وأمّا الفتوى فلا تحتاج إلى إذن الإمام، فعندما يكون القاضي مأذوناً من قبل الإمام بأمر القضاء، فكلّ حكم يقضي به هذا القاضي يجب أن يكون صادرا عن اجتهاد أي يكون القاضي مجتهداً وليس بالعكس.

وهكذا يستدلّ السيّد الحكيم رحمه‏الله على أنّه لا يشترط في القضاء الاجتهاد المطلق، وعندما لا يشترط في القضاء الاجتهاد المطلق ففي الفتوى أيضاً لا يشترط الاجتهاد المطلق، لذا يمكن القول بجواز تقليد المتجزي ولا يجب أن يكون مجتهداً مطلقاً لأنّه إذا كان هذا الشيء ليس شرطاً في مورد القضاء ففي مورد الفتوى أيضاً ليس بشرط، وفي القاضي لا يشترط الاجتهاد المطلق، فهكذا الحال في المفتي أيضاً.

ولكن يرد على هذا الكلام عدّة اشكالات ونقود :

نقد ومناقشة

أوّلاً: ما الفرق بين القضاء والفتوى ؟ الفتوى عبارة عن إخبار المفتي بالحكم الإلهي الكلي، فالمفتي أو المجتهد يقول بأنّ الصلاة واجبة، الصوم واجب، الغيبة حرام و...، أو أنّ المفتي أو المجتهد يخبر عن حجيّة الحكم الشرعي في وجوب صلاة الجمعة وأن خبر الثقة الوارد في هذا المورد حجّة، وأن ظاهر القرآن حجّة. إذن فالفتوى عبارة عن إخبار بالحكم الإلهي أو إخبار عن الحجّة في الحكم الشرعي.

وأمّا بالنسبة للقضاء فهو عبارة عن إنشاء واعتبار الحكم، فالقاضي يعتبر الحكم وأن هذا البيت مثلاً ملك لزيد أو أنّه ملك لعمر ويحكم أيضاً: لا ترث الزوجة من العقار. فلو لم يكن هناك انشاء واعتبار في الحكم في باب القضاء فإنّ الخصومة والنزاع لا ينتهي عند حدّ معين.

ثانياً: إنّ المناط في باب القضاء هو فصل الخصومة والصلح، خلافاً لباب الفتوى حيث يكون المناط فيها الاستنباط وبيان الحكم الإلهي، سواءً في الشبهات الحكمية أم في الشبهات الموضوعية، وعندما يختلف المناط بين باب القضاء وباب الفتوى، فحينئذٍ لا يمكن الحكم بالملازمة وأن كلّ ما هو غير مشروط في باب القضاء غير مشروط في الفتوى أيضاً.

ثالثاً: إن فتوى المفتي ليست بنافذة إلاّ على المقلِّد والمستفتي، خلافاً للقضاء فقضاوة القاضي نافذة على مطلق المتخاصمين سواءً كان المتخاصم مقلداً أو مجتهداً، وبذلك فإنّ قضاوة القاضي حجّة على مجتهد آخر وليس لهذا المجتهد حقّ النقض، لأنّ نقض القضاء مخالف لملاك القضاوة والذي هو فصل الخصومة والصلح، ونقض المناط والملاك في القضاء غير جائز، وإلاّ كان جعل القضاء لغواً. وعلى هذا الأساس لا يمكن القول بأن كلّ قاضٍ مفتٍ لأنّ عمل القاضي يجب أن ينتهي بالحكم ويكون هذا الحكم نافذاً على المقلِّد والمجتهد، بينما عمل المجتهد هو الفتوى والإخبار عن الحكم الإلهي، وفتوى المجتهد وإخباره عن الحكم الإلهي نافذ فقط على مقلده وليس نافذ على مجتهد آخر.

رابعاً: إن كلام السيّد الحكيم رحمه‏الله بأن كلّ قاضٍ مفتٍ مخالف للروايات الواردة في مصباح الشريعة من أن : كلّ مفتي حاكم والحكم لا يجوز إلاّ بإذن اللّه‏ تعالى. فعلى أساس هذه الرواية فإنّ لكلّ مجتهد ومفتي حقّ القضاء وليس بالعكس كما ذكره في المستمسك.

خامساً: أمّا ما ذكره من أن كلّ ما هو غير معتبر في مورد القضاء فهو غير معتبر في مورد الفتوى ليس له وجه، لأنّه ثبت بضرورة الفقه في باب القضاء عدم اشتراط أعلمية القاضي من المستقضي، فلو أنّ المستقضي كان أعلم من القاضي فمع ذلك فإنّ حكم القاضي العالم نافذ على الأعلم، وهذا على خلاف باب الفتوى حيث يشترط فيها أعلميّة المفتي، فإذا كان المستفتي أعلم من المفتي فتقليد الأعلم لغيره لا يجوز، إذن فعندما تختلف الشروط في باب الافتاء وباب القضاء فكيف يمكن القول بأن كلّ شيء غير معتبر في مورد القضاء فهو غير معتبر في مورد الفتوى. فهناك اُمور كالأعلمية تعتبر شرطاً في مقام الافتاء، ولكنها ليست شرطاً في مقام القضاء.

