الفصل الثاني

بيان القواعد الكلية للأحكام الشرعية الواردة في الكتاب والسنّة ومشروعية مدرسة الاجتها وهذه مقولة الإخباريين


تقدم سابقا أنّ الإمام المعصوم عليه‏السلام عالم بالأحكام الإلهيّة بالعلم الحضوري وعالم بالواقع وأن اطلاق كلمة الاجتهاد والمجتهد على شخص الإمام المعصوم عليه‏السلام وعلى علمه باطل ولا مورد له، وبشهادة تاريخ الإسلام أنّه لا أحد من الأئمّة المعصومين عليهم‏السلام درس في مدرسة بشرية، ولم يتتلمذوا على يد بشر أو مدرسة بشرية وحالهم حال رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله الذي لم يدرس عند أحد قط، ولكنّه كان يملك علما لدُّنيا وحضوريا بالأحكام الإلهيّة فما تصرح به الآية وتقول: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» (1) .

وهنا بحث تفسيري في هل أنّ هذا العلم اللدني الإلهي الذي يسمى بالوحي والقرآن، قد نزل على رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله بواسطة ملك، أو أنّ مقام رسالة ونبوة رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله قد تسامت وارتفعت وازداد مقامه ومنزلته المعنوية إلى درجة أنّه أصبح يملك القابلية واللياقة لإستقبال الوحي الإلهي بدون واسطة الملك؟ وهذا بحث يستحق الدراسة والتمعن ولكنّ نتيجته واحدة وهي أنّ رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله كان يملك علما حضوريا ولدنيا بالأحكام والحقائق الواقعية عن طريق الوحي الإلهي.

وهكذا بالنسبة للأئمّة عليهم ‏السلام فإنّهم يعلمون بالأشياء والأحكام بالعلم الحضوري بواسطة الإلهام الإلهي، وكما أنّ مقام إمامتهم ليس أمرا اجتهاديا ولا يمكن لأحد بواسطة الرياضة النفسانية وتحصيل العلم والاجتهاد الوصول لمقام الإمامة، فالإمامة عهد اللّه‏ والهدية السماوية، وأنّ اللّه‏ تعالى يعلم بمقتضى علمه الأزلي من هو الشخص الذي له القابلية للتصدي لمقام الإمامة ومن لا يملك مثل هذه القابلية، ويعلم الأشخاص الذين لهم اللياقة للتصدي لهذا العهد الإلهي ومقام الإمامة، والقرآن الكريم يصرّح بهذه الحقيقة ويقول: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه‏ُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا» (2) . وكذلك ما ورد في سورة الأنعام في قوله تعالى: «اللّه‏ُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ...» (3) .

الغرض إنّ اطلاق كلمة الاجتهاد بالنسبة لعلم المعصوم باطل، لأنّه لا معنى لكلمة الاجتهاد في مورد العلم الحضوري واللدنّي، غاية الأمر أنّ أرباب الوحي والعصمة عليهم‏السلام قد أيّدوا مدرسة الاستنباط والاجتهاد بشروط معينة وأنّ الأئمّة الهداة قد أرشدوا فقهاء الشيعة لاستنباط الأحكام من الأدلة الشرعية وكيفية استنباط الأحكام الإلهيّة من الكتاب والسنّة وبالتالي بيانها للناس.

مشروعية الاجتهاد المصطلح ومنابعها:

إنّ العلم الاجتهادي واجتهاد الفقهاء في بيان الأحكام قد وقع مورد تأييد الإمام المعصوم عليه‏ السلام وإمضائه بشروط وكيفيات خاصة، وفي هذا المورد هناك روايات متعددة في هذا الشأن، منها ما ورد عن الإمام الرضا عليه‏ السلام حيث قال:«علينا إلقاء الأصول وعليكم بالتفريع» (4) . وعن محمّد بن إدريس في آخر السرائر نقلاً من كتاب هشام بن سالم عن أبي عبداللّه‏ عليه ‏السلام قال: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا» (5) .

فالأئمّة عليهم‏ السلام يبيّنون كليات وحقائق الأحكام ولكنّ تطبيق هذه الكليات على الجزئيات يتمّ من خلال منهجيّة الاجتهاد الصحيح، إذن فالاجتهاد المستند إلى الحجّة والدليل الشرعي المعتبر صحيح وهو ما يملك مستندات ومدارك معتبرة شرعا والتي تسمى في علم الأصول بالامارات والطرق الشرعية، ففي مورد لا يكون هنا علم وجداني بالحكم وقد ثبت الحكم بواسطة الامارات الشرعية فإنّه يكون مورد قبول المعصوم والشارع المقدّس، ولكنّ الكلام في أنّه: ما مقصود من الحجّة.

بالنسبة للقرآن الكريم وهو الأساس والأصل للأحكام الإلهيّة فإنّ حجيّته ذاتية، لأنّه كلام اللّه‏ تعالى والوحي الإلهي، وحتى الروايات في مقابل القرآن لا تملك حجّية ذاتية، فروايات المعصوم عند مقارنتها بالقرآن فإنّ حجيتها بالعرض وقد ورد هذا المعنى في روايات متعددة عن رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله وسائر الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام بأنّ إذا وردت عليكم رواية وشككتم بأنّ هذه الرواية صادرة عن المعصوم أم لا، فاعرضوها على القرآن، فإن كانت موافقة للقرآن فاعملوا بها وإلاّ فاضربوها على الجدار، لأنّ الرواية المخالفة للقرآن لا يمكن أن تصدر من المعصوم، والنتيجة لهذا الكلام أنّه في مقام الشك في حجّية الأخبار والروايات فملاك الحجيّة هو عرض هذه الروايات على القرآن والمعيار هو موافقة الرواية للقرآن، وهذا المعنى يؤيد ما تقدم من أنّ حجية القرآن ذاتية والمعيار والملاك لحجّية الأخبار والروايات هو القرآن الكريم، حيث تعرض الأخبار والروايات على القرآن فإنّ كانت موافقة له فإنّها مقبولة وحجّة وإلاّ فينبغي ضربها على الجدار. وحتى النبي الأكرم صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله حذّر الناس في حياته من الكذّابين عليه حيث يقول صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله في حجّة الوداع:
«قد كثرت عليَّ الكذابة ويستكثّر، فمن كذّب عليَّ متعمدا فليتبوء مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب اللّه‏ وسنتي، فما وافق الكتاب وسنتي فخذوا به وما خالف كتاب اللّه‏ وسنتي فلا تأخذوا به» (6) .

جمع الجوامع:

إنّ القرآن الكريم يعدّ جمع الجوامع وكتاب التكوين والتدوين الإلهي، لأنّ عالم التكوين مهما كان فهو ظهور الذات والصفات الإلهيّة وفعل الحق تعالى، وفي القرآن الكريم تتجلى الذات والصفات الإلهيّة وفعل الحق تعالى في هذا الكلام الإلهي.

لقد بيّن القرآن الكريم أحكاما وتعاليم في موارد مصير الإنسان وأحكام الحلال والحرام وما يساهم في هداية الإنسان وترتيب وتنظيم معاشه ومعاده وبذلك يتسنى له السير في طريق التكامل الإلهي والمعنوي، وتلك الأحكام واجبة الامتثال عقلاً وشرعا، إلاّ في موارد خاصة ممّا لا يتبيّن فيها الحكم للأفراد العاديين بمعنى أنّ الشخص العادي وغير المعصوم تكون له تلك الآيات من المتشابهات في القرآن الكريم، وهنا يجب على الإنسان التوقف والاحتياط لأنّ هذه الآية من المتشابهات ولا يتبيّن منها الحكم الشرعي بشكل واضح للإنسان العادي، ومادام الحكم مجملاً فالعقل يحكم بوجوب التوقف والاحتياط، وقد بحثت هذه النقطة في الجزء الثالث من مقدمة التفسير التحليل للقرآن الكريم في مسألة التأويل والمتشابه، والظاهر والنص والمجمل، وطرح هناك هذا السؤال:
هل أنّ الآيات المتشابهة في القرآن متشابهة بالذات أو بالعرض، بمعنى هل أنّ التشابه وغموض المعنى في الآيات المتشابهة هو ذاتي لهذه الآيات أو لأمر طارى‏ء عليها؟

الجواب: إنّ التشابه في الآيات المتشابهة طارى‏ء عليها وبالعرض لا بالذات، والآيات المحكمات في القرآن الكريم تفسر الآيات المتشابهات أو يستفيد الإنسان من روايات المعصومين عليهم‏السلام في حلّ هذا التشابه العرضي، إذن فهذه الآيات متشابهة بالعرض وبعد بيان الآيات المحكمة أوبعد تفسير المعصوم عليه‏السلام تكون هذه الآيات المتشابهة بالعرض من المحكمات.

والحاصل أنّ القرآن الكريم بيان لهداية الإنسان في خط الكمال والهداية والسعادة من خلال بيان أحكام الحلال والحرام في حياة الإنسان، ومن هنا فهو حجّة من جميع الجهات والتمسك به يقود الإنسان لتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.

الطرق والامارات الشرعية:

إنّ استنباط الأحكام الشرعية لابدّ أن يكون مستندا على الحجّة الشرعية ومورد تأييد الشارع وفي هذه الصورة يكون الاجتهاد صحيحا، أمّا ما هي الحجّة الشرعية؟
الحجّة الشرعية بنصّ منابع الأحكام على أربعة أقسام:

1 ـ القرآن الكريم هو حجّة بالذات وقد تقدّم بيانه.

2 ـ الروايات فيما إذا كانت مستندة في نقلها إلى الثقات من الرواة وكانت موثوقة الصدور من المعصوم عليه‏السلام فيمكن استنباط الأحكام الشرعية من هذه الروايات، إنّما الكلام في كيفية إثبات حجّية خبر الثقة أو خبر الموثوق الصدور عن المعصوم والاطمئنان بصدور تلك الروايات عن المعصومين، فمادمنا لم نحرز وثوق صدور تلك الروايات عن المعصوم أو أنّ ذلك الخبر ورد عن غير الثقة فلا سبيل لإثبات حجّية الروايات، لأنّ اعتبار وحجيّة الروايات تختلف عن حجّية القرآن الكريم، فحجّية القرآن الكريم أمر ذاتي وقطعي والقرآن بالضرورة محفوظ من التحريف ولا يمكن عقلاً وشرعا أن تناله يد التحريف: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (7) . فعندما يكون اللّه‏ تعالى هو الحافظ للقرآن فلا معنى أن تطاله يد التحريف والتشويه.

وإذا ظهر في كلمات البعض أحيانا القول بتحريف القرآن فإنّ ذلك بسبب عدم التحقيق وعدم الالتفات إلى بعض الأمور أو بدافع سوء النيّة والخبث الباطني تجاه القرآن.

وعندما يكون تحريف القرآن محالاً عقلاً وشرعا نفهم أنّ كل حكم ورد في القرآن الكريم هو حجّة عقلاً وشرعا، لأنّ القرآن كلام اللّه‏ وحجّيته ذاتية، وهذا على خلاف الروايات التي وردت في شأنها شبهة التحريف وقابلة للتحريف ولاسيما مع تسلط خلفاء بني أمية وبني العباس على الحكم واستلامهم زمام السلطة في المجتمع الإسلامي وما أحاط بهم من الكذابين ووضاع حديث لتثبيت سلطنتهم وتحقيق مآربهم السياسية والاجتماعية، ولذلك برزت الكثير من الروايات الموضوعة في تلك العصور، ومن هنا فالروايات إذا لكم تكن منقولة من ثقة أو لم تكن موثوقة الصدور من المعصوم فهي ليست بحجّة، ومن أجل احراز وثوق صدور الروايات عن المعصوم لابدّ من احراز أربعة أمور، وإلاّ إذا ورد الخلل في أحد هذه الأمور الأربعة أو كانت كلها غير تامة فلا يمكن القول بحجّية تلك الروايات.

شرائط حجّية الروايات:

الأمر الأول: إصالة السند وأن يكون السند تاما، بمعنى يجب التحقيق في الروايات من حيث سندها فإنّ كان ذلك الخبر متواترا فإنّه مفيد للعلم وحجّية العلم ذاتية، وإذا كان الخبر خبر واحد فيحتاج إلى التحقيق في سلسلة سنده وينبغي على الأقل أن يكون لدينا وثوقا واطمئنانا نفسيا بأنّ هذه الرواية صادرة من إمام معصوم عليه‏ السلام ، وإلاّ فإنّ كانت إصالة السند مخدوشة وكان الخبر مشكوك الصدور عن المعصوم ففي هذه الصورة لا يمكن القول بأنّ هذه الرواية خبر ثقة أو موثوقة الصدور عن المعصوم.

الأمر الثاني: اصالة الجهة فإذا كانت الرواية خبر ثقة من حيث السند وكانت موثوقة الصدور عن المعصوم ولكن بلحاظ جهة صدور الرواية لم تكن في مقام بيان المراد الجدي والحكم الواقعي، فالإمام عليه‏السلام عندما أخبر بمضمون تلك الرواية إمّا أن يكون في مقام التشريع كأن يقول «يحرم الغناء» فهنا ورد تشريع حرمة الغناء ولكن الإمام لم يكن في مقام بيان خصوصيات هذا الحكم، أو أنّ الإمام كان في مقام الامتحان أو التقية، فصحيح أنّ هذه الرواية من حيث السند تامة وصادرة من الإمام عليه‏ السلام ولكن الإمام لم يكن في مقام بيان جهة الحكم الواقعي والمراد الجدي الإلهي وكان في مقام التقية ولم يكن يملك حرية البيان والحكم الواقعي والمراد الجدي، فمثل هذه الرواية أيضا غير حجّة.

الأمر الثالث: أن تكون الرواية لها ظهور في المراد الجدي والحكم الواقعي، ولكنّ المراد من هذه الرواية لم يكن المعنى اللغوي للكلام أو المراد الصوري والاستعمالي وإلاّ فإنّ هذه الرواية التامة من حيث السند ومن حيث جهة الصدور وبيان المراد الجدي، ولكن توجد قرينة على خلاف الظاهر أو كان هناك ظهور في المراد الاستعمالي والصوري فهذه الرواية أيضا ليست بحجّة.

الأمر الرابع: أن تكون الرواية لها ظهور في المعنى المراد للشارع وليس مجملة، وإلاّ فإن كانت الرواية مجملة فهي غير حجّة أيضا.

النتيجة: إنّ وثوق صدور الروايات وإثبات أنّه موثوقة الصدور عن الإمام إنّما يثبت إذا ثبتت هذه الأمور الأربعة وإلاّ إذا لم يثبت أحد هذه الأمور الأربعة فلا يمكن القول بأنّ تلك الرواية حجّة شرعية.

رسالة العقل:

3 ـ حكم العقل، وهو الدليل الشرعي الثالث، والعقل في صورة توفر شروط الكاشفية له عن الأحكام الشرعية فإنّ حكم العقل حجّة بالذات، و قد ورد تأييد حجّية العقل في الآيات والروايات الشريفة، وقد وردت روايات متظافرة تقرر بأنّ العقل يمثّل حجّة باطنية إلهيّة: «وللّه‏ على الناس حجّتين حجّة ظاهرة وهي الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم‏ السلام وحجّة باطنة وهي العقل» (8) . وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه‏ السلام : «العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان» (9) .

والمراد من أنّ العقل حجّة إلهيّة وباطنية وحجّة شرعية فيما إذا كان كاشفا عن الحكم الشرعي، ومن جملة موارد حجّية العقل، الاستلزامات العقلية، وحكم العقل تارة يكون استقلاليا وأخرى غير استقلالي.