النتيجة: أنّ الكبرى التي ذكرها بأن كلّ ما هو غير معتبر في القضاء فهو غير معتبر في الفتوى أيضاً غير تام، والدليل قام على خلافه أيضاً كما تقدّم.

سادساً: يقول أنّه لا عكس في المسألة، أي أنّ القضاء يحتاج إلى إذن الإمام وليس كذلك الفتوى، وهذا الكلام أيضاً محل اشكال وتأمل، لأنّ اجماع العلماء على أنّ الفقيه أو المفتي له حقّ القضاء وأن للمجتهد ثلاث مناصب : أحداها منصب الافتاء، والآخر منصب القضاء، والثالث منصب الولاية. ولا خلاف بين الفقهاء في المقامين الأولين فالمجتهد له مقام الافتاء ومقام القضاء أيضاً، يعني أن له حقّ الفتوى وله حقّ القضاء، إنّما الخلاف في المقام الثالث وهل أنّ المجتهد له حقّ الولاية على المجتمع وعلى شوءون الناس، وبعبارة اُخرى على الاُمور الحسبية، أو ليس للمجتهد منصب الولاية ؟ المشهور لدى العلماء أنّهم يقولون بعدم ولاية المجتهد في هذه الاُمور، ولكن غير المشهور يقولون بالولاية.

المقصود أنّ العلماء أجمعوا على أنّ الفقيه والمفتي لهما حقّ القضاء، ويقول المحقق الكركي في رسالة صلاة الجمعة بأن إجماع العلماء منعقد على أنّ المفتي مجتهد ونعبّر عنه بنائب الإمام، وإذا كان المجتهد نائب الإمام إذن فكلّ عمل يقوم به المجتهد فإنّه مشروط بإذن الإمام. لأنّ المجتهد يفتي على أساس النيابة عن الإمام، ويقضي بين الناس على أساس النيابة عن الإمام، وأحياناً يتحرك من موقع إعمال الولاية بالنيابة عن الإمام، وعلى هذا الأساس فقوله : إنّ كلّ قاضي يحقّ له الافتاء لأنّ القضاوت تحتاج إلى إذن الإمام وليس بالعكس فالافتاء لا يحتاج إلى اذن الإمام، ليس له وجه. لأنّه عندما قام اجماع الفقهاء على أنّ المجتهد يعمل بعنوان النيابة عن الإمام، فحينئذٍ تكون فتوى المجتهد وقضاوءه وكذلك إعمال ولايته مشروطة بإذن الإمام.

النتيجة: إن الاستدلال بمشهورة أبي خديجة لاثبات جواز تقليد المتجزي، ضعيف. لأنّ الرواية واردة في مورد القضاء لا في مورد الافتاء، والمناط في باب القضاء غير المناط في باب الفتوى بل بيان متقدم، ولا يمكن القول بأن هذه الرواية تقرر أنّ القاضي لا يجب أن يكون مجتهداً مطلقاً فكذلك المفتي أيضاً لا يجب أن يكون مجتهداً مطلقاً، فلا يمكن القول بهذه الملازمة وقياس المناط في باب القضاء على المناط في باب الفتوى ولا يمكن سراية الحكم الوارد في الرواية في مورد القضاء إلى مورد الافتاء بسبب تعدد المناط وتعدد الموضوع.

الدليل الثاني، على جواز تقليد المتجزي، الروايات التي ورد فيها أنّ الأئمّة عليهم‏ السلام كانوا في زمان حضورهم يُرجعون الناس إلى فقهاء ذلك العصر، ولا شكّ أنّه في عصر المعصومين عليهم ‏السلام لم يكن الراوي أو الفقيه حافظاً لجميع أخبار الأئمّة ورواياتهم على الاطلاق، فبعضهم كان يحفظ عدّة روايات والبعض الآخر من الرواة كان يحفظ بعضاً آخر وهكذا كان البعض يعرف عدّة اُصول فقهية. غاية الأمر أنّ عنوان راوي الحديث يصدق عليهم بوصفهم فقهاء، ولكن الفقيه والراوي لم يكونا في نقلهما للرواية في صدد بيان الحكم، والإمام كان يرجع السائل إلى هوءلاء الأشخاص الذين يحفظون بعض الروايات ويبينون بعض الأحكام ويقول : خذ معالم دينك من يونس بن عبدالرحمن أو من زكريا ابن آدم، وكذلك فإنّ المتجزي يستنبط بعض الأحكام الإلهيّة من أدلة حجيّة الأحكام وبالتالي تكون فتواه مستندة إلى الحجّة.

وطبعاً هذا الاستدلال أيضاً محل تأمل واشكال، لوجوه:

أوّلاً: إنّ هذه الروايات معللة في ذيلها بوثاقة الراوي، فعندما يسأل الراوي من الإمام : هل أنّ يونس بن عبدالرحمن ثقة أم لا ؟ فالإمام يقول : ثقة. فعندما يكون هذا الراوي ثقة يكون نقله للحكم الشرعي من الإمام صحيحاً وموثوقاً، ولذلك فإنّ أخباره ونقله عن الإمام سيكون حجّة، إذن فهذه الأدلة تدلّ على حجيّة خبر الثقة ولا تدلّ على حجيّة فتوى المجتهد.

ثانياً: إنّ المرجع الأصلي للأحكام في زمان حضور الإمام، هو المعصوم نفسه وكان الناس يرجعون إلى الراوي في عصر الحضور بلحاظ أنّه ينقل حكم وكلام الإمام، وحينئذٍ يكون كلام الراوي حجّة باعتبار بيانه ونقله لحكم الإمام، وحكم الإمام ضروري وقطعي ولا ربط بحجيّة رأي الفقيه.

ثالثاً: إنّ الأشخاص الذين كانوا ينقلون الروايات والأحكام الشرعية من الإمام كان يصدق عليهم عنوان الفقيه في الدين والمتفقه وعنوان الناظر إلى الحلال والحرام، وأمّا بالنسبة للمجتهد المتجزي فمورد شك، أي أنّ المتجزي الذي استنبط بعض الأحكام الشرعية في مسائل معدودة هل يصدق عليه عنوان الفقيه أو عنوان الناظر إلى الحلال والحرام، أم لا ؟ فإذا كان مشكوك الصدق فلا يمكن التمسك بحجيّة فتواه في مورد الشك، إلاّ أن يقال بأن عنوان الفقيه وعنوان راوي الحديث يصدق على المجتهد المتجزي فيما إذا استنبط ما يعتد به من الأحكام وبالتالي يصدق عليه عنوان العارف بالحلال والحرام ويكون مشمولاً لأدلة حجيّة الفتوى وتكون فتواه حجّة.

الدليل الثالث، على جواز تقليد المتجزي، سيرة العقلاء، حيث إنّ العقلاء يرون جواز رجوع الجاهل إلى العالم مطلقا، والمتجزي عالم في تلك المسائل التي استنبطها وبالتالي يكون مشمولاً لسيرة العقلاء هذه، سواءً كان المتجزي عالماً بسائر أبواب الفقه أم لا، بأن يكون ماهراً وقادراً على الاستنباط في بعض الأبواب، وعندما يكون عالماً تشمله سيرة العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم، ومن الممكن أن يكون المتجزي أعلم في فن خاصّ بالنسبة إلى المجتهد المطلق ويملك ماهرة أكبر من المطلق، مثلاً نرى في العرف أنّ الطبيب المتخصص في علاج أمراض العين ربّما يكون أكثر مهارة وأعلم من الطبيب المطلق والعام، رغم أنّ ذلك الطبيب المتخصص لا علم له في مورد علاج مرض القلب أو مرض الكبد، ففي هذا المورد نرى أنّ العقلاء يرجعون في علاج مرض العين إلى هذا الطبيب المتجزي، إذن فسيرة العقلاء تشمل جواز الرجوع إلى المتجزي في الأحكام، والأدلة اللفظية لا ظهور لها في الردع عن هذه السيرة، وعندما لا تكون الأدلة اللفظية رادعة عن السيرة تكون السيرة حجّة وبالتالي يثبت جواز الرجوع إلى المتجزي.

ويمكن الإشكال على هذا الوجه أيضاً، أنّ رجوع العقلاء في هذه الموارد مختلف، فتارة يرجع العقلاء في علاج عضو خاص يرتبط بجميع الأعضاء، مثلاً إذا كان الإنسان يشكو من مرض في قلبه وأنّ علاج هذا العضو يرتبط بجميع أعضاء البدن، ولكن أحياناً لا يرتبط علاج عضو خاص بسائر أعضاء البدن من قبيل اليد والاُذن والعين، فإذا كان المرض يرتبط بجميع أعضاء البدن ففي هذا المورد يرجع العقلاء للطبيب المطلق ولا يرجعون للطبيب المتجزي والمتخصص في علاج قسم خاصّ من الأمراض.

فإذا كان علاج ذلك العضو الخاصّ لا يرتبط بباقي أعضاء البدن، ففي هذا المورد يرجع العقلاء إلى الطبيب المتجزي بالرغم من وجود الطبيب المطلق، وأمّا في صورة الشك مثلاً في مرض الكبد فالعقلاء يشكون هل أنّ هذا المرض يرتبط بسائر أعضاء البدن أم لا ؟ فإذا كان يرتبط بسائر أعضاء البدن فلا يرجعون إلى الطبيب المتجزي، وفي مورد شك العقلاء فالمتعين هو القول بالاحتياط.

إذن فسيرة العقلاء تختلف من مورد لآخر في مسألة الرجوع إلى العالم، وحين الشك ينبغي التوقف والاحتياط، بمعنى عدم الرجوع إلى المتجزي. وحينئذٍ نقول بأنّ المسائل الدينية من أهم المسائل، فحتّى لو كان المتجزي أعلم في فن خاصّ ولكن احتمال أن يكون قول المجتهد المطلق في تلك المسألة أقرب إلى الواقع، فمع وجود مثل هذا الأحتمال تكون فتواه أقرب إلى الواقع ولا يمكن الرجوع إلى المتجزي في هذه المسألة الخاصة، ومع وجود هذا الاحتمال لا يمكن القول بوجود السيرة العقلائية، لأنّ سيرة العقلاء إنّما تجيز الرجوع إلى المتجزي في صورة عدم احتمال الخلاف، فلو احتمل الخلاف فإنّ السيرة دليل لبّي ولا يمكن التمسك بها في مورد احتمال الخلاف ومورد الشك، بل يمكن التمسك بها في مورد القدر المتيقن وهو فتوى المجتهد المطلق، إذن ففي مورد الشك في المسألة لا يمكن التمسك بالسيرة، إلاّ إذا كان الإشكال في أصل الكبرى وأن نقول بأن فتوى المجتهد المطلق في هذا المورد ليست بأقرب إلى الواقع، فإذا ناقشنا في أصل هذه الكبرى وأنّ فتوى المجتهد المطلق ليست بأقرب إلى الواقع من فتوى المتجزي، ففي هذه الصورة تكون سيرة العقلاء تامة، غاية الأمر أنّ الكلام في : هل أنّ الشارع ردع عن سيرة العقلاء في مورد الرجوع إلى المتجزي، أم لا ؟ وهل هناك احتمال الردع من الشارع عن هذه السيرة أو لا يوجد مثل هذا الاحتمال ؟