أمّا الحكم الاستقلالي للعقل، فهو أن يدرك العقل الحكم سواء ورد بيان للشارع في هذا الخصوص أم لم يرد بيان شرعي، من قبيل استحالة اجتماع النقيضين والضدين في الخارج، فسواء قال الشارع أيّها الناس إنّ اجتماع النقيضين محال، أو لم يقل الشارع بذلك فالعقل بالاستقلال يدرك استحالة اجتماع النقيضين، أو أنّ الواحد نصف الاثنين أو في مورد وجوب الطاعة للمولى الحقيقي، طبعا ليس في مورد وجوب اطاعة الأنبياء والأولياء، ففي مورد وجوب اطاعة المولى الحقيقي وهو اللّه‏ تعالى فإنّ العقل يدرك بالاستقلال بأنّ اطاعة المولى الحقيقي واجبة بلحاظ شكر المنعم أو من باب قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل أو بقاعدة لزوم حق الطاعة، فإذا ورد في هذا الخصوص حكم شرعي يقرر وجوب الطاعة من قبيل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه‏َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...»، فهو حكم إرشادي.

وأمّا حكم العقل غير الاستقلالي، فيعني أنّ العقل إنّما يستطيع الحكم بشيء معين إذا كان الشارع قد بيّن هذا الشيء وبعد بيان الشارع يدرك العقل ذلك الحكم، وإلاّ فمادام الشارع لم يبيّن شيئا في خصوص ذلك المورد فإنّ العقل لا يتمكن من ابداء رأيه في هذا المورد بشكل مستقل، وحكم العقل غير الاستقلالي تارة لا يقع في طريق إستنباط الحكم الشرعي من قبيل حكم العقل بوجوب اطاعة الأحكام الإلهيّة فمثل هذا الوجوب العقلي للإطاعة لا يتحقق منه الوجوب الشرعي للاطاعة لإنّ ذلك يستلزم اللغوية والتسلسل المحال.

وتارة أخرى يقع حكم العقل غير الاستقلالي في طريق استنباط الحكم الشرعي، مثلاً في مورد وجوب المقدمّة أولاً: يقول الشارع: أيّها الناس تجب عليكم الصلاة وبعد بيان الشارع هذا يتحرك العقل للحكم بالملازمة بين ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة لأنّه لا يستطيع المكلّف شرعا الإتيان بذي المقدّمة وهي الصلاة بدون الإتيان بالمقدمة.

إذن ففي هذا المورد نرى حكم العقل بوجود ملازمة شرعية بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة، فطبعا وجوب المقدّمة شرعي لا أن نقول بأنّ وجوب المقدّمة عقلي، وإلاّ فهذا الوجوب العقلي للمقدّمة مفروغ عنه ولا أحد يبحث في أنّه هل مقدمة الواجب واجبة عقلاً أو لا؟ لأنّه في نظر العقل لا يمكن الإتيان بذي المقدّمة إلاّ من خلال امتثال المقدّمة والاتيان بها، فالبحث في الوجوب الشرعي للمقدمة وحينئذٍ يكون وجوب المقدّمة شرعا كاشفا عن ذلك الدليل العقلي.

إذن فأحد المدارك أو الحجج الشرعية حكم العقل، وحكم العقل يتبيّن بصورة أوضح في قاعدة الملازمة، وعندما يحكم العقل في مسألة من المسائل ويتحرك البعض لمخالفته فهو مستحق للعقوبة عقلاً وشرعا.

ونرى في القرآن الكريم آيات متعددة تؤيد حكم العقل من قبيل: «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (10) . و«إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (11) . و«أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الاْءِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الاْءَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» (12) . فهذه الموارد كلها تمثّل آيات وعلائم للتوحيد وعلى الإنسان أن يتأمل ويتدبر فيها «إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (13) و«لاَآيَاتٍ لاُِولِي الاْءَلْبَابِ» (14) .

وفي خبر عن الإمام الصادق عليه‏ السلام قال: «العقل دليل المؤمن» (15) .

وفي خبر آخر عنه عليه‏ السلام قلت له: ما العقل؟ قال: «ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان» (16) .

وفي خبر هشام بن الحكم، عن موسى بن جعفر عليه‏ السلام قال: «ياهشام إنّ للّه‏ على الناس حجتين حجّة ظاهرة وحجّة باطنة فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة وأمّا الباطنة فالعقول» (17) .

وفي مقابل ذلك نرى الأشخاص الذين يعرضون عن حكم العقل ولا يتحركون في خط التفكير والتدبر القرآن الكريم يذم هؤلاء ويقول: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّه‏ِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ» (18) و«إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّه‏ِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ» (19) . فنرى أنّ القرآن الكريم وفي آيات عديدة يؤكد على حجّية مدركات العقل السليم.

4 ـ «مقولة الإجماع» غاية الأمر أنّ الإجماع الذي هو من الحجج الشرعية هو الإجماع المحصل الذي يكشف عن قول المعصوم عليه‏ السلام وإلاّ فإنّ الإجماع بما هو إجماع لا موضوعية له في الحجج الشرعية، لأنّه كما أنّ الفرد غير المعصوم ويمكن في حقه الخطأ والحكم سهوا ونسيانا، فإنّ مجموع الاُمّة بدون المعصوم يمكن في حقها الخطأ أيضا، لأنّ مجموعة الاُمّة ليسوا سوى هؤلاء الأفراد، وعندما يكون كل فرد من الأُمّة ممكن الاشتباه والنسيان والخطأ فإنّ مجموع الأمّة المكوّنة من هؤلاء الأفراد يمكن في حقّها النسيان والخطأ والاشتباه أيضا، ولذلك فلا يكون قول مجموع الاُمّة حجّة.

ومن هنا نرى بطلان القول بأنّ الإجماع له موضوعية وهو حجّة بما هو إجماع، فلا يوجد مستند شرعي لحجية الإجماع ولا مستند عقلي، ومختار الإمامية أنّ الإجماع حجّة في الأحكام الشرعية ومرادهم من ذلك طريقية الإجماع، فالإجماع حجّة لا بما هو إجماع بل بما هو طريق وكاشف عن قول المعصوم عليه ‏السلام ، وفي الحقيقة أنّ الإجماع كما ورد في كلمات الأصوليين دليل على الحكم لا أنّه حكم شرعي، والحكم الشرعي هو بيان المعصوم ورواية المعصوم عليه ‏السلام أمّا الإجماع فعلى فرض إثبات حجّيته فإنّه يكون دليلاً وكاشفا عن الحكم الشرعي وبيان المعصوم عليه‏ السلام .

عدم حجّية الإجماع المنقول:

وقد بحث علماء الإمامية وفقهاؤهم في علم الأصول بالتفصيل مسألة حجّية الإجماع المحصّل وأنّهم يقولون بحجّيته على سبيل الطريقية والكاشفية عن قول المعصوم.

أمّا بالنسبة للإجماع المنقول فلا يعتقدون بحجّيته، ويقول الشيخ الأنصاري رحمه‏ الله في الرسائل: إنّ الإجماع المنقول ليس بحجّة علمية ولا بحجّة تعبدية، أمّا كونه ليس بحجّة علمية لأنّ الإجماع مفيد للظن لا العلم الذي تكون حجّيته ذاتية، وأمّا كونه ليس بحجّة تعبدية فلأنّ الإجماع المفيد للظن لا دليل لدينا على حجّية هذا الظنّ الحاصل من الإجماع المنقول، لأنّ الظنون الخاصة التي قام الدليل على حجيّتها هي من قبيل الظن الخاص الحاصل من خبر الثقة والظن الحاصل من ظاهر الكتاب والظن الحاصل من سيرة وبناء العقلاء التي لم يثبت الردع عنها.

وأمّا بالنسبة للظن الحاصل من الإجماع المنقول فلا دليل لدينا على اعتباره شرعا، ولا يوجد دليل مستقل على حجّية الإجماع المنقول، فإذا قلنا بأنّ الدليل على حجّية الظن الحاصل من الإجماع المنقول هو اطلاق أدلة حجّية خبر الواحد، فإنّ اطلاق دليل حجّية خبر الواحد لا يشمل الإجماع المنقول، لأنّ حجّية خبر الثقة تشمل الإخبار عن الحس، أي أنّ الراوي قد سمع بحسه الرواية والخبر عن الإمام المعصوم، فإذا كان هناك احتمال للكذب فيدفع هذا الاحتمال باصالة عدم كذب العادل، لأنّ الراوي حسب الفرض ثقة وعادل ولا يكذب متعمدا وإلاّ فإذا لم يكن الراوي ثقة وعادلاً فلا يكون قوله حجّة، إذن فالمخبر الثقة لا يكذب متعمدا، واحتمال وجود الكذب مدفوع بأصالة عدم الكذب، وكذلك احتمال وقوع الخطأ في نقله فهو أيضا مردود بأصالة عدم الخطأ، ولكنّ أدلة حجّية خبر الواحد لا تشمل الإخبار عن الحدس، ومن هنا فإنّ إجماع المنقول إخبار عن الحدس، لأنّ الناقل للإجماع المنقول يحدس أنّ قول الإمام عليه‏ السلام موجود بين المجتمعين.

النتيجة: إنّ المجتهد إذا استنبط الأحكام الشرعية من مداركها الشرعية من ظاهر الكتاب والسنّة والعقل السليم والإجماع الكاشف عن قوله المعصوم فحكمه معتبر وحجّة، لأنّ مثل هذا الاجتهاد والاستنباط وقع مورد إمضاء الإمام المعصوم عليه ‏السلام وإلاّ إذا لم يكن هذا الاستنباط مورد تأييد وإمضاء المعصوم فليس بحجّة.

وعلى حدّ تعبير الفلاسفة: «كل ما بالعرض لابدّ أن ينتهي إلى ما بالذات» فهنا حجّية قول المجتهد لبيان الحكم الشرعي هي حجّة بالعرض لا بالذات، وأمّا قول المعصوم فهو على حدّ حجّة بالذات لأنّ بيان المعصوم للحكم الشرعي هو عين الواقع، وقد تقدّم أنّ اللازم العقلي للنبوة هو عصمة النبي صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله واللازم العقلي للإمامة هو عصمة الإمام عليه‏ السلام ، لأنّ النبي أو الإمام لو لم يكن معصوما فلا تكون الحجّة الإلهيّة تامة على البشر، لأنّه إذا لم يكن المخبر والمبيّن للحكم الإلهي معصوما فإنّ يحتمل وقوعه في الخطأ والاشتباه في بيان الحكم الواقعي ويحتمل أن يكون هذا الحكم مخالفا للواقع، فحينئذٍ أشك في هذا الكلام الذي قاله هل هو مطابق للواقع؟ وهل أنّ هذا كلام يعتبر بيانا لحكم اللّه‏ أم لا؟ ففي هذه الصورة التي يوجد الشك في كلامه كيف تكون الحجّة الإلهيّة تامة على الناس؟

مضافا إلى أنّ اللّه‏ تعالى قد أرسل الأنبياء وأيدهم بالوحي وجعل لهم أوصياء إلهيين لهداية الناس إلى الصراط المستقيم الواقعي، فلو لم يكن ذلك النبي معصوما فإنّه لا يعرف الصراط المستقيم الواقعي ويمكن وقوعه في الزيغ والخطأ، فكيف يستطيع من لا يعرف الصراط المستقيم الواقعي أن يدعو الناس إليه ويهديهم إلى الصراط المستقيم الواقعي؟

وعلى أية حال فإنّ قول المجتهد حجّة بالعرض ويجب أن ينتهي إلى ما هو بالذات وهو بيان وتأييد المعصوم عليه‏ السلام الذي هو حجّة بالذات، فالإمام الصادق عليه ‏السلام يعلم بالعلم الحضوري بحرمة الغناء ووجوب صلاة الجمعة وبيّن الحكم للناس، وهذا العلم بالحكم عين العلم بالواقع والحجّة الإلهيّة، وهنا نرى أنّ الإمام المعصوم عليه‏السلام يقول فيما يتصل بكلام وفتوى المجتهد: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه‏ عليهم» (20) ، ويقول القرآن الكريم أيضا: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (21) .

ولكن سيأتي الكلام إن شاء اللّه‏ تعالى حول هذه الرواية الشريفة والآية المباركة لا يمكن الاستدلال بهما لإثبات حجّية قول المجتهد والفقيه، لأنّ معنى أهل العلم يختلف عن معنى أهل الذكر، فالآية لم تقل: «فسألوا أهل العلم إنّ كنتم لا تعلمون» بل قالت: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» والمراد من أهل الذكر لغة وعرفا وكذلك بحسب ما ورد من الروايات في هذا الشأن ليس أهل العلم و...

قال الإمام الصادق عليه‏ السلام : «الذكر محمّد ونحن أهله المسؤولون» (22) .

محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، صفوان بن يحيى، عن العلاء بن رزين،عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه‏ السلام قال (الراوي): إنّ مَن عندنايزعمون أنّ قول اللّه‏ عزّوجلّ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، أنّهم اليهود والنصارى قال الإمام عليه‏ السلام : «إذا يدعونكم إلى دينهم قال، قال (الإمام): وأشار بيده إلى صدره نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون» (23) .

وسيجيء التحقيق حول آية الذكر المباركة في مورد أدلة جواز التقليد إن شاء اللّه‏ تعالى.

تاريخ الإجتهاد والتقليد:

إنّ الاجتهاد يعتبر عدلاً للتقليد والاحتياط وقسيما لهما، والإنسان بضرورة حكم العقل مكلّف بالتكليف الإلهي، واشتغال الذمّة هذا يستدعي فراغ الذمة اليقيني حيث يتمكن الإنسان من خلال امتثال التكاليف الشرعية العمل على افراغ ذمته من التكاليف الإلهيّة، وفي مورد يكون للإنسان علم وجداني بالتكليف فحكمه واضح فالعلم حجّة بالذات وحكمه كحكم من يعيش عصر حضور الإمام المعصوم فعندما يبيّن الإمام المعصوم حرمة الغناء، أو أنّ صلاة الجمعة واجبة وينهى عن المعاملة التي فيها غش وغرر فالإنسان يحصل له من بيان المعصوم علم وجداني بالحكم الإلهي ويمتثل هذا التكليف المكشوف له بالعلم الوجداني.

ولكن في مورد عدم وجود العلم الوجداني بالتكليف لدى المكلّف فالطريق الشرعي لعمل المكلّف وافراغ ذمته من التكليف ذكر في الكتب الأصولية ومن جملة هذه الطرق الشرعية الاجتهاد، وقد ورد في تعبيرات الفقهاء أنّ المكلّف على ثلاثة أقسام: إمّا مجتهد أو محتاط أو مقلِّد. يعنيأنّ الإنسان من أجل افراغ ذمته من التكليف الإلهي إمّا أن يكون مجتهدا أو يعمل بالاحتياط أو يكون مقلِّدا، وعليه فإنّ هذا الاجتهاد ليس حجّة تعينية لأنّه يجوز العمل بغير الحكم الاجتهادي، وهو العمل بالاحتياط، أو بتقليد المجتهد الجامع للشرائط.

وفي عصر الإمامة الكبرى وعصر حضور الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام فإنّ الأحكام الإلهيّة قد بُيّنت من قِبلهم للناس، وفي هذه الجهة تحرك الأئمّة عليهم ‏السلام لبيان الأحكام على مستوى تربية طلاّب وتلاميذ لمدرستهم حيث كان هؤلاء التلاميذ يسمعون الأحكام من الإمام المعصوم وينقلونها بتأييد الإمام وإذنه للمجتمع على شكل روايات وأحاديث ويفتون بها.