الجواب: أن أدلة جواز التقليد غير سيرة العقلاء، هي الأدلة اللفظية من الآيات والروايات، والأساس في الدليل على جواز التقليد آية النفر وآية السوءال وهما لا تدلان على جواز التقليد، لأنّه أوّلاً: إنّ مصداق آية السؤال: «فَسْـألُوآاْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ» منحصر بالأئمّة المعصومين عليهم ‏السلام كما تقدّم مراراً ولا تشمل العالم غير المعصوم، لأنّ الآية لا تقول : فسألوا أهل العلم إن كنتم لا تعلمون. فإذا كانت الآية الشريفة تقول ذلك فتشمل العالم غير المعصوم، ولكن الآية قالت: فاسألوا أهل الذكر، وأهل الذكر في اللغة وكذلك في العرف وفي سياق الآيات والروايات الشريفة لا يعطي معنى العلم. إذن أوّلاً: إنّ هذه الآية تتعلق بالرجوع إلى الأئمّة عليهم‏ السلام ليقتبس الناس معالم دينهم وأحكامهم الشرعية من الأئمّة عليهم‏السلام لا من غيرهم من الذين يعملون بالقياس والمصالح المرسلة وبالرأي.

ثانياً: إنّ آية السوءال تهدف إلى تحصيل العلم، وتقول أنكم إذا لم تعلموا بأمر من الاُمور فعليكم بالرجوع إلى العالم لتحصلوا على العلم بهذه المسألة، ولكنها لا تدلّ على لزوم الرجوع إلى العالم ولو لم تتمّ تحصيل العلم بالمسألة بأن تقبلوا كلامه تعبداً، والمطروح في مسألة التقليد هو التعبّد بالفتوى وهذا المعنى لا تدلُّ عليه آية السوءال، إذن فهذه الآية لا تثبت حجيّة فتوى المجتهد.

أمّا آية النفر فمنطوق الآية يقول: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ» (10) وهذه الآية لا مفهوم لها بأن غير المتفقه في الدين إذا بيّن الحكم الإلهي للناس فبيانه غير حجّة، فمثل هذا المفهوم لا يوجد في آية النفر، إذن فهذه الآية التي يستدلّ بها على حجيّة الفتوى لا ظهور لها في الردع عن السيرة المذكورة.

أمّا الروايات فمن أظهر هذه الروايات في هذا المورد مقبولة عمر بن حنظلة، ففي هذه الرواية وردت بعض العناوين من قبيل : من نظر في حلالنا وحرامنا وحكم بأحكامنا فإني قد جعلته عليكم حاكماً. ويمكن القول إنّ عنوان الناظر إلى الحلال والحرام والعارف بالأحكام الإلهيّة وأحكام الأئمّة عليهم‏السلام منصرف عن مورد المجتهد المتجزي ولا يشمل المتجزي. وعليه فإذا قلنا بأنّ الدليل على جواز التقليد هو مقبولة عمر بن حنظلة فحينئذٍ يشكل الأمر في التمسك بالسيرة لجواز تقليد المتجزي إلاّ أن نقول بأنّ المراد من المتجزي هو الشخص الذي يملك قدرة علمية معتد بها على استنباط الأحكام الشرعية لا أنّ المقصود من المتجزي كلّ شخص قادر على استنباط مسألة واحدة أو مسألتين، فالمراد من المتجزي هو الشخص الذي يملك قدرة معتد بها على استنباط الأحكام الشرعية، ففي هذه الصورة يصدق عليه عنوان العارف بالحلال والحرام والناظر إلى الحلال والحرام ويكون مشمولاً لمقبولة عمر بن حنظلة. وعليه فهذه الرواية لا تكون رداعة عن سيرة العقلاء أيضاً. إذن في الجملة يمكن التمسك لحجيّة فتوى المتجزي بسيرة العقلاء.

وقد ذكروا في جواز تقليد المتجزي توفر شروط منها :

1 ـ أن يكون المتجزي أعلم في تلك المسألة الخاصة من المجتهد المطلق، فالمجتهد المطلق وبسبب كثرة اشتغالاته وعدم توفر الفرصة لممارسة عملية الاستنباط في جميع الفنون فإنّ المجتهد المتجزي يكون أدق وأعلم في هذا المورد الخاصّ، وإلاّ فمع احتمال أعلمية المجتهد المطلق لا يمكن الرجوع إلى المتجزي وتقليده.