وقد نقل أبان بن تغلب وهو أحد تلاميذ وطلاّب الإمام الصادق عليه‏ السلام ثلاثين ألف رواية، وكذلك نقل محمّد بن مسلم ثلاثين ألف رواية عن الإمام محمّد الباقر عليه‏ السلام وستة عشر ألف رواية عن الإمام الصادق عليه‏ السلام ، وفي مدرسة الإمام الصادق عليه‏السلام الروائية كان هناك أربعة آلاف محقق ومفسّر وحكيم ومتكلّم وفقيه من بلدان مختلفة كالعراق والحجاز والشام وخراسان من الذين درسوا عند الإمام الصادق عليه ‏السلام وألّفوا بذلك الأصول الأربع مائة من دروس الإمام الصادق ثم جمعت هذه الأصول في الكتب الأربعة: الكافي، والاستبصار، والتهذيب، ومن لا يحضره الفقيه، وتمّ نشرها في المجتمع الإسلامي لتستفيد منها البشرية في كافة أرجاء العالم، وأول شخص كتب كتابا في علم الأصول هو تلميذ الإمام الصادق عليه‏ السلام هشام بن الحكم الذي توفي عام 178 هـ ق (24) .

وأول من سلك مسلك الاجتهاد في مورد الأحكام وكتب كتابا في هذا الخصوص «تهذيب الشيعة» هو محمّد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي وهو من مشايخ المفيد رحمه‏الله والمعاصر لأبي جعفر بن محمّد بن يعقوب الكليني المتوفي في عام 329 هـ ق (25) .

على أية حال فإنّ أصحاب الإمام عليه‏ السلام كانوا يأخذون الروايات من الإمام ومن خلال استماعهم لدروس الإمام وينقلونها للناس بإذن الإمام، وبعدهم جاء فقهاء الإماميّة كالإسكافي، والشيخ المفيد، والمرتضى رحمهم‏ الله و... ونقلوا روايات الأئمّة عليهم‏ السلام واستنبطوا الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة ومن حكم العقل وبيّنوها للناس.

حضور المعصوم عليه‏ السلام :

ويمكن تقسيم حضور الأئمّة عليهم‏ السلام إلى أربع مراحل:

المرحلة الأولى: عصر الإمام أميرالمؤمنين عليه‏ السلام فالإمام بمقتضى آية المباهلة هو نفس رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله تنزيلاً لا أنّه نفسه تكوينيا وإلاّ فالنفس التكوينية شخص صار تكوينا نفس شخص آخر ومحال ممتنع، وذلك في قوله تعالى: «فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللّه‏ِ عَلَى الْكَاذِبِينَ» (26) .

فالإمام أمير المؤمنين عليه ‏السلام بمنزلة نفس رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله وشخصه، بمعنى أنّ جميع الكمالات والفضائل التي كانت لرسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله فإنّ أمير المؤمنين عليه‏ السلام يملك هذه الفضائل والكمالات أيضا باستثناء مسألة النبوة حيث إنّها من مختصات شخص رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله وقد ورد في حديث المنزلة أنّ رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله قال: «ياعلي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا بني بعدي» (27) .

وقال رسول اللّه‏ صلى‏ الله ‏عليه‏ و‏آله :«أنا مدينة العلم وعلي بابها» (28) وقال: «أنا دار الحكمة وعلي بابها» (29) ، ويقول البعض: إنّ المقصود من الحكمة الجنّة، أي أنّ رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله يقول: «أنا مدينة الحكمة أي الجنّة وعلي باب الجنّة» فإذا أراد شخص أن يدخل الجنّة فيجب عليه التمسك بولاية أميرالمؤمنين علي عليه‏ السلام وباب الجنّة.

وقال أميرالمؤمنين عليه ‏السلام : «علمني رسول اللّه‏ ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب» (30) .

المهم أنّ الإمام أميرالمؤمنين عليه‏ السلام في ذلك الوقت الذي يملك فيه العلم الإلهي اللدنّي، إلاّ أنّه قد تربى عند رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله وما كان رسول اللّه‏ يملكه من الكمالات والفضائل العلمية فقد بيّنها للإمام أميرالمؤمنين عليه‏ السلام فاجتمع العلم اللدنّي الإلهي وعلم رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله لديه، وقد مُنع من استلام أزمة أمور الإمامة في عصره ولكنّ عمر بن الخطّاب كان عندما يواجه مشكلة علمية ومعضلة عملية يتوجه إلى الإمام أميرالمؤمنين عليه ‏السلام ويستوضح حلّها وحكمها من الإمام وقد ورد في تاريخ الإسلام أنّ عمر قال في أكثر من سبعين مرّة: «لولا علي لهلك عمر» (31) .

ويقول ابن أبي الحديد في الجزء الأول من شرح نهج البلاغة: لم يكن عمر هو الوحيد الذي كان يلجأ إلى أمير المؤمنين لحل مشاكله العلمية والعملية بل إنّ عثمان أيضا كان يلجأ للإمام أميرالمؤمنين في حلّ المشاكل والمآزق التي تواجهه في خلافته وقال عثمان في موارد متعددة: «ولولا علي لهلك عثمان».

إذن ففي عصر حضور هذا الإمام المعصوم الذي هو باب مدينة علم رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله وباب مدينة الحكمة الإلهيّة والعالِم بالعلم الحضوري واللدنّي من اللّه‏ تعالى، فإنّ الأحكام الشرعية قد بيّنها الإمام لأصحابه وتلاميذه مثل مالك الأشتر وسلمان وأبي ذر الذين تربوا في مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه‏السلام ، وكان الإمام الحسن والإمام الحسين عليهماالسلام إمامين معصومين وهاديين للبشرية في الدنيا والآخرة قد تربوا كذلك في مدرسة الإمام علي بن أبي طالب وتخرجوا من جامعته مع كونهما يملكان العلم الحضوري واللدني الإلهي، وهكذا انطلقا لهداية وإمام المجتمع الإسلامي في ذلك العصر.

يقول ابن عباس وهو من تلاميذ أصحاب أميرالمؤمنين عليه‏ السلام ولمرّات عديدة: «إنّ علمي في مقابل علم أميرالمؤمنين كالقطرة بالنسبة لسبعة أبحر» (32) . والحق كذلك لأنّ علم ابن عباس كيفما كان فهو علم تحصيلي وعلم كسبي، وأمّا علم الأميرالمؤمنين عليه‏السلام فهو علم لدنّي وحضوري من اللّه‏، ونسبة العلم الحصولي إلى العلم الحضوري تساوي صفرا، والحقيقة أنّ هذا الإمام المعصوم عليه‏السلام كان قد أشار في مسجد الكوفة إلى صدره المبارك أمام جمع من المسلمين وقال: «إنّ لهاهنا علما جمّا وما رأيت أحد يحمله» (33) .

وقوله عليه ‏السلام لكميل بن زياد: «ألا أنّ هاهنا لعلما جمّا لو أصبت له حملة».

وقال أيضا: «سلوني قبل أن تفقدوني» فقام إليه شخص يدعى ابن كواء فسأله عن الفاصلة بين الأرض والسماء؟

قال الإمام عليه ‏السلام : «مدّ البصر ودعوة المظلوم» (34) . أي أنّك إذا قصدت من سؤالك السماء الظاهرية فالمسافة هو على امتداد ما تراه العين الحدس، وأمّا إذا قصدت السماء المعنوية فالمسافة دعوة المظلوم، وهذا يعني أنّ دعاء المظلوم يتجاوز السماء الدنيوية والظاهرية ويصل إلى السماء المعنوية وهو عرش اللّه‏ تعالى.

وكيف كان ففي عصر حضور الإمام أمير المؤمنين عليه ‏السلام سواء كان في عصر الخلفاء الثلاثة ولمدّة 25 سنة كان الإمام قد أقصي من مقام الخلافة والإمامة الإلهيّة أم في عصر استقرار إمامته وخلافته التي استغرقت أربع سنوات ونيفا وقد بيّن الإمام في هذه المدّة الأحكام الإلهيّة، وفي الحقيقة أنّ كلمات الإمام أميرالمؤمنين عليه ‏السلام ليس فقط تعتبر مفتاحا مبينا للأحكام الفقهية بل تعتبر حلاًّ لجميع المسائل العلمية المختلفة وتمثّل علما لهداية المجتمع الإسلامي في ذلك العصر وكذلك المجتمع البشري العالمي، فمضافا إلى الخطب والأدعية التي وردت عن أميرالمؤمنين عليه‏ السلام مثل دعاء كميل، ودعاء الصباح، فإنّ نهج البلاغة يعتبر كتاب الوحيد الذي لا يختص بالماضي ولا بالحاضر بل يمتد إلى جميع العصور في الماضي والحاضر والمستقبل، وكما أنّ شخصية الإمام أميرالمؤمنين عليه ‏السلام تملك أبعادا مختلفة من العصمة والعدل، والتقوى، والزهد، والشجاعة وغيرها من الفضائل العلمية والعملية، فكذلك نهج البلاغة لأميرالمؤمنين عليه ‏السلام فيه أبعاد مختلفة فلسفية، عملية، تفسيرية، فقهية فضلاً عن الفصاحة والبلاغة التي لا نظير لها.

يقول ابن أبي الحديد الذي يعتبر من علماء أهل السنّة في شرحه للخطبة 221 من نهج البلاغة: لولا وجود الإمام أميرالمؤمنين ما عرف العدل والتوحيد، ثمّ يقول: إنّ هذه الخطبة (221 من نهج البلاغة) التي تتحدث عن مسألة المعاد، قرأتها ألف مرّة طيلة خمسين سنة من عمري وفي كل مرّة أقرأ هذه الخطبة يكشف لي مسألة جديدة وحكمة فريدة.

وللأسف إنّ نهج البلاغة في هذا العصر يشكو الغربة بين المسلمين وبين أتباع أهل البيت عليهم‏ السلام ، والآن لنتصور أنّ طالبا من طلاّب العلوم الدينية ويدعي أنّه من أتباع أميرالمؤمنين عليه‏ السلام ومبلّغ عن الدين والمذهب في عصر الغيبة، ولكنّه بالرغم من ذلك ربّما لم يوفق طيلة عمره أن يقرأ نهج البلاغة كله لو لمرّة واحدة في حين أنّ ابن أبي الحديد من علماء المعتزلة العامة يقول: إنّني قرأت هذه الخطبة (يعني خطبة 207) طيلة خمسين سنة من عمري ألف مرة، وفي كل مرّة أكتشف حكمة جديدة. في الحقيقة يجب أن نشعر بالخجل في محضر الإمام أميرالمؤمنين وفي مقابل نهج البلاغة.

الدفاع عن المظلوم:

لقد كتب جورج جرداق كتابا تحت عنوان «علي صوت العدالة الإنسانية» تحدث فيه عن عدالة الإمام علي عليه‏السلام وعندما كنت في النجف الأشرف نقل لي بعض علماء النجف الذين التقوا بهذا الكاتب المسيحي وأنّ أحدهم سأله: لماذا لم تكتب مثل هذا الكتاب عن عيسى المسيح عليه‏ السلام مع أنّك مسيحي وكتبته في بيان سيرة الإمام علي عليه‏ السلام ؟ فأجابة بجواب أبكى علماء النجف حيث قال: لقد رأيت في بحوثي ودراساتي للتاريخ أنّ هذا الشخص وهو الإمام علي وقع مظلوما فعزمت على الدفاع عن هذا المظلوم ولذلك كتبت هذا الكتاب في الكشف عن سيرته وشخصيته.

وفي الحقيقة أنّ الإمام أميرالمؤمين عليه‏ السلام هو المظلوم في التاريخ، وينبغي أن يبكي عليه ليس فقط علماء النجف وليس فقط الشيعة بل تبكي عليه البشرية، فالحوادث المرّة التي حدثت بعد رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله والظلم الذي حلّ بالبشرية كافّة من قِبل الظالمين للبشرية الذين كانوا في مدينة رسول اللّه‏ صلى‏الله‏عليه‏و‏آله والذين حرموا الناس والبشرية من منهل العلم والعدالة والتقوى والعصمة لهذا الإمام العظيم، فمثل هذه الظلم في تاريخ العالم لا يغفر، لقد نزل بهذا الإمام من الظلم والجور إلى حدٍّ قال حين شهادته بقلب زاخر بالألم والحزن: «فزت وربّ الكعبة» والتحق بالرفيق الأعلى، ولكنّ أولئك الظالمين سوف لا ينالون الغفران الإلهي ولن تصفح عنهم البشرية: «وَاللّه‏َ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الفَاسقِينَ»«إِنَّ اللّه‏َ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (35) .

عصر إمامة الحسنين عليهماالسلام :

المرحلة الثانية: عصر إمامة الحسنين عليهماالسلام وهذا العصر هو عصر حكومة معاوية وبني أمية الجائرة الذين استخداما جميع الأدوات والوسائل للتصدي لهذين الإمامين إلى حدٍّ أنّ هذه الحكومات الغاشمة منعت من نشر آثار وروايات هذين الإمامين وعملوا على إزالتها وافنائها ومنعوا الناس من الاستماع لأحاديثهم ورواياتهم وبالرغم من وجود هذه الموانع فقد عمل الإمام الحسن والإمام الحسين عليهماالسلام على بيان الأحكام الإلهيّة حيث قال رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا» (36) ، وقد استمر هذا الظلام المخيم على البشرية في حكومة بني أمية ثمانين عاما ونيفا حيث دأب خلفاء الجور والأمويون على مواجهة الإسلام والتصدي للدين الإسلامي يقول السيوطي وهو من علماء العامة: إنّ معاوية في زمان حكومته التي استغرقت أربعين عاما، أي في المدّة التي كان فيها أميرا على الشام والمدّة التي استلم فيها زمام الخلافة في الشام، فإنّه جعل سبعين ألف منبر ضد الإسلام (37) ، ومع كل هذه الموانع التي وقفت بوجه الإسلام والدين تحرك الإمام الحسن والإمام الحسين عليهماالسلام لإنقاذ الإسلام وحفظه وتقويته فكان كل منهما يتحرك من موقع بيان أحكام الإسلام والتعاليم الإسلامية بآليات علم الإمامة و السياسة والدراية.

وقد حفظ الإمام الحسن عليه ‏السلام بصلحه الإسلام وأتباع أهل البيت عليهم‏ السلام وحفظ سيد الشهداء عليه‏السلام بشهادته ودمه الطاهر الإسلام، وإلاّ فلو لم يكن جهاد سيد الشهداء عليه ‏السلام لم يكن للإسلام عين ولا أثر في هذا العصر، فجهاد وشهادة الإمام الحسين عليه‏ السلام وأصحابه الأوفياء حفظوا لنا الإسلام وإلى يوم القيامة، حيث نرى اليوم أنّ أقوال وكلمات سيد الشهداء عليه‏ السلام و الخطب التي ألقاها في المدينة أو في طريق مكة أو في نفس مكة المكرمة عندما دخلها الإمام في أول شعبان وبقي هناك شهر رمضان وشوال وذي القعدة وذي الحجّة فقد كان يبيّن الأحكام الإلهيّة مدّة خمسة أشهر في مكة المكرمة، وعندما توجّه الإمام الحسين عليه ‏السلام إلى كربلاء خطب تلك الخطبة المعروفة في أهالي مكة والحجاج وقال: «سمعت عن جدّي رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله قال: من رأى سلطان جائرا، مستحلاً لحرام اللّه‏، ناكثا عهده ومخالفا لسنّة اللّه‏ يعمل في عباد اللّه‏ بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّا على اللّه‏ أن يدخله مدخله» (38) .

الظلم على الدين:

الواقع أنّ هذه الخطب والكلمات مؤثرة إلى درجة كبيرة في هداية المسلمين وبيان الأحكام الإلهيّة، فلولا خطب سيد الشهداء عليه‏ السلام وجهاده وشهادته لكان المسلمون يتصورون جواز المسالمة مع الطواغيت وقوى الجوار، ولكن الإمام الحسين عليه‏السلام بيّن هذه المسألة بوضوح وأنّ دين اللّه‏ إذا تعرض للخطر أو إذا تسلط ظالم وإذا حاق بالدين ظلم لا ينبغي على المسلم أن يسكت.