2 ـ أنّ فتوى المجتهد المتجزي في المسألة التي استنبط الحكم الشرعي فيها لا ينبغي أن تكون مخالفة لفتوى المجتهد المطلق والأعلم.

3 ـ في مورد الشك عند الخلاف في الفتوى بين المجتهد المتجزي والمجتهد المطلق في أنّ فتوى المتجزي في هذه المسألة هل تختلف عن فتوى المجتهد المطلق أم لا ؟ هنا يمكن التمسك باستصحاب عدم الاختلاف بين فتوى المجتهد المتجزي مع فتوى المجتهد المطلق، إذن في الجملة وبمقتضى سيرة العقلاء يجوز الرجوع إلى المتجزي مع توفر هذه الشروط المذكورة ويكون تقليده صحيحاً وحجّة، والأدلة اللفظية بدورها ليست ظاهرة في الردع عن سيرة العقلاء على حجيّة فتوى المتجزي.

مضافاً إلى أنّ المجتهد المتجزي إذا كان يملك قدرة معتدا بها على استنباط الأحكام الشرعية فإنّ اطلاق الأدلة اللفظية من الآيات والروايات يشمله ويدلّ على جواز تقليده، لأنّه يصدق عليه عنوان الفقيه والعارف بالحلال والحرام.

عدم الردع عن السيرة

وبمقتضى اطلاق مدارك حجيّة الفتوى وكذلك بحكم سيرة العقلاء يمكن القول بجواز تقليد المتجزي، إنّما الكلام في وجود الردع عن سيرة العقلاء وهل هناك ردع عن سيرة العقلاء شرعاً بالنسبة لتقليد المتجزي أم لا ؟

من جملة الأدلة على جواز التقليد، آية النفر، وقد تقدّم أنّها لا ظهور لها في الردع عن السيرة، لأنّ منطوق الآية يكرر لزوم توجه طائفة من الأشخاص ليتفقهوه في الدين ثمّ يعلمون الناس بالأحكام وينذرونهم عند رجوعهم إليهم، ولكن مفهوم هذه الآية لا يعني إذا بيّن غير الفقيه الحكم الشرعي وأنذر الناس فعلى الناس عدم قبول كلامه.

أمّا البحث عن رادعية مقبولة عمر بن حنظلة التي تقول : من روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم حاكماً. فلقائل أن يقول إن اطلاق «من نظر في حلالنا وحرامنا»يصدق على من ينقل الرواية ويحفظ مقدارا من الروايات، غاية الأمر لابدّ من توفر خصوصيتين في هذه الرواية بحيث تكون منصرفة عمّن ينقل رواية واحدة أو روايتين في باب الأحكام الشرعية.

أحداهما: أن هذه الرواية واردة في باب القضاء وكذلك في خصوص الشبهة الحكمية، من حكم بحكمنا وعندما يكون مورد الرواية وموضوعها يختصّ بباب القضاء فلا يمكن سراية هذه الرواية إلى باب الفتوى.

والآخرى: أن هذه الرواية تقرر نصب القاضي الذي «عرف أحكامنا» وأمّا الشخص الذي يروي بعض الروايات ويعرف بعض مسائل الحلال والحرام فلا يصدق عليه أنّه «عرف أحكامنا»، لأنّ مدلول : عرف أحكامنا، يعني أن هذه المعرفة قد اضيفت إلى حكم الأئمّة وبالتالي فالشخص يكون عارفاً بأحكام الأئمّة عليهم‏السلام ، ولا شكّ أن أحكام الأئمّة كثيرة، والعارف بأحكام الأئمّة لابدّ أن يملك معرفة معتدا بها بالأحكام لكي يمكن أن تكون هذه الإضافة «عرف أحكامنا» صحيحة من جهة الكثرة، فمن يعرف بعض المسائل المعدودة فلا يتناسب مع عنوان : من عرف أحكامنا.

وكذلك ما ورد في مشهورة ابن أبي خديجة حيث تقول : «يعلم شيئاً من قضايانا فإني قد جعلته عليكم حاكماً» (11) . فقضايا الأئمّة عليهم‏ السلام كثيرة، فمن يعلم شيئاً منها يكون منصوباً من قبل الإمام للقضاء، والمراد من : يعلم شيئاً، يعني الشيء الكثير لكي يكون متناسباً مع قضايا الأئمّة عليهم‏ السلام وأحكامهم الكثيرة، وإلاّ فمن يقول : شيء من البحر، ومعلوم أنّ حدود البحر غير متناهية فهل يمكن القول أن : شيء من البحر، يصدق على قطرة أو قطرتين ؟ كلا، فهذه العبارة : شيء من البحر، يمكن أن تصدق على النهر أو على بحيرة على الأقل حتّى يمكن أن تكون النسبة للبحر صحيحة ومتناسبة، وهكذا في مورد : يعلم شيئاً من قضايانا، فيجب أن يكون ذلك الشيء والعلم بذلك الشيء يعني الكثير من الأحكام، حتّى يمكن للقاضي أن يكون منصوباً للقضاء من جانب الأئمّة عليهم ‏السلام .

النتيجة، مع وجود هاتين الخصوصيتين، أحداهما أنّ المقبولة واردة في مورد القضاء، والاُخرى أن نصب القاضي للأئمّة وأنّ منصب القضاء يختصّ بمن : عرف أحكامنا. وهذه النسبة في معرفة أحكام الأئمّة تصدق على العارف بالكثير من الأحكام الإلهيّة وما يعتد بها من الأحكام لكي تتناسب هذه المعرفة مع أحكام الأئمّة، فإنّ المتجزي الذي استنبط الحكم الشرعي في مسألة واحدة أو في بعض المسائل القليلة لا يصدق عليه عنوان : من عرف أحكامنا.

ثالثا:على فرض عدم وجود هذا الانصراف، فنقول إنّ الرواية مجملة في مدلولها فهل أن قوله : روى حديثنا وعرف أحكامنا، يصدق على المتجزي، أو لا ؟ وما هو مقتضى القاعدة ؟

مقام القضاء:

الجواب: لدينا رواية صحيحة في مورد القضاء تدلُّ على أنّ القضاء هو منصب النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله والإمام المعصوم عليه‏السلام ، فعن هشام بن سالم عن سليمان بن خالد عن أبي عبداللّه‏ عليه ‏السلام : «اتقوا الحكومة فإنّ الحكومة (يعني فإنّ القضاوت) إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين من نبي أو وصي نبي» (12) .

وهذه الرواية تحصر حقّ الحكومة والقضاء للنبي وللإمام، ولكن من أين نفهم أنّ الحكومة في هذه الرواية بمعنى القضاء لا بمعنى السلطة على المجتمع ؟ وذلك بقرينة أنّ الرواية تقول: فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء. وعليه فالحكومة هنا بمعنى القضاء لا بمعنى السلطة على الاُمور الاجتماعية والسياسية.

النتيجة: أنّ المستفاد من هذه الرواية حصر الحكومة والقضاء بالنبي ووصي النبي وهو الإمام المعصوم. وحينئذٍ يرد هذا السوءال : هل أنّ هذه الرواية قد ورد فيها التخصيص والاستثناء وأن غير النبي وغير الوصي يحقّ لهم القضاء أيضاً، أو لم يرد مثل هذا التخصيص للعام ؟

الجواب: إنّ هذه الرواية العامة مخصّصة بمقبولة عمر بن حنظلة، ومفادها أن غير النبي وغير وصي النبي وأي الإمام المعصوم منصوب للقضاء أيضاً من قبل النبي صلى‏الله‏عليه‏و‏آله أو الإمام المعصوم عليه ‏السلام وله حقّ الجلوس في مجلس القضاء.

ولكن من هذا الذي يحقّ له القضاء ؟ إنه : من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا، فمثل هذا الشخص مستنثى من ذلك العام في الرواية السابقة وبالتالي يجوز له القضاء، وإذا لم نتمكن من القول أنّ مقبولة عمر ابن حنظلة تدلُّ على التخصيص وعلى جواز القضاء لمن عرف أحكامنا، فمن هو العارف بالأحكام والمنصوب للقضاء من قبل الإمام ؟ هل أنّه العارف بالأحكام الذي ورد في سياق المقبولة مقيداً بكونه : من عرف بأحكامنا، وهل يصدق هذا العنوان على من عرف مسألة أو مسائل معدودة من الأحكام، أو لا يصدق ؟ فيدور الأمر بين الأقل والأكثر في الخارج من العام، وفي دوران الأمر بين الأقل والأكثر فمقتضى القاعدة خروج القدر المتيقن، وهو المجتهد المطلق، مثلاً لو قيل : اكرم العلماء، فهذا عام ويوجد هناك دليل خاصّ يقول : لا تكرم العالم الفاسق. فلا شكّ أنّ العالم الفاسق خارج من دائرة العام وهو : اكرم العلماء، يعني أنّ مقتضى العام : اكرم العلماء، هو شمول الاكرام للعالم العادل والعالم الفاسق، فلو لم يكن هناك مخصص لهذا العام فيجب احترام واكرام جميع العلماء العدول والفساق على السواء. ولكن ورد دليل خاصّ يقول : لا تكرم العالم الفاسق، وهذا الدليل المخصّص يخرج العالم الفاسق من دائرة العام : اكرم العلماء، غاية الأمر أنّ معنى الفسق مجمل ولا نعلم هل أنّ مفهوم الفسق يصدق على من يرتكب الذنوب الكبيرة فقط أو أنّ مفهوم الفسق يصدق على مرتكب الكبيرة والصغيرة أيضاً. فيدور الأمر بين الأقل والأكثر، في مفهوم الفسق، وحينئذٍ فبالنسبة للشخص المرتكب للكبيرة فهو خارج قطعاً من ذلك العام بدليل المخصّص : لا تكرم العالم الفاسق، وأمّا مرتكب الصغيرة فنشك هل أنّه خرج من دائرة العام : أكرم العلماء، بهذا الدليل المخصّص، وفي مورد الشك نتمسك بأصالة العموم وأن : أكرم العلماء، شامل للعالم المرتكب للصغيرة أيضاً فيجب اكرامه واحترامه لأننا نشك في خروجه وتخصيصه فنتمسك بعموم : اكرم العلماء.