وبالطبع فالظلم تارة يكون لشخص معين بأن يقوم أحد الظالمين بالحاق الضرر والعدوان على شخص آخر، فمثل هذا الظلم الخاص ربّما يكون قابلاً للاغماض والسكوت وربّما يتحمله الإنسان ولا يتخذ موقفا منه، ولكن تارة يقع الظلم على الدين والقرآن والأحكام الشرعية. إذا وقع الظلم على الدين فلا يجوز لأحد أن يسكت أمام مثل هذا الظلم، ولذلك نحن نرى أنّ مسألة التقية تعدّ من الواجبات في قانون الإسلام ولكن التقية لا تجوز في عدّة موارد، ومن هذه الموارد، أن تتعرض الكعبة لخطر الهدم والتخريب فهنا عندما يتعرض مركز الإسلام للخطر فلا تجوز التقية، أو عندما يتحرك أحد الظالمين للقضاء على القرآن وهو كتاب المسلمين والوحي الإلهي، فهنا لا تجوز التقية بل يجب الدفاع عن القرآن والإسلام بمختلف الآليات والأدوات.

المقصود أنّ المرحلة الثانية من عصر المعصومين عليهم‏ السلام تتمثّل في عصر الإمامين الهمامين اللذين بيّنا أحكام الإسلام وعملا على حفظ الشريعة الإسلامية سواء بآليات الصلح أو بآليات الجهاد والشهادة في سبيل اللّه‏.

عصر حضور الصادقين عليهماالسلام :

المرحلة الثالثة: عصر الصادقين عليهماالسلام وهو عصر الإمام محمّد الباقر عليه‏ السلام والإمام جعفر الصادق عليه‏ السلام ، وهذه المرحلة تعتبر مرحلة ازدهار العلوم الإسلاميّة والأحكام الشرعية، وقد ذكر في كتاب أعلام الورى، وكذلك الشيخ المفيد رحمه‏الله في الإرشاد وكتب رجالية أخرى أنّ الإمام الصادق عليه ‏السلام كان له في المدينة والكوفة أربعة آلاف محدّث وعالم قد تتلمذوا على يديه وهؤلاء جاءوا من العراق والشام والحجاز وخراسان ومن هؤلاء العلماء، أبان بن تغلب، زرارة بن أعين، جابر الجوفي، جابر بن حيان الكوفي، محمّد بن مسلم، هشام بن الحكم، مؤمن الطاق وغيرهم. وكل واحد من هؤلاء نقل للمسلمين عشرات الآلاف من الروايات والأحاديث الشريفة من الصادقين عليهماالسلام والتي نجد لها نماذج من الأحاديث والروايات وردت في الجوامع الروائية للشيعة مثل: التهذيب، الكافي، الاستبصار، من لا يحضره الفقيه وغيرها، وفي هذا العصر بيّن هذان الإمامان ما يتعلق بباب الاجتهاد، وكذلك أرشدوا علماء وفقهاء الشيعة إلى كيفية استنباط الأحكام الإلهيّة من ظواهر الكتاب والسنّة وتقديمها للمجتمع الإسلامي، وأول كتاب تمّ تأليفه في مباني الاستنباط وعلم الأصول هو كتاب «هشام بن الحكم» الذي يحوي قواعد أصولية وأحكام شرعية مستنبطة.

المرحلة الرابعة: عصر الإمام على بن موسى الرضا عليه‏السلام الذي نقلت عنه أحاديث متعددة في مجال بيان الأحكام، ومنها الحديث المعروف بسلسلة الذهب، وإنّما يسمي هذا الحديث بسلسلة الذهب من جهة أنّ جميع رواة هذا الحديث من المعصومين عليهم ‏السلام ، فعندما قدم الإمام الرضا عليه‏ السلام من الحجاز إلى خراسان وصل إلى محلة نيسابور واستقبله أهالي نيسابور استقبالاً كبيرا وطلبوا منه أن يذكر لهم حديثا عن رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله فقال الإمام الرضا عليه‏ السلام : سمعت أبي... إلى حتى أوصل الحديث إلى رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله وذلك في روايته له عن أبيه عن جدّه وأجداده الكرام إلى رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله قال: «كلمة لا إله إلاّ اللّه‏ حصني فمن دخل حصني أمِن من عذابي، ولكن بشرطها وشروطها وأنا من شرطها» (39) .

وفي حديث جابر بن عبداللّه‏ الأنصاري قال: قال رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله : «أنا سيّد النبيين وعلي سيد الوصيين وإن أولياء بعدي اثنى عشر أولهم علي وآخرهم القائم المهدي» (40) .

وعن ابن عباس قال: قال رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله : «إنّ خلفائي وأوصائي وحجج اللّه‏ على الخلق بعدي الاثنى عشر أولهم علي وآخرهم المهدي فينزل روح اللّه‏ عيسى بن مريم فيصلي خلف المهدي وتشرق الأرض بنور ربّها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب» (41) .

على أية حال فالأئمّة المعصومون عليهم‏ السلام قد وضعوا لفقهاء وعلماء الشيعة نماذج للاجتهاد في سياق الروايات، قال الإمام الرضا عليه‏ السلام : «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع» (42) . فعلينا بيان الأحكام والقوانين الكلية للإسلام والشريعة المقدّسة وعليكم تطبيق هذ القوانين الكلية على فروعاتها وتفاصيلها الجزئية، ومنذ عصر الإمام أميرالمؤمنين عليه‏ السلام إلى زمان العسكريين تمّ تأليف 6600 كتاب حديثيا في روايات أهل البيت عليهم‏ السلام تمّ استخدامها في جهات مختلفة في عملية الاستنباط واستخراج أحكام الفقه الإسلامي.

النتيجة: إنّ الاجتهاد في تاريخه وقع مورد وإمضاء الأئمّة عليهم‏ السلام ومنذ عصر حضور المعصومين عليهم‏ السلام استوحى الاجتهاد فاعليته ومشروعيته على يد فقهاء الاُمّة حيث قام المعصومون بارشاد وتعليم فقهاء الأُمّة الإسلامية لكيفية استنباط الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب والسنّة.

إلى هنا انتهى الكلام في تأييد مدرسة الاستنباط الاجتهاد، والآن نستعرض مدرسة الإخباريين التي تقف حسب الظاهر في مقابل مدرسة الاجتهاد والاستنباط.

مقولة الإخباريين:

إلى جانب مدرسة الاجتهاد لدى الشيعة كانت هناك مدرسة أخرى تدعى بمدرسة الإخباريين من الشيعة التي ظهرت قبل أربعة قرون تقريبا وينسب تأسيسها إلى الشيخ أمين الاسترابادي، وهذه المدرسة كانت على  سجال ونزاع مع مدرسة الاجتهاد لدى الأصوليين، وبالرغم من أنّ منهجية الإخباريين في العمل بالروايات فقط لا ينحصر بالأزمنة المتأخرة وقد نسبت هذه المنهجية إلى فقهاء السلف ومنهم الشيخ الصدوق رحمه‏ الله وهو من قدماء الفقهاء الذي كان يسلك في بيان الأحكام مسلك العمل بظواهر الروايات، ولكنّه قدر المتيقن يمكن القول أنّ الشيخ أمين الاسترابادي مؤسس هذه المسلك وقد ألف كتابا باسم الفوائد المدنية حيث تعرض فيه إلى أفكار الأصوليين بالنقد وأنكر حجيّة العقل لبيان الأحكام الشرعية وإثباتها.

إنّ مدرسة الإخباريين لا تقبل بالحكم الذي يستخرج بواسطة الدليل العقلي إلاّ في الجملة، ففي بعض الموارد التي تقوم فيها المسائل على أساس الحس ويكون منشأ ومبدأ العقل هو الحس أو القريب من الحس فيكون هذا الحكم مقبولاً، وأمّا حكم العقل في موارد غير الحسيات غير مقبول، والسادة الذين قرأوا كتاب الرسائل يعلمون بوجود مسألة معروفة هنا وهي: هل أنّ الجسم مركب من المادة والصورة أو بسيط؟

هناك بحث بين فلاسفة المشائين وفلاسفة الاشراق، فالفلاسفة المشاؤونن يقولون بأنّ الجسم مركب من المادة والصورة بينما يقول الإشراقيون بأنّ الجسم بسيط فليس هو سوى صورة، ثم يضربون لذلك مثالاً في آنية الماء، وهذه المسألة قد وقعت مورد البحث والنزاع لسنوات عديدة، ولحدّ الآن يستدل كل طرف «المنطقيون والفلاسفة» بأدلة معينة لإثبات مدعاهم والنتيجة هي أنّ حكم العقل في مسألة صغيرة لا زال مورد نزاع بين الفلاسفة والمنطقيين وهي أنّ هل أنّ الجسم مركب من المادة والصورة كما يقول الفلاسفة المشاؤون، أو أنّه بسيط وهو عبارة عن الصورة فقط كما يقول الاشراقيون؟ ولحدّ الآن لم يتمّ خصم النزاع ولم يستطيع الفلاسفة إثبات أحد المدعيين، وحينئذٍ كيف يستطيع العقل أن يدرك الأحكام الشرعية ويعمل على إثباتها؟

إنّ الإخباريين يقولون في مورد إثبات الأحكام بعدم حجّية الدليل العقلي إلاّ إذا كان مبدؤه الحس أو قريبا من الحس، فإذا حكم العقل بحكم من هذا القبيل كالقضايا الرياضية وأنّ الواحد نصف الاثنين، وأنّ الكل أعظم من الجزء فهو مقبول، ولكن في الأمور الحدسية وغير الحسية من قبيل الاستلزامات العقلية وهل يجوز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد أو لا، وهل هناك ملازمة بين وجوب المقدّمة وذي المقدّمة أو لا؟ ففي هذه الموارد يكون حكم العقل قائما على الحدس، فيجب هنا إثبات الحكم من طريق الكتاب والسنّة فقط، إذن نرى أنّ الإخباريين يختلفون مع الأصوليين في هذه الجهة، لأنّ الأصوليين يرون الحجيّة لحكم العقل وحجّية القطع بشكل مطلق، بمعنى أنّ كل يقين يحصل لدى الإنسان من أي طريق كان فهو حجّة، فالقطع حجّة عقلية مطلقا، سواء نشأ هذا القطع من طريق الكتاب والسنة أو من غيرهما، ولكن الإخباريين يقولون: كلا، فالقطع الذي ينشأ من غير الكتاب والسنّة فهو غير حجّة، إذن فالإخباريون لا يرون جواز الاعتماد في مورد إثبات الحكم الشرعي على غير الحديث.

وقد كان مركز الإخباريين في القرون المتأخرة، العراق ولا سيما في مدينة كربلاء وقد بلغت مدرسة الإخباريين في العراق غاية القوّة والانتشار في عصر الأصوليين المتأخرين وخاصة عصر المرحوم الوحيد البهبهاني والشيخ يوسف البحراني (المتوفي 1186 هـ ق) الذي كان مقيما في كربلاء ومن علماء الإخباريين المعروفين وكان من هذه الجهة معارضا للأصوليين في دائرة الفكر والنظر (43) .

وكيف كان فالإخباريون يقولون: يجب بيان الأحكام الشرعية بأدوات الحديث النبوي وروايات الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام وإلاّ فكل حكم لم يرد عن طريق المعصوم وتمّ استنباطه من طرق أخرى وبُيّن للناس فهو غير حجّة، وعليه فإنّ الحكم الذي يستخلص بواسطة دليل العقل واجتهاد المجتهدين ويتمّ الافتاء به غير قابل للاعتماد، ودليلهم على ذلك أنّ كل حكم شرعي لم يرد بطريق الحديث النبوي وروايات الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام بل ورد من طريق حكم العقل الذي لا يكون قائما على الحس أو ما يقرب من الحس أو من طريق اجتهاد واستنباط المجتهدين والأصوليين فهو غير حجّة. ويقولون: لا شك أنّ جميع عمومات القرآن الكريم خصّصت ونحن لدينا علم إجمالي بهذا التخصص، مثلاً من جملة عمومات القرآن آية «أوفوا بالعقود» وقد خرج من هذا العام بيع المنابذة، فلا يجب الوفاء به وكذلك بين الكالي بالكالي وبيع الدين بالدين، فهي خارجة من عمومات الكتاب فلا يجب فيها الوفاء، وكذلك خرج البيع الربوي عن «أوفوا بالعقود» وهكذا سائر عمومات القرآن، فنحن نملك علما إجماليا بأنّ عمومات القرآن في كثير من الموارد مخصصة.

ومن جهة أخرى وبمقتضى حكم العقل «ونحن نقول بحكم العقل» وكذلك بمقتضى الروايات النبوية أنّه ورد النهي عن تفسير القرآن بالرأي، ولذلك إذا لم نجد رواية من المعصومين في بيان وتفسير حكم مقتبس من ظاهر القرآن أو غير ظاهره فلا يمكن القول بأنّ هذا الحكم حكم إلهي لوجود احتمال أن يكون هذا الحكم مخصصا وخارجا عن عمومات القرآن وبالتالي لا يكون حكما إلهيا.

مضافا إلى ذلك فهناك آيات قرآنية تنهى عن العمل بغير العلم فتنهى عن التفسير بالرأي، وبذلك لا يمكننا في مورد بيان الأحكام الشرعية أن نعتمد على بيان ومنهجية أخرى غير بيان المعصوم وما ورد في الروايات الشريفة.

إنّ هذا التعارض والنزاع الفكري بين الإخباريين والأصوليين في مورد فهم واستنباط الأحكام بلغ إلى حدٍّ أنّ بعض الأصوليين تصور أنّ عدم قبول الإخباريين للحكم الشرعي غير المستند على الحكم العقلي الحسي يعود في جذوره إلى الفكر الغربي، فكما أنّ الغربيين وعلماء أروبا من الماديين لا يقبلون إلاّ ما ورد من طريق الحس، فلو كانت النظرية مستندة إلى الحدس العقلي فلا يقبلونها، فهكذا بالنسبة لمنهجية الإخباريين وفهمهم للأحكام الشرعية بوسيلة ظاهر الروايات حيث لا يقبلون هذه الأحكام بدون تفسير وبيان المعصوم عليه‏السلام ويرفضون الاستنباط الاجتهادي الذي يستخدم العقل في عملية الاستنباط، وفي هذه المسألة تتوافق نظرية الإخباريين والماديين في الغرب (44) .

ولكن لا يمكن قبول مثل هذه النسبة والتشبيه لأنّ هذا الكلام مجرّد حدس ويفتقد إلى الأدلة والبراهين لإثباته، إذن فالكلام في أنّ منهجية الإخباريين في فهم الأحكام الشرعية مستند إلى الحس وظاهر الروايات ومن هذه الجهة يقال بوجود إرتباط بين الحسيين والماديين في الشرق والغرب هو بذاته أمر حدسي، ولذلك لا يمكن القبول بهذه الكلام والتشبيه.

نقد ومناقشة مقولة الإخباريين:

بالنسبة إلى تفاصيل نظرية الإخباريين ومناقشتها لابدّ من مراجعة الكتب المفصلة التي تستعرض منهجية الإخباريين ومعارضة الأصوليين لها، ولكن هنا نشير إشارة مختصرة إلى هذه المسألة، لأنّ بحثنا يرتبط بذكر تاريخ الاجتهاد والتقليد، ومن المناسب الإشارة إلى منهجية الإخباريين التي تتقاطع مع منهجية الاجتهاد والاستنباط لدى الأصوليين.