وهكذا فيما نحن فيه فإنّ مقتضى أصالة العموم : اتقوا الحكومة فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، فهذا عام، وأصالة العموم تحصر مقام القضاء للنبي صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله وللإمام المعصوم عليه‏ السلام ، وقد خرج عن هذا العموم لوجود المخصّص وهو مقبولة عمر بن حنظلة وهذا المخصص هو : من عرف أحكامنا، فيجوز له القضاء ويكون منصوباً من قبل الإمام، فمن عرف الكثير من أحكام الأئمّة عليهم‏ السلام يحقّ له القضاء. وأمّا من عرف بعض المسائل المعدودة في القضاء وعرف بعض الأحكام الشرعية، نشك : هل أنّه خارج من أصالة العموم التي تحصر منصب القضاء بالنبي صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله والإمام المعصوم عليه‏ السلام ، أو لم يخرج ؟ فنشك في الاستثناء والتخصيص وحينئذٍ نتمسك بأصالة العموم، وعليه فإنّ المجتهد المتجزي لا يجوز له القضاء لأنّ عنوان المخصص هو : من نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، وهذا العنوان لا يصدق على المتجزي.

إذن فمقتضى القاعدة أنّ القدر المتيقن الخارج من أصالة العموم هو جواز القضاء للمجتهد المطلق، وأنّ المجتهد المطلق خارج ومستثنى من ذلك العام، ونشك حينئذٍ في المجتهد المتجزي هل هو خارج عن ذلك العام أيضاً ويحقُّ له القضاء، أو لا ؟ ومقتضى القاعدة عدم خروجه من ذلك العام وعدم جواز القضاء بالنسبة له.

مضافاً إلى أنّ باب القضاء يختصّ بخصوصيات لا توجد في باب الافتاء، منها:

أوّلاً: في باب القضاء هناك إلزام للقاضي على المقضي عليه بحكم الولاية للقاضي، وهذا يعني أنّ المقضي عليه يجب عليه الالتزام بالحكم الصادر من القاضي الذي له الولاية في هذا المورد، ولكن في باب الإفتاء لا يوجد إلزام بالحكم الشرعي، فالمفتي والمجتهد لا يحقّ له إلزام المقلِّد بقبول فتواه، بل ينبغي عليه في باب الإفتاء الإخبار بالحكم الإلهي والإفتاء بالحكم الشرعي لا الإلزام بالحكم.

ثانياً: لا أحد غير اللّه‏ تعالى يحقُّ له إلزام الآخرين بحكم معين، فاللّه‏ تعالى هو المالك الحقيقي لجميع الأشياء وجميع الكائنات وهو ربّ العالمين وله الحقّ في إلزام عباده بأمر وحكم من الأحكام، وليس للآخرين الحقّ في ذلك سواء ما ورد في الروايات في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر له حقّ إلزام الطرف المقابل بالعمل بالمعروف أو ترك المنكر بشروط معيّنة، منها: أن يكون الآمر بالمعروف نفسه عاملاً بالمعروف وتاركاً للمنكر، وإلاّ
فإن كان الآمر بالمعروف تاركاً له أو كان الناهي عن المنكر عاملاً به فليس له حقّ إلزام الآخرين بذلك.

النتيجة، في باب القضاء عندما يكون للقاضي حقّ الإلزام على المقضي عليه فربّما يلزم المقضي عليه أمراً على خلاف تكليفه الشرعي أي تكليف المقضي عليه، لأنّ المقضي عليه ربّما يكون مقلداً لمجتهد معيّن وهذا القاضي يلزمه بعمل مخالف لفتوى مقلِّلدِه. فمع وجود هذه الخصوصية المخالفة للأصل في باب القضاء لا يمكن القول إنّ مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في باب القضاء تشمل أيضاً باب الفتوى، لا بالملازمة العرفية ولا من حيث إلغاء الخصوصية، لأنّ الخصوصية في باب القضاء غير الخصوصية في باب الإفتاء، ولا من خلال تنقيح المناط، لأنّ تنقيح المناط إنّما يكون موءثراً إذا كان قطعياً في مورد الإفتاء، وعندما لا يمكن سراية مقبولة عمر بن حنظلة من مورد القضاء إلى مورد الفتوى، فحينئذٍ من البديهي أن لا تكون مقبولة عمر بن حنظلة رادعة عن سيرة العقلاء في مورد جواز فتوى المتجزي، ولا ترتبط اطلاقاً بباب الفتوى، وعندما تكون المقبولة مختصة بباب القضاء فلا يمكن أن تكون رادعة عن سيرة العقلاء الدالة على جواز تقليد المتجزي.

وكيف كان، فتقليد المتجزي جائز، ولا رادع شرعاً وعقلاً عن اتباع المجتهد المتجزي في المسألة التي استنبط حكمها، وطبعاً مع الشروط الأربعة التي سبق بيانها. هذا تمام الكلام في حجيّة فتوى المجتهد المتجزي.

الجهة الرابعة: نفوذ قضاء المتجزي وعدمه

أمّا الكلام في الجهة الرابعة من حيث نفوذ قضاء المتجزي وعدم نفوذه، وقد تبيّن توضيح هذا الموضوع من خلال ما تقدّم من الكلام في الجهة الثالثة، لأنّ رواية سليمان بن خالد عن الإمام الصادق عليه‏السلام التي تقدم بيانها، تحصر مقام القضاء بالنبي ووصيه الإمام المعصوم، ومن هذا الحصر ومن عموم مقام القضاء للنبي والوصي استثني المجتهد المطلق وذلك من خلال الأدلة الخاصة ومقبولة عمر بن حنظلة التي تقرر أنّ العارف بالأحكام والناظر إلى الحلال والحرام منصوب للقضاء من قبل الإمام المعصوم عليه‏السلام ، وهذا العنوان، أي عنوان الناظر إلى الحلال والحرام والعارف بالأحكام ومن حكم بحكمنا صادق في مورد المجتهد المطلق، ولكن هل هو صادق أيضاً على المجتهد المتجزي ؟ فهو مشكوك، ومقتضى القاعدة عند الشك عدم التخصيص وعدم جواز قضائه، وكذلك عند الشك في منصب القضاء وهل أنّ للمتجزي الحقّ في القضاء، فبمقتضى قاعدة عدم جعل القضاء له يدخل هذا المورد في ذلك العام.

وهكذا بالنسبة لولاية المتجزي للاُمور الاجتماعية فهل ولايته نافذة أم لا ؟ مقتضى القاعدة عدم نفوذ ولايته، لأنّ مقتضى الأصل وقاعدة عدم ولاية أحد على أحد سوى اللّه‏ تعالى لأنّ ولايته ذاتية، فلابدّ من جعل ولاية اعتبارية من قبل اللّه‏ تعالى لأحد الأشخاص ليخرج بالتالي عن عموم تلك القاعدة وذلك الأصل وهو : أصل عدم ولاية أحدٍ على أحد، وقد خرج النبي صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله والإمام المعصوم عليه‏ السلام عن هذه القاعدة والأصل وجعلت لهم الولاية بالأدله الأربعة : الكتاب والسنّة والإجماع وحكم العقل، فكان للنبي والأئمّة ولاية مطلقة بهذه الأدلة الأربعة، كما تقول الآية الشريفة : «النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ» (13) .

وكلّ إنسان له الحقّ والولاية في التصرف في شوءوناته وتقرير مصيره وماذا يدرس وأين يسافر وأي منهج يتخذه في حياته وهكذا، ولكن النبي الأكرم والأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام هم أولى بهذا الإنسان من نفسه في التصرف بشوءون حياته وتقرير مصيره «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَـوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَا كِعُونَ» (14) فبمقتضى الروايات والإجماع ومقتضى حكم العقل ثبوت الولاية المطلقة للنبي صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله والإمام عليه ‏السلام على الأحكام والأموال ونفوس أفراد المجتمع وتطبيق الاُمور الاجتماعية.

وأمّا بالنسبة لغير المعصوم والفقيه فاثبات الولاية المطلقة له محل نزاع، فمشهور العلماء قالوا بعدم ثبوت الولاية المطلقة للفقيه، ومن جملة مشاهير العلماء آية اللّه‏ الخوئي والمرحوم الشيخ الأنصاري رحمهما الله ، وعلى فرض تمامية أدلة النيابة العامة للفقيه فإنّ الضرورة تقدّر بقدرها، لأنّ الولاية على الاُمور العامة وولاية الإنسان على غيره سواء في بيان الأحكام الشرعية أم في التصرف في الاُمور الاجتماعية مخالف للأصل والقاعدة، وقد ورد عن الإمام علي عليه‏ السلام قوله : «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللّه‏ حرّاً». ولكن نقول بالولاية للمجتهد المطلق بمقدار دفع الضرورة وحفظ النظام الاجتماعي، وأمّا ثبوت هذه الولاية للمتجزي فمشكوك ومقتضى القاعدة في مورد الشك عدم نفوذ ولايته وعدم نفوذ ولايه أحد على أحد، وعلى هذا الأساس يتبيّن أيضاً عدم نفوذ قضاء المجتهد المتجزي وعدم نفوذ ولايته، ومقتضى القاعدة في مورد جعل الولاية له، عدم جعل الولاية.

هذا تمام الكلام في الأحكام المترتبة على المجتهد المطلق والمتجزي من جهات الأربعة التي تلوناها.

قال اللّه‏ عزّوجلّ: «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وأَطِيعُواْ الرَّسُولِ وَأُوْلِى الاْءَمْرِ مِنكُمْ» (15)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 . كفاية الأصول، ج2، ص 466.
2. سورة الرعد : الآية 43.
3. سورة الأنعام : الآية 59.
4. سورة الحجر : الآية 87.
5 . عقاب وثواب الأعمال، للشيخ الصدوق رحمه‏الله .
6 . نهج البلاغة، الرسالة 147.
7 . المصدر السابق، الخطبة 93 و 189.
8. مستمسك عروة الوثقى، ج1، ص 44.
9. وسائل الشيعة : ج 18، أبواب صفات القاضي، باب 1، حديث 5.
10. سورة التوبة : الآية 122.
11 . وسائل الشيعة : ج 18، ص 4 أبواب صفات القاضي باب 1 حديث 5.
12. وسائل الشيعة : ج 18، أبواب صفات القاضي، باب 3 حديث 3.
13. سورة الأحزاب : الآية 6.
14. سورة المائدة : الآية 55.
15. سورة النساء : الآية 59.