هنا نستعرض جوابا كليا على مقولة الإخباريين وهو أنّه: صحيح لقد ورد النهي في الروايات عن التفسير بالرأي في مورد فهم الأحكام الشرعية ولكنّ هذا المعنى في فهم الأحكام الإلهيّة وكذلك في تفسير الآيات القرآنية إنّما يكون منهيا عنه فيما إذا لم يعتمد على مراجعة أقوال وروايات الأئمّة المعصومين عليهم‏السلام ، بمعنى أنّ الأحاديث النبوية التي تقول: «مَن فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (45) ، إنّما تنهى عن تفسير القرآن بالرأي فيما إذا تحرك الشخص في تفسيره بالاعتماد على رأيه الشخصي وقياسه وبدون مراجعة روايات أهل البيت عليهم‏السلام مثلاً القرآن يقول: «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طَيِّبا...» (46) ، وهنا يوجد خلاف في معنى كلمة «الصعيد» فهل المقصود منها التراب أو مطلق وجه الأرض؟ وفي كل واحد من المعنيين يختلف الحكم الفقهي، فإذا أثبتنا بالأدلة الشرعية أنّ معنى كلمة الصعيد هو التراب الخالص، فإنّ النتيجة الفقهية والحكم الشرعي المترتب على ذلك هو عدم جواز التيمم بغير التراب من أجزاء الأرض الأخرى (كالشجر والخشب والنبات والآجر و...) لأنّ الآية المباركة تقول: «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا» ومعنى الصعيد هو التراب الخالص ولا يجوز التيمم إلاّ بهذا التراب الخالص، ولكن إذا ذهب شخص بأنّ معنى كلمة «الصعيد» تشمل مطلق ما في وجه الأرض، فحينئذٍ سيختلف الحكم الفقهي والشرعي وبالتالي يجوز التيمم بمطلق وجه الأرض سواء كان من التراب أم من غيره (التراب، الحجر، الطين، الجص و..) وتعيين هذا المعنى من ظاهر القرآن يحتاج إلى مراجعة روايات أهل البيت عليهم ‏السلام أو إلى المباني الشرعية المعتبرة الأخرى ليتبيّن الحكم وجواز التيمم شرعا.

ولكن إذا انطلق الشخص في تحديد معنى الآية لا من موقع الرجوع إلى الروايات بل من موقع الاعتماد على رأيه وبدافع التكاسل وعدم الاهتمام بالبحث عن المقصود الواقعي وقال بأنّ معنى الصعيد مطلق ويشمل جميع ما على وجه الأرض، فيجوز للإنسان التيمم على كل شيء ممّا على وجه الأرض بدون مراجعة الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام أو مراجعة آيات أخرى من القرآن أظهر من الآية مورد البحث، فهذا العمل هو مصداق للتفسير بالرأي ولا يجوز، وأمّا إذا راجع الشخص في معنى هذه الآية الكريمة إلى روايات الأئمّة المعصومين عليهم ‏السلام المفسّرة للقرآن الكريم ثم استنبط الحكم الشرعي فهذا لا يعدّ تفسيرا بالرأي، وعليه فإنّ مقولة الإخباريين في قولهم بعدم جواز إستنباط الحكم الشرعي بطريق آخر غير طريق الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام واستدلالهم بذلك بأنّ من قبيل تفسير بالرأي، أجنبي عن موضوع البحث، فهذا ليس من قبيل التفسير بالرأي بل هو تفسير بالحجّة والدليل ومراجعة بيان المعصومين عليهم‏ السلام .

إنّ مقولة ا لإخباريين في عدم قبولهم الأحكام الشرعية من غير ظاهر الروايات يستند إلى دليلين:

1 ـ وجود علم إجمالي بتخصيص عمومات الكتاب.

2 ـ عدم جواز تفسير القرآن بدون مراجعة روايات المعصومين عليهم‏ السلام وأنّ ذلك من قبيل التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه.

الجواب: إنّ الأصوليين لا يقولون بجواز التفسير بالرأي بل يقولون: إنّ تفسير القرآن يجب أن يكون بالاستناد على الروايات الصحيحة، غاية الأمر أنّ هذه الروايات والعمل بها مشروط بشروط من حيث السند، ومن حيث الدلالة، ومن حيث الظهور في المراد الشرعي، ومن حيث عدم وجود قرينة على خلاف الظهور الشرعي، وحينئذٍ وبعد إثبات أنّ الرواية موثوقة الصدور عن المعصوم وأنّه خبر ثقة ومبيّنة لعمومات الكتاب والسنّة تكون حجّة، وعليه فالشخص الذي يرجع في تفسير القرآن لهذه الروايات فلا يكون ذلك من قبيل التفسير بالرأي بل هو تفسير بالروايات الصحيحة.

أمّا الدليل الآخر للإخباريين وأنّ عمومات الكتاب والسنّة مخصصة، ولدينا علم إجمالي بتخصيص هذه العمومات فإنّ العلم الإجمالي لا يوجب سقوط حجّية الاجتهاد والاستنباط الذي وقع مورد إمضاء الشارع، فالعلم الإجمالي لتخصيص القرآن يستوجب الفحص، فالشخص إذا فحص وبحث عن أنّه: هل أنّ هذا العام القرآني مخصص أو لا؟ وهل له معارض أو لا؟ وبعد الفحص والتحقيق عَلِم أنّ هذه الآية القرآنية ليست بمخصصة ولا يوجد لديه دليل شرعي آخر على الخلاف وبعد ذلك يرى أنّ هذا العام القرآني حجّة، فإذا استنبط المجتهد حكما شرعيا من هذا العام القرآني فاستنباطه صحيح ومورد تأييد صاحب الشريعة.

على أية حال فالاجتهاد الذي يقوم على الأدلة الشرعية مشروع، والأئمّة هم الذين أمروا أصحابهم بتدوين أحاديثهم ورواياتهم في كتبهم والحفاظ عليها وقالوا إنّه سيأتي زمان لا يأنس العلماء والفقهاء إلاّ بكتبهم. وفي الرواية «أنّه سيكتب لهم بكل حرف نور في يوم القيامة» .فمثل هؤلاء العلماء من خلال حفظ هذه الروايات وحفظ الأحكام الشرعية والدين فإنّ اللّه‏ تعالى سيثيبهم يوم القيامة على كل حرف نورا كما تصرح الرواية «سيأتي زمان لا يأنس العلماء إلاّ بكتبهم وأعطاهم اللّه‏ بكل حرف نورا يوم القيامة» (47) .

والمراد من حفظ العلماء لكتبهم هو العمل بها، أي أنّ العلماء يتحركون على مستوى ضبط وحفظ تلك الروايات والعمل بها، وإلاّ فمجرّد حفظ الرواية بدون العمل لا أثر له، وقد قام علماء وفقهاء الشيعة في عصر الغيبة الكبرى بحفظ الشرعية الإسلامية من الاندثار، وقد ذكر أنّ رئيس المحدّثين الشيخ الصدوق رحمه‏ الله أنّه ولد بدعاء إمام العصر عليه‏ السلام ، وقد ذكرت تفاصيل هذه الواقعة في كتب التاريخ (1) ، وكذلك ما ورد من  حالات الشيخ المفيد رحمه‏ الله واهتمامه بنشر وتقوية الشريعة، فعندما رحل الشيخ المفيد رحمه‏ الله من الدنيا ورد توقيع إمام العصر عليه‏السلام وهو التوقيع الذي كتب على قبره:

لا صوت الناعي بفقدك إنّه                     يوم على آل الرسول عظيم
إن كنت قد غيبت في جدث الثرى      فالعدل والتوحيد فيك مقيم
والقائم المهدي يفرح كلّما                    تليت عليك من الدروس علوم (48)

إذن هكذا كان فقهاء الشيعة إلى هذه الدرجة من العظمة وحفظ كيان الإسلام والدين بقلمهم وبيانهم بحيث إنّ المهدي عليه‏ السلام يفرح ويسر عندما يرى هذه الحركة والنشاط لخدمة الدين والعلوم الدينية، ويتبيّن من ذلك أنّ بيان هؤلاء الفقهاء للأحكام الشرعية ونقلهم روايات أهل البيت عليهم‏ السلام يعتبر حجّة شرعية إلهيّة (49) .

وعندما يكون اجتهاد واستنباط فقهاء الإماميّة للأحكام الشرعية مشروعا، فحينئذٍ يطرح هذا السؤال: هل أنّ وجوب الاجتهاد وجوب نفسي أو وجوب طريقي، أو وجوب مولوي غيري، أو وجوب إرشادي عقلي؟

تقدّم في بداية هذا البحث وفي مورد وجوب التعلّم الإجابة عن هذا السؤال: هل أنّ تعلّم الأحكام الإلهيّة على الإنسان واجب، وما نوع وجوب تعلّم الأحكام؟ هل هو وجوب نفسي أو وجوب طريقي أو وجوب غيري أو وجوب إرشادي؟

وقد تبيّن فيما سبق أنّه بالرغم من أنّ ظاهر الأدلة الشرعية يدلّ على الوجوب النفسي للتعلّم من قبيل آية النفر: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (50) . وكذلك الروايات التي تقول: «هلاّ عملت» (51) أو «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (52) ، وأضاف البعض إلى هذا الحديث كلمة «مسلمة»، فظاهر هذه الروايات والآيات الدلالة على الوجوب النفسي للتعلّم، وقد اخترنا هناك أنّ هذا الوجوب هو وجوب عقلي وإرشادي.

الوجوب النفسي:

إنّ وجوب الاجتهاد ليس وجوبا نفسيا، ولا دليل على أنّ وجوب الاجتهاد نفسي لأنّ الاجتهاد عدل الاحتياط وعدل التقليد، فالمكلّف بالأحكام الإلهيّة في مورد غير الضروريات الدينية، إمّا أن يكون مجتهدا أو مقلِّدا أو محتاطا، ومعلوم أنّ وجوب الاحتياط غير نفسي وكذلك وجوب التقليد، وعندما لا يكون وجوب التقليد والاحتياط وهما عدل الاجتهاد، وجوبا نفسيا، فكذلك لا يكون الاجتهاد نفسيا أيضا، وعلى فرض أن يقول القائل: إنّ مقتضى ظهور الأدلة هو الوجوب النفسي للاجتهاد، ولكنّ ما تقدّم من الكلام يؤكد وجود موانع للوجوب النفسي، ومع وجود هذه الموانع لا يمكن القول بالوجوب النفسي للاجتهاد. إذن فبما أنّ الإنسان يملك علما إجماليا بالتكاليف الإلهيّة، فمقتضى هذا العلم الإجمالي فراغ ذمّة العبد من تكليف المولى، والطريق إلى افراغ الذمّة إمّا التقليد أو الاحتياط أو الاجتهاد لمن يستطيع الوصول إلى درجة الاجتهاد أو الإتيان بالتكليف الواقعي.

كذلك لا يمكن القول بأنّ وجوب الاجتهاد وجوب طريقي لتنجز التكليف الواقعي وحفظ الواقع.

الوجوب الطريقي:

أمّا أنّ وجوب الاجتهاد ليس وجوبا طريقيا فإنّ هذه الوجوب إنّما هو من قبيل وجوب الاحتياط ومن أجل تنجيز الواقع وحفظ الواقع، لأنّ الواقع قد تنجز بواسطة العلم الإجمالي بالتكاليف، وهذا العلم الإجمالي بالتكاليف الإلهيّة منجز للواقع، بل إنّ احتمال التكليف الواقعي في هذا المورد منجز أيضا،إذن يكفي لتنجيز الواقع وجود العلم الإجمالي بالواقع أو احتمال وجود التكاليف الواقعية، وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يكون وجوب الاجتهاد وجوبا طريقيا.

إن قلت: صحيح أنّ مقتضى قانون العبودية أن يكون لدينا علم إجمالي بالتكليف ولكن عندما نتحرك على مستوى البحث والفحص في دائرة الأوامر والنواهي الإلهيّة فإنّ العلم الإجمالي هذا سينحل إلى يقين تفصيلي وشك بدوي، وعندما يكون لدينا يقين تفصيلي بالأحكام فإنّ هذا اليقين والعلم التفصيلي منجز ولا يحتاج إلى الاجتهاد، وفي مورد الشك البدوي كأن نشك هل أنّ التدخين حرام أم لا؟ فمقتضى القاعدة البراءة ولا يبقى لدينا علم إجمالي حتى يقال إنّه منجز للواقع، وعندما ينحل العلم الإجمالي إلى يقين تفصيلي وشك بدوي، فلا وجه لما يقال من أنّ العلم الإجمالي منجز للواقع، ولذلك يمكن القول بأنّ وجوب الاجتهاد وجوب طريقي لتنجيز وحفظ الواقع.

قلت: صحيح له وجه إذا انحل العلم الإجمالي فلم يتنجز الواقع من طريق آخر، ولكن من أجل تنجيز أحكام الواقع يكفي وجود امارة معتبرة شرعية قامت عليها، لا أنّ الاجتهاد يوجب تنجيز الواقع، وإذا ترك المكلّف الاجتهاد فمع ذلك تكون الأحكام منجزة في ذمّته ويستحق العقاب على ترك هذه الأحكام ومخالفة هذا التنجز حتى لو قلنا بانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، فوجوب الاجتهاد ليس وجوبا طريقيا ليكون منجزا للواقع، فحتى لو ترك المكلّف الاجتهاد نقول بأنّ الواقع بلحاظ الاجتهاد منجز، فإذا تركه فلا يكون لديه طريق آخر لتنجيز الواقع، والحال أنّ الواقع منجز بأدلة الأحكام فإذا ترك الإنسان التكليف الواقعي فإنّه يستحق العقاب، وعليه فلا يمكن أن يكون وجوب الاجتهاد طريقي لتنجيز الواقع.

الوجوب الغيري:

وهكذا لا يمكن القول بأنّ وجوب الاجتهاد وجوب غيري مولوي من قبيل وجوب المقدّمة، لأنّه أولاً:لقد ثبت في بحث المقدّمة أنّه: هل أنّ المقدّمة واجبة شرعا أو غير واجبة شرعا؟

ولقائل أن يقول كما ذهب إلى ذلك المرحوم السيد الخوئي والمرحوم الشيخ المظفر، بأنّ وجوب المقدمات للواجب ليس وجوبا شرعيا بل وجوب عقلي فقط، لأنّ العقل في مورد وجوب المقدّمة لذي المقدّمة يقول بوجوب المقدّمة، وحكم العقل هذا بوجوب المقدّمة يكفي لتحريك المكلّف في مقام الامتثال، لأنّ العقل يقول: إنّ ذي المقدّمة، مثلاً الصعود إلى السطح، لا يمكن تحققه إلاّ إذا جاء الإنسان بالمقدّمة مثل نصب السلّم، إذن فحكم العقل نفسه يكون محركا للإنسان لامتثال المقدّمة من أجل الإتيان بذي المقدّمة، فإذا قال الشارع مرّة أخرى أنّ المقدّمة واجبة، فسيكون لغوا ولا أثر له. وعلى هذا الأساس فإنّ وجوب المقدّمة لا يكون وجوبا شرعيا بل وجوب عقلي، وإذا رأينا في بعض الموارد ورود الأمر الشرعي بوجوب المقدّمة فإنّ مثل هذا الوجوب إرشادي لا أنّه وجوب مولوي شرعي، إذن إذا قلنا بأنّ وجوب الاجتهاد وجوب غيري، أولاً:لقائل أن يقول بأنّ وجوب المقدّمة الغيري ليس وجوبا شرعيا مولويا بل وجوب إرشادي عقلي.

وثانيا: على فرض أنّ وجوب المقدّمة وجوب مولوي غيري، ولكنّ مطلق مقدّمات الواجب ليست بواجبة، بل تلك المقدّمة الواجبة التي تكون مقدّمة وجودية للواجب وذي المقدّمة من قبيل الوضوء بالنسبة إلى الصلاة، فهذه المقدّمة الوجودية للأحكام إذا لم يأت بها المكلّف يقع الإتيان بذي المقدّمة باطلاً ولا يتحقق معه الامتثال، إذن نحن نقول إنّ المقدّمة لها وجوب شرعي غيري، ولكن ليس بشكل مطلق بحث يشمل جميع المقدمات بل يختص بالمقدّمة الوجودية فقط. وحينئذٍ لا يتوقف امتثال التكاليف الإلهيّة على العلم الاجتهادي بحيث إنّ المكلّف لو لم يجتهد في مورد الأحكام الشرعية فإنّ التكليف الإلهي سيزول ولا يكون قابلاً للامثتال، فالشخص الذي لا يعمل في مورد امتثال التكليف الإلهي لا بالاحتياط ولا بالتقليد ولا بالاجتهاد ولكنّه مع ذلك يأتي بالتكليف الواقعي ويمتثل وظيفته الواقعية فإنّ عمله هذا صحيح وربّما يعمل أحيانا بالوجوب الشرعي من خلال الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط، فلو تركه من هذه الجهة فإنّه يستحق العقاب ولكن لو أتى بنفس التكليف وعين الواقع فإنّ امتثاله للتكليف يقع صحيحا.

وعليه فإنّ وجوب الاحتياط ليس من قبيل وجوب المقدّمة والوجوب الغيري، لأنّه إذا كان وجوب المقدّمة غيريا فإنّ وجوب تلك المقدّمة سيكون وجوبا شرعيا وهذا يختص بالمقدّمة الشرعية كما قلنا، والحال أنّ وجوب الاجتهاد والعلم الاجتهادي لا يعتبر مقدّمة وجودية للتكليف بالحكم الشرعي، فالشخص التارك للاجتهاد ولكنّه يمتثل وظيفته الواقعية ويأتي بالحكم الواقعي فعمله صحيح.

الوجوب التخييري:

وعندما لا يكون وجوب الاجتهاد وجوبا نفسيا ولا وجوبا طريقيا ولا وجوبا مقدميا وغيريا، فيتبيّن أنّ وجوب الاجتهاد وجوب تخييري عقلي وأنّه واجب عقلاً من أجل امثتال التكليف الإلهي، إمّا من طريق الاجتهاد أو العمل بالاحتياط أو التقليد إذا لم يتمكن العامي من الاجتهاد أو العمل بوظيفته الواقعية، فالشخص الجاهل الذي لا يعرف الاجتهاد ولا التقليد ولا العمل بالاحتياط، ولكنّه يأتي بوظيفته الواقعية فعمله هذا صحيح، لأنّه وإن ترك العمل بالاجتهاد أو العمل بالتقليد أو العمل بالاحتياط ولكنّه لم يترك نفس الواقع والوظيفة الواقعية، وعندما يكون المكلّف قد أتى بوظيفته الواقعية والحكم الواقعي فإنّ امثتاله هذا صحيح.

النتيجة: إنّ وجوب الاجتهاد وجوب تخييري عقلي، وعندما يكون وجوب التقليد أو العمل بالاحتياط، وهما قسيما الاجتهاد، وجوبا تخييرا عقليا، فلماذا لا يكون وجوب الاجتهاد وجوبا تخييريا عقليا؟ لأنّ الأصل هو تنجز التكليف واشتغال ذمّة الإنسان بالتكليف الإلهي بسبب وجود العلم الاجمالي وأدلة الأحكام، إذن فنحن بمقتضى العلم الإجمالي وقانون العبودية للباري تعالى مكلّفون بالتكاليف الشرعية وهذا العلم الإجمالي منجز ويجب علينا إفراغ الذمّة من هذا التكليف الشرعي، وإفراغ الذمّة عقلاً إمّا أن يكون بالعمل بالاجتهاد، أو العمل بالاحتياط، أو العمل بالتقليد، أو العمل بالوظيفة الواقعية، وعلى هذا الأساس يتعين الوجوب التخييري العقلي للاجتهاد الذي هو عدل الاحتياط والتقليد للعامي.

التوضيح لمقولة الإخباريين:

تقدّم أنّ الإخباريين لا يرون جواز تقليد غير المعصوم ويعتقدون بأنّ العمل بالاجتهاد مخالف للشرع وبدعة، وقد أقام الإخباريون لإثبات مدعاهم دليلين:

الدليل الأول: قالوا بأنّ كلمة الفقيه والتفقّه وإنّ وردت في القرآن الكريم ومن ذلك آية النفر التي تدلّ على هذا المعنى: «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ...» (53) ، ووردت أيضا كلمات: فقيه، فقهاء، الأفقه، في سياق الروايات، ولكن الوارد في الروايات عنوان «رواة الحديث» و«راوي الحديث».

وفي عصر حضور الأئمّة كان الناس يتعلمون أحكامهم الشرعية من الإمام المعصوم لا من خلال إعمال نظر الفقيه واجتهاد المجتهد غير المعصوم، والفقيه في عصر حضور الإمام المعصوم كان نادر الوجود لأنّه مع وجود المعصوم لم يكن الناس يحتاجون للفقيه لمعرفة أحكامهم الشرعية.

وهكذا بالنسبة لرواة الأحاديث عن الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام كانوا ينقلون كلام المعصوم أو مضمون كلامه للناس، وكانوا ينقلونها لفظا أو معنىً من قبيل «المقنع» و«الهداية» لرئيس المحدّثين الشيخ الصدوق رحمه‏ الله وكذلك رسالة أبيه علي بن بابويه، إذن فالإخباريين يقولون:إنّ المقصود من كلمة الفقيه والأفقه والفقهاء الواردة في كلمات المعصومين عليهم‏ السلام هو رواة الأحاديث الذين ينقلون الروايات عن المعصومين، فعليه فإنّ ما وقع مورد إمضاء وتأييد المعصوم من كلمة الفقيه هو الناقل لروايات وأحاديث المعصومين لا الفقيه الذي يستنبط الحكم الشرعي من طريق الاجتهاد وإعمال النظر في الروايات فليس هذا المعنى مورد تأييد المعصوم ولم يكن في عصر المعصومين عليهم ‏السلام ، ولذلك فإنّ مسألة اجتهاد والتقليد تعتبر من الأمور المستحدثة والتي ظهرت بعد عصر المعصومين وهي بدعة.

ويرى الاخباريون أنّ‏الأصوليين الذين يقولون بالاجتهاد والتقليد يستدلون لقولهم هذا بأنّ مسألة الاجتهاد والتقليد أمر ارتكازي وعقلائي وقد قامت سيرة العقلاء ووجدان العقلاء على أنّ الجاهل يرجع إلى العالم في كل الفنون والعلوم، مثلاً إذا أراد شخص أن يبني بيتا أو عمارة ولم يكن يعرف كيفية ذلك فعليه الرجوع إلى المهندس والمعمار أو أهل الخبرة ليتعلم منهم طريقة بناء البيت، أو إذا كان شخص مريضا فعليه مراجعة الطبيب لعلاج مرضه لأنّ الطبيب يعلم بكيفية علاج المرض، وهكذا في الأحكام الشرعية والأحكام الإلهيّة، فالشخص الجاهل بالأحكام الشرعية فعليه أن يرجع إلى العالم بهذه المسألة بمقتضى سيرة العقلاء، فعليه فالدليل على الاجتهاد والتقليد سيرة العقلاء التي هي من الأمور الارتكازية والوجدانية.

ويجيب الإخباريون على هذا الاستدلال: بأنّ سيرة العقلاء إنّما تكون معتبرة إذا وقعت مورد تقرير وإمضاء المعصوم في العمل بالروايات والعمل بخبر الثقة الذي هو مورد اعتبار السيرة العقلائية وأنّ هذه السيرة وقعت مورد تأييد وإمضاء المعصوم عليه ‏السلام حيث كان الناس يعملون في زمان المعصوم نفسه بخبر الثقة ولم يردع المعصوم عن هذا العمل ولم يقل: «أيّها الناس لا تعملوا بخبر الثقة»، إذن فهذه السيرة حجّة لأنّها ممضاة من الإمام المعصوم.

وأمّا مسألة الاجتهاد والتقليد فهي من الأمور المستحدثة وقد ظهرت بعد عصر المعصوم ومثل هذه السيرة العقلائية المستحدثة بعد زمان المعصوم لا اعتبار لها، وطبعا هناك فرق بين الرواية والفتوى، والرواية تعني أنّ الراوي ينقل قول المعصوم لفظا ومعنى، وهذا النقل إمّا أن يكون بلا واسطة كما لو روى زرارة عن الإمام الصادق عليه‏ السلام أنّه قال: «تجب صلاة الجمعة في زمن الغيبة»، أو تكون حكاية عن قول المعصوم مع الواسطة كما لو نقل زرارة عن محمد بن مسلم ومحمد بن مسلم ينقل عن الإمام الصادق عليه‏ السلام ، والفتوى بهذا النقل تقوم على أساس رأي المجتهد وإعمال نظره وحدسه، فالمجتهد يخبر عن الحكم الإلهي بطريقة الحدس وإعمال نظره وفهمه من الروايات.

الدليل الثاني: أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظن تقتضي في الأصل الأولي حرمة العمل بالظنّ، وهذا مقتضى الأصل اللفظي لحرمة العمل بالظنّ، كذلك مقتضى حكم العقل ومقتضى الاستصحاب أيضا. أمّا مقتضى عموم أصل اللفظي في حرمة العمل بالظن فواضح، لأنّ الآيات الناهية تقول: «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئا...» (54) ، إذن فالظنّ الحاصل من فتوى المجتهد في مسألة شرعية لا يغني الإنسان عن الواقع والحقيقة وبالتالي فهو غير معتبر شرعا.

وهكذا بالنسبة لحكم العقل في مورد الظن حيث يحكم بعدم حجيّته لأنّ ماهية الظنّ هو ما اقترن بالخطأ، والظنّ ليس علّة للحجّية ولا أنّه مقتضي للحجّية، أمّا كونه ليس علّة للحجيّة فواضح، لأنّ العلّة التامّة للحجية هو القطع الوجداني الذي تكون حجّيته ذاتية لا أنّ الظن حجّة ذاتا، وأمّا عدم كون الظنّ مقتضي للحجّية فلأنّه مقترن باحتمال الخطأ، وما كان مقترنا باحتمال الخطأ فلا يحتمل العقل بأنّه مصيب للواقع وأنّه حجّة، لأنّه يحتمل كونه مخالفا للواقع ومع وجود الشك في حجيّته فإنّ هذا الشك مساوق عند العقل مع القطع بعدم حجّية المشكوك، فعليه فالظنّ الحاصل من الاجتهاد ليس له اعتبار عقلاً.

وأمّا النسبة للاستصحاب فعندما لم يكن الحكم الشرعي الواقعي موجودا ولم يكن هناك فقيه ومجتهد لم يكن هذا الظنّ دليلاً شرعيا ولم يكن حجّة، ولكن بعد أن ظهر المجتهد والفقيه وعمل على استنباط الحكم الشرعي نشك بأنّ هذا الظنّ الحاصل من اجتهاد المجتهد في مسألة شرعية هل أنّه حجّة أو غير حجّة؟ ومقتضى الاستصحاب عدم حجّية الظن من قول المجتهد.

النتيجة: إنّ الإخباريين في مورد بيان الأحكام الإلهيّة يختلفون غاية الاختلاف مع الأصوليين ولا يرون اعتبار الاجتهاد حجّة بالوجوه التي تقدم ذكرها إذا لم يكن نقلاً للرواية عن المعصوم عليه‏ السلام ، وقد ذكر في كتاب «روضة الجنات» في ترجمة محمّد أمين الاسترابادي (المتوفي 1303)، 29 موردا من موارد الاختلاف بين الإخباريين والمجتهدين، ولا بأس بالإشارة إلى بعض هذه الموارد:

1 ـ إنّ المجتهدين يرون الاجتهاد واجبا عينيا للمتمكن أو واجبا تخييريا عقليا كما تقدم بيانه، وأمّا الإخباريون فيرون الاجتهاد بدعة وحرام وأنّ مثل هذا الاجتهاد المصطلح لم يكن موجودا في زمان المعصوم وقد ظهر بعد زمان المعصوم ولذلك لم يقع مورد تأييد المعصوم والتالي فهو غير حجّة.

2 ـ إنّ المجتهدين يعتقدون أنّ الأدلة أربعة: الكتاب، السنّة، الإجماع، العقل، وأمّا الإخباريون فيرون أدلة الأحكام أمرين: الكتاب والسنّة ولا يعتقدون بالحكم الحاصل من نقل الإجماع والعقل بشكل مطلق.

3 ـ إنّ المجتهدين لا يرون جواز التقليد الابتدائي للميت ودليلهم على عدم الجواز الإجماع، وذلك خلافا للأخباريين الذين يعتقدون بجواز التقليد الابتدائي للميت، وبالطبع فإنّ الإخباريين إنّما يرون الجواز التقليد الإبتدائي للميت طبقا لمبناهم في مسألة التقليد، لأنّ الإخباريين يرون وجوب تقليد المعصوم، وما دام الراوي ينقل عن المعصوم فقط فإنّ التبعية للمعصوم حجّة، ولكن إذا لم يكن المعصوم موجودا فإنّ اتباع الفقيه الراوي في اصطلاح الإخباريين يكون مقبولاً، والفقيه في اصطلح الإخباريين لا يعني المجتهد والمستنبط الأحكام من أدلتها الشرعية.

إذن فالراوي الناقل للحديث مع الواسطة أو بدون واسطة عن المعصوم فإنّ نقله حجّة، وعليه فإنّ الفقيه هو الراوي لا يختلف حاله فيما إذا كان حيّا أو ميتا، فكما أنّه يُقبل نقل رواية الميت، فإنّ نقل رواية الراوي الحي عن الإمام معتبر أيضا، وهذا خلافا للأصوليين الذين لا يرون وجود فرق في مورد رواية الراوي عن الإمام عليه‏السلام فيما إذا كان الراوي حيّا أو ميتا، ولكن هناك فرق في مسألة الاجتهاد والتقليد حيث لا يرون تقليد الميت ابتداءً، سوى ما ذهب إليه بعض الفقهاء كالميرزا القمي في «جامع الشتات» من جواز تقليد الميت ابتداءً على المبنى الذي اختاره هناك، حيث يرى في مبناه انسداد باب الاجتهاد لا انفتاحه، وحينئذٍ يكون مطلق الظنّ معتبر في ظرف الانسداد، سواء كان الظنّ حاصلاً من قول المجتهد الحي أو الظنّ الحاصل من قول المجتهد الميت، ومن هنا كان يرى أنّ مطلق الظنّ حجّة على أساس مبناه الانسدادي.

4 ـ إنّ المجتهد في مورد ما لا نص فيه على الحكم الشرعي، من قبيل الشك في الحكم الشرعي للتدخين وهل أنّه حلال أو حرام؟ فهنا لا يوجد نص و لا رواية على حلية وحرمة التدخين فنشك في حكمه الشرعي، ففي هذه الموارد يقول الأصوليون بأصالة البراءة وأصالة الاباحة بعد الفحص والتحقيق وعدم الظفر على دليل معين سواء كان الشك في التكليف في مورد الشبهة الحكمية أم الشبهة الموضوعية، ومنشأ الشك في الشبهة الحكمية ثلاثة أمور: إمّا عدم النص، أو تعارض النص، بأن يكون لدينا روايتين متعارضتين أحدهما تقول إنّ التدخين حلال والأخرى تقول التدخين حرام، فمقتضى القاعدة التساقط عند عدم وجود المرجح، أو أن يكون منشأ الشك في الشبهة الحكمية هو إجمال النص، أي أنّه يوجد نص في هذا الحكم ولكنه مجمل و لا يمكن الاستفادة منه في تشخيص الحكم الشرعي.

أمّا الشبهة الموضوعية فالشارع يبيّن الحكم الشرعي فيها مثلاً نشك في السائل في هذا الإناء هل هو خمر أو ماء؟ فإذا كان خمرا فالشارع قد بيّن حكمه وهو الحرمة، ولو كان ماءً فحكمه الشرعي هو الحلية، غاية الأمر أنّ المكلّف لا يستطيع تشخيص الموضوع وماهية السائل الذي أمامه، إذن فمنشأ الشك هنا نابع من عدم تشخيص المكلّف للموضوع الخارجي، ومحل البحث في مورد ما لا نصّ فيه بعد الفحص والتحقيق واليأس على الدليل الشرعي فإنّ الاُصوليين يرون جريان أصالة البراءة وأصالة الاباحة سواءً في الشبهة الحكمية أم في الشبهة الموضوعية .

أمّا الأخباريون فيذهبون إلى الاحتياط ويقولون : لدينا علم إجمالي بالتكليف وهذا العلم الإجمالي منجز، وحتى على فرض عدم وجود العلم الإجمالي فإنّ احتمال التكليف في مورد الشبهة منجز، وبعد الفحص والتحقيق واليأس من وجود النصّ في مورد الشبهة فإنّ مقتضى القاعدة هو الاحتياط، لأنّه كما أنّ الاحتياط كان هو المتعين قبل الفحص في مورد الشبهة، فبمقتضى تنجيز العلم الإجمالي أو بمقتضى احتمال تنجيز التكليف بعد الفحص أيضاً يكون مقتضى القاعدة الاحتياط.

5 ـ إنّ المجتهدين يقسّمون الناس بالنسبة للأحكام إلى ثلاثة أقسام : إمّا مجتهد أو مقلد أو محتاط، كما ورد ذلك في المسألة الاُولى من كتاب العروة حيث يقول : «يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلداً أو محتاطاً».

خلافاً للأخباريين الذين يرون أنّ جميع الناس مقلدين للمعصوم ولا يرون جواز تقليد غير المعصوم ولا يقبلون اجتهاد المجتهدين لأنّه أمر مستحدث وبدعة ولا يرون جواز تقليد غير المعصوم ويقولون أنّه لا دليل على جواز تبعية وتقليد المجتهد والدليل إنّما قام على جواز تبعية الراوي للحديث لا الفقيه غير الراوي للحديث، والمقصود من الفقيه هو الذي يملك فهماً للروايات التي ينقلها الراوي باللفظ أو بالمعنى عن المعصوم، ومثل هذا الفقيه الناقل للرواية هو الذي وقع مورد تأييد المعصوم لا الفقيه الاصطلاحي في العصر الحاضر الذي يستنبط الأحكام الشرعية من طريق الحدس وإعمال النظر، مضافاً إلى الآيات الناهية عن العمل بالظنّ التي تدلّ على عدم حجيّة قول المجتهد وستأتي المناقشة في هذه المقولة.

مشروعية الاجتهاد:

أمّا في مورد العمل بالاجتهاد والتقليد فإنّ سيرة المتشرعة التي كانت موجودة في عصر الأئمّة عليهم ‏السلام كانت جارية على أنّ الناس يسألون مسائلهم الشرعية من أصحاب الأئمّة ويتعلمون منهم في حال عدم وصولهم إلى الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام ، فهذا المسلك هو مسلك المتشرعين والمسلمين والموءمنين في مورد تعلم الأحكام الشرعية، وهذه السيرة للمتشرعة مستوحاة من المعصوم نفسه.هذا أولاً.

ثانيا: إنّ سيرة العقلاء تقوم على أساس رجوع الجاهل في كلّ فن إلى العالم بذلك الفن، ومن هذا المورد رجوع الجاهل بالأحكام الشرعية والدينية إلى العالم بها، ولكنكم أيّها الأخباريين تقولون إنّ هذه السيرة لم تكن على مرأى ومسمع من المعصوم، فهو كلام باطل، لأنّ سيرة العقلاء في عصر المعصوم وفي مرأى ومحضر المعصوم كانت جارية على هذا الأساس، فعندما لا يتوصل المكلّف إلى المعصوم فإنّه يرجع إلى غير المعصوم الذي يعلم بالحكم الإلهي ويسأل منه حكمه الشرعي، إذن ففي مسألة حجية الاجتهاد وحجيّة التقليد للعامي فإنّ سيرة المتشرعة وكذلك سيرة العقلاء تدلان على صحّة واعتبار هذا الرجوع إلى الفقيه.

ثالثا: مضافاً إلى سيرة المتشرعة وسيرة العقلاء، هناك روايات واردة عن الأئمّة المعصومين عليهم‏السلام يبين فيها الأئمّة منهج الاجتهاد لأصحابهم ويعلّمون فقهاء الشيعة كيفية استنباط الأحكام من ظواهر الكتاب والسنّة، وفي هذا المجال هناك طوائف مختلفة من الروايات التي يرشد فيها الإمام المعصوم إلى كيفية الاستنباط والاجتهاد من الروايات وتحصيل الحكم الشرعي وتعليم فقهاء الشيعة بذلك :

1 ـ هناك طائفة من الروايات تبيّن اسلوب الاجتهاد ومنهجية استنباط الأحكام الشرعية من ظاهر الكتاب والسنّة وناظرة لكيفية تفريع الأحكام وفق الاُصول التي ذكرها الإمام المعصوم عليه‏ السلام في لسان الروايات، وطبقاً لتلك الاُصول يتحرك فقهاء الشيعة لبيان المسألة الشرعية والحكم الشرعي على أساس ما يستنبطونه من تلك الاُصول والقواعد الكلية التي ذكرها الإمام في مورد الأحكام.

2 ـ ورد في رواية عن الإمام الرضا عليه‏ السلام أنّه قال : «علينا إلقاء الاُصول وعليكم التفريع» (55) بمعنى أنّه يجب على الفقهاء تطبيق تلك الاُصول والقواعد الكلية على جزئياتها ومصاديقها، مثلاً يقول الإمام المعصوم عليه‏ السلام بالنسبة للضمان : «على اليد ما أخذت حتّى توءدي» (56) فهذه قاعدة كلية تقرر بأنّ الشخص الذي أخذ مال شخص آخر في ذمّته يضمن ذلك المال، والمراد من اليد هو العهدة لا اليد البدنية، أو عندما يقول الإمام المعصوم بالنسبة للقضاء : «البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر» (57) أو ما ورد في الحديث النبوي المعروف : «إنّما اقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» (58) فهذا أصل وقانون كلي يقرر بأنّ إقامة البيّنة العادلة في مورد المخاصمة على عهدة المدّعي بأنّ هذا المال له، وأمّا الطرف الآخر المدّعى عليه وهو المنكر فيجب عليه الحلف واليمين، وعندما يقوم الفقيه بإصدار فتوى في مورد القضاء فالحكم الشرعي للمدّعي هو وجوب إقامة البيّنة، وأمّا المنكر فيجب عليه الحلف واليمين، وهذا الحكم صحيح ومن مصاديق ذلك الأصل الكلي والقاعدة الكلية التي قال المعصوم : «البيّنة على المدّعي والحلف على من أنكر» (59) .

3 ـ هناك طائفة اُخرى من الروايات تدلّ على أنّ الافتاء والفتوى كانت شائعة في عصر الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام ، ومن جملة ذلك أنّ الإمام الصادق عليه‏ السلام قال لأبان ابن تغلب : «اجلس في مسجد المدينة وافتي الناس، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك» (60) .

وبكلمة اُخرى، فالطوائف المتعددة من الروايات تدلّ على مشروعية الاجتهاد الصحيح من الكتاب والسنّة والأدلة المعتبرة :

الطائفة الاُولى: الروايات التي تدلّ على تفريع الأحكام وارجاعها إلى الاُصول الكلية المنقولة عن المعصوم وتطبيقها عليها.

الطائفة الثانية: الروايات التي تدلّ على أنّ الافتاء كان موجوداً في زمان المعصوم وأنّ الإمام المعصوم كان يرشد أصحابه وأتباعه إلى هذا الأمر ويوصيهم بالافتاء بين الناس ويوءيد هذه الظاهرة بعنوان قانون كلي.

الطائفة الثالثة: الروايات التي تبيّن أنّ الأئمّة عليهم‏السلام كانوا يعلّمون فقهاء الشيعة كيفية استنباط الأحكام، ففي الكثير من الموارد كان الإمام يرشد أصحابه ويعلّمهم أنّ الكلام إذا كان مجملاً والرواية إذا كانت مجملة فإنّ هذا اللفظ المجمل يحمل على المبين، أو إذا كانت الرواية تدلّ بظاهرها على شيء وهناك رواية اُخرى دلالتها أظهر من الاُولى، فهنا يحمل الظاهر على الأظهر، ومن جملة الروايات التي تدلّ على تعليم عملية الاستنباط والاجتهاد لفقهاء الشيعة وأصحاب الأئمّة روايات باب قصر الصلاة في كتاب «من لا يحضره الفقيه» وفي كتب حديثية اُخرى.

الطائفة الرابعة: الروايات التي تقرر أنّ الإمام كان يرجع الشيعة في مورد القضاء إلى بعض أصحابه العارفين بالأحكام الإلهيّة والمسائل الشرعية ومنها : مقبولة عمر ابن حنظلة المعروفة، وقد ورد فيها أنّه عندما سأل الإمام أنّ الروايات التي تصل إلينا منكم متعارضة، أو بالنسبة لمسألة الميراث أو الدين، قال الإمام : «ارجعوا فيها إلى من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم حاكماً» (61) أو ما ورد في بعض الروايات حيث يسأل من الإمام : ربّما لا نصل إليكم ولا نستطيع تعلم الأحكام منكم فما هو تكليفنا ؟ فيقول الإمام أنّ عليكم الرجوع إلى أصحابه الموجودين قريباً منكم ويقول مثلاً : «خذوا معالم دينكم من يونس بن عبدالرحمن وزكريا بن آدم» (62) الغرض أننا نرى أنّ هذه الروايات تقرر رجوع الشيعة إلى أشخاص غير معصومين كانوا يعيشون في عصر الإمام محمّد الباقر والإمام الصادق عليهماالسلام ، والإمام بنفسه كان يرشد الناس إلى الرجوع إلى هوءلاء الأصحاب الذين هم من فقهاء عصر هذين الإماميين لتعلم الأحكام الشرعية.

الطائفة الخامسة: الروايات التي يسأل فيها الإمام عن الحكم في مسألة الروايتين المتعارضتين، مثلاً تقول إحدى الروايتين : تجب صلاة الجمعة في زمان حضور المعصوم فقط، والرواية الاُخرى تقول : إنّ صلاة الجمعة واجبة حتّى في زمان عدم حضور المعصوم، فهاتين الروايتين متعارضتين فما هو تكليفنا في هذا المورد ؟ يقول الإمام : انظروا إلى الراوي لكلّ منهما وخذوا بالأعدل، الافقه، الاورع، الاوثق. ويسأل الراوي : إنّ هاتين الروايتين متساويتان في هذا الأمر، فيقول الإمام عليه‏ السلام : خذ بما اشتهر بين أصحابك.

الغرض أنّ الإمام في هذه الروايات يرجع الناس في مورد الروايتين المتعارضتين لذلك الفقيه الذي هو أكثر ثقة من الفقيه الآخر، أو إلى ذلك الراوي الأوثق من الراوي الآخر، وهذه كلّها تعتبر دليلاً على جواز وصحّة أخذ الأحكام ومعالم الدين من غير المعصوم إذا كان ثقة.

ولم يشاهد في التاريخ وفي الروايات أنّ الأئمّة عليهم‏السلام نهوا الناس عن الرجوع للفقيه الجامع للشرائط مع حضور المعصوم، ليس فقط لم يرد نهي في ذلك بل إنّ الإمام نفسه كان يأمر الناس في الرجوع إلى هوءلاء الفقهاء لتحصيل الأحكام الشرعية.

القواعد الكلية للأحكام في الكتاب والسنّة:

لقد ورد في روايات متعددة عن الأئمّة عليهم‏السلام في فهم الأحكام الشرعية سواءً في مورد القضاء أم في مورد الافتاء أم في مورد فهم الروايتين المتعارضتين أنّ الأئمّة كانوا يرجعون الناس إلى أصحابهم، وهنا نشير إلى بعض تلك الروايات والقواعد :

1 ـ محمّد بن ادريس في آخر السرائر نقلاً عن كتاب هشام بن سالم، عن أبي عبداللّه‏ عليه‏السلام قال: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا» (63) .

2 ـ عن كتاب أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الإمام الرضا عليه‏ السلام قال: «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع» (64) .

ولكن صاحب الوسائل يقول : إنّ هذه الروايات موءيدة للأخباريين حيث يعتقدون بلزوم العمل طبقا للاُصول والقواعد التي بينها الأئمّة عليهم‏ السلام أنفسهم، أي العمل وفق ما ورد في نصّ الروايات وبيانه للناس، وهنا لا فرق في أن يكون بيان هذه الأحكام أن ينقل الراوي الحديث بلا واسطة عن المعصوم أو مع الواسطة، وسواءً نقل الرواية باللفظ مثل حديث الغدير المتواتر لفظاً وحديث الثقلين المتواتر لفظاً، أو يتمّ نقل الحديث بالمعنى، ففي كلا هاتين الصورتين يكون نقل الحديث لفظاً أو معنىً عن الإمام حجّة.

ويضيف صاحب الوسائل: إنّ هذه الرواية وردت في مقام التقية، لأنّ العامة يرون جواز العمل بالاجتهاد، وهذه الروايات تدلّ أيضاً على جواز الإفتاء مطابقةً للتقية، ولذلك لا يمكن أن يستفاد من هذه الروايات حجية قول المجتهد.

الجواب: إنّ احتمال التقية ضعيف جدّاً، لأنّ الروايات المتعددة المتظافرة لا يعقل أنّها صادرة في مقام التقية، بل إنّ عدد الروايات في هذا المورد يصل إلى حدّ التواتر، ومع هذه الروايات لا يمكن القول أنّها صادرة بأجمعها في مقام التقية.

على أية حال إنّ المستفاد من هذه الروايات هو جواز الاجتهاد والفتوى حيث بيّن الأئمّة القواعد الكلية للأحكام الإلهيّة، وأمّا استنباط الأحكام في الجزئيات والتفاصيل من تلك الأحكام الكلية فبعهدة الفقهاء وأصحاب الخبرة والعلم.

قاعدة «لا حرج»:

وأحد القواعد الكلية في الفقه قاعدة «لا حرج» والتي وردت في القرآن الكريم : «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...» (65) . ويمكن استخراج جزئيات وفروع كثيرة من هذه القاعدة الكلية، مثلاً إذا كان الوضوء حرجياً، فحينئذٍ يتمّ تطبيق قوله «ما جعل عليكم في الدين من حرج» عليه ورفع وجوب هذا الوضوء، وإذا كان الصوم حرجياً فيتمّ تطبيق هذه القاعدة عليه ورفع وجوبه، وإذا كان السفر حرجياً فإنّ هذه الآية «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...» تنطبق عليه وبالتالي يكون هذا السفر حراماً.

وهذه القاعدة قابلة للانطباق على جميع موارد سلوكيات الإنسان والتكاليف الشرعية وحاكمة على اطلاقات الأدلة الأولية للأحكام حتّى في مورد التعارض مع أدلة الأحكام الأولية، وإلاّ فسوف يستلزم اللغوية، مثلاً : تقول الآية الشريفة : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ...» (66) حيث تدلّ هذه الآية على وجوب الوضوء والغسل مطلقاً، أي أنّ الوضوء واجب سواءً كان ذلك الوضوء حرجياً أم غير حرجي وهذا هو الدليل الأولي لحكم الوضوء من دون الإشارة فيه إلى وجود حرج أو عدم وجوده في هذا الوضوء والغسل، ولكن قاعدة «لا حرج» التي هي من الأدلة الثانوية للأحكام تتعارض مع تلك الأدلة الأوليّة، وفي مقام التعارض فإنّ قاعدة «لا حرج» والأدلة الثانوية حاكمة وناظرة على تلك القاعدة الأوليّة ومتقدمة عليها، ولذلك إذا كان الوضوء، أو الصوم، أو الغسل أو التكاليف الإلهيّة الاُخرى حرجية فحينئذٍ سيرفع وجوبها، ويمكن استنباط عشرات ومئات الموارد الفقهية والأحكام الشرعية من هذه القاعدة.

قاعدة «لا ضرر»:

ومن جملة القواعد الكلية للأحكام قاعدة «لا ضرر» حيث قال نبي الإسلام صلى‏الله‏عليه‏و‏آله : «لا ضرر ولا ضرار»^(2) وهذه القاعدة الكلية لا تختص بمورد سمرة بن جندب، فقد كان لسمرة نخلة في بيت أحد الأصحاب، وكان يدخل بيت هذا الصحابي الأنصاري لتفقد نخلته بدون إذن صاحب البيت وأهله، فما كان من الأنصاري إلاّ أن شكاه عند رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله وأنّ سمرة يدخل إلى بيتي دائماً بدون إذني.

وقد نهى النبي الأكرم صلى‏الله‏عليه‏و‏آله سمرة عن هذا العمل إلاّ أنّه لم يمتثل فدعاه رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله وطلب منه أن يبيعه هذه النخلة حتّى يعوضه اللّه‏ تعالى من نخيل الجنّة فلم يقبل سمرة، وأخيراً أمر النبي بقطع النخلة وقال¨ :«اقطعها وأرمها، إنّك لرجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (67) .

إنّ قاعدة «لا ضرر» تعتبر قاعدة كلية وتنطبق على جميع الموارد من العبادات والمعاملات، فإذا كان البيع ضررياً فلا يجب لزوم الوفاء به، وإذا كان العقد ضررياً فلا يجب الوفاء به، وإذا كان الوضوء ضررياً فمثل هذا الوضوء غير واجب، وإذا كان الغسل في الجو البارد ضررياً فلا يجب مثل هذا الغسل و...

هذه القاعدة التي استخرجت من الروايات الشريفة وهي قاعدة «لا ضرر» وردت في الآيات القرآنية عدّة مرّات وتوءكد أنّه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، بمعنى أنّ ماهية الضرر لا أعتبار لها في القانون الإسلامي، وكلمة «لا ضرار» تعني أيضاً «لا ضرر» أو نقول إنّ معنى «لا ضرر» هو عدم وجود الضرر في قواعد وقوانين الدين، بمعنى أنّه إذا وجد قانون ضرري في الإسلام فهو ساقط عن الاعتبار، وكلمة «لا ضرار» تعني أنّ الناس لا ينبغي أن يلحق أحدهما الضرر بالآخر، سواءً كان الضرر من طرف واحد أو من طرفين فكلّ أشكال إلحاق الضرر في الآخرين ممنوع.

والحاصل: أنّ قاعدة «لا ضرر» هي قاعدة كلية قابلة للتطبيق في جميع موارد التكاليف في حياة الإنسان وقد استند النبي الأكرم صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله إلى هذه القاعدة عندما أمر بقلع نخلة سمرة بن جندب، وكذلك استند إليها أصحاب الأئمّة وعلماء الدين فهذه القاعدة مورد تأييد المعصومين وفقهاء الشريعة الإسلاميّة.

قاعدة «اليد والضمان»:

ومن جملة القوانين الكلية للدين «قاعدة اليد» وهي : «على اليد ما أخذت حتّى توءدي» (68) ، ويستند إليها في باب الضمان فإذا كان على الإنسان حقاً أو ملكاً لشخص آخر فما لم يوءد هذا الحقّ فهو ضامن له ولا يسقط من ذمّته كما تقدّم سابقاً.

قاعدة «الحل»:

وهي «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» (69) أو «كلّ شيء لك حلال حتّى يرد فيه نهي» (70) فالشارع المقدس وعلى أساس هذه الرواية بيّن قاعدة كلية في حلية الأشياء، بمعنى أننا إذا شككنا أن تناول هذا النبات هل هو حلال أو حرام ؟ فالشارع يقول : «كلّ شيء لك حلال حتى يرد فيه نهي» وهذا يعني أنّه في الموارد التي لم يرد فيها نهي ومنع من المولى عن ذلك الشيء فهو حلال، سواءً كان شككنا في مورد لحم الحيوان وعلى أساس أنّ الأصل في باب اللحوم هو التذكية، وإلاّ فإذا كان الأصل في باب اللحوم عدم التذكية، فمع وجود الأصل الموضوعي هنا وهو عدم التذكية لا تصل النوبة إلى أصالة الحل والأصل الغير الموضوعي، أو شككنا في مورد نباتي مثلاً أو في مورد الماء أو التدخين أو في موارد الطهارة والنجاسة فهذه الموارد كلّها تجري فيها هذه القاعدة، فلو شككنا هل أنّ هذا الماء طاهر أو غير طاهر ؟ فتجري قاعدة : «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» (71) . فالشارع جعل الطهارة في جميع الأشياء وجعل الحلية كذلك، وهذا قانون كلي يشمل جميع موارد الشك وقابل للانطباق على جميع الموارد المشكوكة في الحلية والمشكوكة الطهارة، إلاّ في موارد يعلم المكلّف بعدم الحلية أو يعلم بعدم الطهارة.

على أيّة حال أنّ جميع هذه القواعد وردت في لسان الكتاب والسنّة وتعتبر دليلاً على أنّ تطبيق هذه القواعد الكلية على الجزئيات وبالتالي فإنّ فتوى المجتهد بها حجّة.

قاعدة «الاستصحاب»:

ومن جملة القواعد الكلية التي وردت في الروايات «الاستصحاب» وذلك في صحيحة زرارة المعروفة حيث يسأل زرارة عن الوضوء وأنّه إذا تيقن الشخص بأنّه على وضوء ولكنه شك في بقاء وضوءه بسبب أنّه أخذته سنة من النوم، فهل يبطل وضوءه ؟

فأجابه الإمام عليه‏ السلام : «فإنّه على يقين من وضوءه، ولا تنقض اليقين أبدا بالشك، وإنّما تنقضه بيقين آخر» (72) وهذا المقطع من الرواية يعتبر قانوناً كلياً حيث بين الإمام أنّ الشك لا ينقض اليقين، وقد وردت في الرواية كلمة «أبداً» غاية الأمر أنّ البحث الاُصولي في هذه الرواية يتناول جهات متعددة ومن جملتها التأمل والتحقيق في صحيحة زرارة هذه لاثبات حجيّة الاستصحاب وأن «ال» في كلمة اليقين، «ولا تنقضوا اليقين بالشك» هي الف لام العهد، بمعنى أنّ اليقين في هذه الرواية يختص بهذا المورد وهو الوضوء، لأنّ الألف واللام تعود إلى الوضوء، كذلك اليقين بالوضوء لا ينقض بالشك، وهذا يعني أنّ هذه الرواية لا يمكن استنباط قاعدة كلية في اثبات الاستصحاب في جميع الموارد وأنّه كلّما شك المكلّف في شيء كان على يقين منه سابقاً فلا يحقّ له نقض يقينه بهذا الشك، وإنّما يمكن استخراج قاعدة كلية من هذه الرواية وأنّه لا يجوز نقض اليقين بالشك في جميع الموارد إذا كانت الألف واللام في كلمة اليقين للجنس.

واجيب عن هذا الإشكال بأن الاُمور ذات التعلق لا يمكنها التحقق بدون متعلق عليه، فالحكم الشرعي من الاُمور ذات التعلق وما لم يكن هناك متعلق فإنّه لا يتحقق، فلابدّ من وجود متعلق للحكم، مثلاً الحكم بالقعود، الحكم بالقيام، الحكم بالقضاء، الحكم بالصلاة، وهكذا جميع الاُمور ذات التعلق، فالأمر بحاجة إلى متعلق ومأمور به، والمقصود أنّ الاُمور ذات التعلق لا يمكن أن تتحقق خارجاً بدون متعلق، وعليه فاليقين من الاُمور ذات التعلق، والعلم من الاُمور ذات التعلق، والاضافة بحاجة إلى مضاف إليه، فالإنسان يعلم بماذا، وله يقين بماذا، فلابدّ من وجود متعلق لهذا العلم واليقين، فعندما تذكر في هذه الرواية مسألة الوضوء لا من باب أنّ الوضوء له خصوصيات معيّنة بحيث إنّ المكلّف يكون على يقين بالوضوء ثمّ يشك في بقاءه ولا يجوز له نقض هذا اليقين بالشك، فالوضوء إنّما تعلق به، لأنّ اليقين من الاُمور ذات التعلق ولا يمكن تحققه في الخارج بدون متعلق، ومن هنا كان متعلق اليقين في هذه المسألة هو الوضوء، وربّما يكون متعلق اليقين الحكم ولا ينبغي نقضه بالشك أيضا.

وعليه فإنّ الالف واللام هنا هي للجنس، والإمام في هذه الرواية يريد بيان قانون كلي حيث يقول : «ولا تنقضوا اليقين بالشك أبداً»وأن نقض اليقين بالشك حرام، وهذه قاعدة كلية قابلة للتطبيق في جميع الموارد، فالإمام عمل على تطبيق هذه القاعدة وكذلك فقهاء الإسلام والعلماء عملوا أيضاً على تطبيق هذه القاعدة في جميع مواردها ومطابيقها، حتى في مورد الشبهة الموضوعية مثل ما ورد في هذه الرواية من مسألة الوضوء، فالوضوء موضوع من الموضوعات الخارجية الذي تعلق به اليقين، والآن يشك المكلّف في بقاء ذلك اليقين وعليه أن يستصحب بقاء الوضوء ويصلي بالطهارة الاستصحابية، والشخص الذي كان على يقين من الوضوء ولكنه عند الظهر شك هل أنّ وضوءه باقٍ لحدّ الآن أو أنّه قد انتقض ؟ فعليه تطبيق قاعدة : ولا تنقض اليقين بالشك، فهنا يشك في بقاء يقينه ويستصحب بقاء الوضوء. وطبعاً بعض العلماء مثل صاحب المحاضرات «آية اللّه‏ الخوئي» يستشكل في الاستصحاب في الأحكام التكليفية، لوجود التعارض الدائم فيها بين استصحاب عدم الجعل والمجعول.

النتيجة: إنّ الإمام في هذه الرواية بيّن كبرى كلية وقاعدة عامة وقال : «ولا تنقض اليقين بالشك» وهذا يشمل جميع الموارد سواءً في الموضوعات أم في الأحكام وسواءً في مورد الشك في المقتضى أو الرافع، فلا ينبغي نقض اليقين في الشك فيها، وبالامكان استنباط عشرات ومئات الموارد الجزئية لتطبيق هذه القاعدة عليها.

قاعدة البراءة الشرعية والعقلية:

ومن جملة القواعد الكلية للأحكام «قاعدة البراءة» وهي : «رفع ما لا يعلمون»، مثلاً نشك في وجوب صلاة ركعتين في أوّل شهر رمضان أو عدم وجوبها، فتأتي هذه القاعدة الكلية «رفع ما لا يعلمون» لتقول : ما دمت لا تعلم بالوجوب فإنّه مرفوع عنك، غاية الأمر أنّ هذه القاعدة فيها تفاصيل لابدّ من التحقيق فيها، ولكن الأصل الكلي للقاعدة مقبول ولا إشكال فيه، فهذه الرواية ترفع الحكم في مورد الشك بعنوان كلي، وأمّا جزئيات وتفاصيل هذه المسألة والقاعدة الاُصولية «رفع ما لا يعلمون» فيسأل: هل أنّ رفع الحكم هذا ظاهري أو واقعي ؟

بمقتضى سياق الرواية والذي يرفع الطير والوسوسة والمستكره عليه، والمضطر إليه، فإنّ الرفع في هذه الموارد يعتبر رفعاً واقعياً، أي أنّ المكلّف في مورد الاضطرار لا يكون هناك اثر للحكم الواقعي عليه، فالحكم واقعاً مرفوع عنه لا أن أثره مرفوع بحسب الظاهر فقط وأنّه بعد زوال الاضطرار يعود عليه، وكذلك أثر الإكراه واقعاً مرفوع عنه لا أنّه مرفوع ظاهراً.

إذن فمقتضى سياق الرواية «رفع ما لا يعلمون» في مورد الجهل بالحكم أنّ الحكم الواقعي مرفوع عن المكلّف الجاهل، وحينئذٍ إذا رفع الحكم الواقعي عن المكلّف الجاهل، فلا يمكن التمسك بهذا الحديث لرفع التكليف، لأنّه عندما يكون المكلّف على يقين من رفع الحكم الواقعي، ففي الواقع لا توجد في هذا المورد شبهة التكليف، وعندما يكون على يقين من رفع الحكم الواقعي عنه فإنّه «يعلم» لا أنّه مصداق ما لا يعلم، بمعنى أنّه يعلم في الواقع أنّه ليس بمكلّف، وبلحاظ هذا المانع العقلي لا مكان هنا للتمسك بحديث الرفع لرفع الأحكام، ولذلك لابدّ في تطبيق قاعدة «رفع ما لا يعلمون» التحقيق في هذا الشأن، ونحكم في جملة رفع ما لا يعلمون على خلاف السياق لأجل المانع العقلي مع ذلك أنّ الأصل الكلي للقاعدة تام وأنّها تقتضي رفع ما لا يعلمون في مورد الجهل في الأحكام.

قاعدة لزوم الوفاء بالعهد:

وفي مورد المعاملات والعقود يقول الشارع : «اوفوا بالعهود» (73) حيث تشمل هذه الجملة جميع البيوع والعقود والمعاملات، ولكن هناك عقود ورد فيها دليل خاص بحيث تخرج عن هذا العام القرآني «اوفوا بالعقود» وتبيّن تلك الأدلة الخاصة أنّ بيع الكاليء بالكاليء لا يجب الوفاء به، وبيع الملامسة والمنابذة لا يجب الوفاء به، ونكاح الشغار لا يجب الوفاء به، فهذه الموارد مخصصة من ذلك العام، وفي غير هذه الموارد التي لا دليل لدينا على التخصيص نشك هل أنّ «اوفوا بالعقود» يشمل في مضمونه العقود اللفظية فقط مثل : بعت وقبلت، ويجب الوفاء به، أما أنّه يشمل المعاطاة أيضاً ؟ فهنا في مورد الشك نتمسك بذلك العام القرآني ونقول : كما أنّ العقد اللفظي والقولي يجب الوفاء به فكذلك العقد الفعلي والمعاطاتي يجب الوفاء به.

وكذلك تقول الآية الشريفة : «وَأَحَلَّ اللّه‏ُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا» (74) و«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ...» (75) وغيرها فهذه قواعد كلية وردت في سياق الآيات القرآنية ويمكن استنباط الأحكام الشرعية للعشرات والمئات من الجزئيات والموارد في العقود والايقاعات والمشروبات والمأكولات من هذه القواعد، ويقوم الفقيه بتطبيق هذه القواعد على ما يستنبطه من أحكام جزئية بالاستناد إلى هذه القواعد والعمومات القرآنية والروائية ويفتي بها، وهذا الاجتهاد صحيح لأنّه مطابق لظاهر الكتاب والسنّة، وظاهر الكتاب والسنّة حجّة.

والدليل على حجيّة الظاهر، مضافاً إلى الوجدان الارتكازي، سيرة العقلاء، مثلاً إذا كتب شخص لرفيقه رسالة وذكر فيها أن يشتري له عباءة، فإنّ سيرة العقلاء في هذا المورد أنّهم يحملون كلامه في الرسالة على ظاهره وأنّه ينبغي عليه شراء عباءة، ولكن إذا كان مقصود الكاتب من العباءة هو السيف مثلاً أو الرمح وأن يشتري له سيفاً ورمحاً فهذا خلاف الظاهر ويحتاج إلى قرينة، وما لم توجد قرينة على خلاف الظاهر فالظاهر حجّة، أو مثلاً يكتب تاجر إلى آخر رسالة بأن يشتري له فرشاً وسجادة، فينبغي على المرسل إليه أن يعمل بالظاهر ويشتري سجادة، ولكن إذا قال شخص : إنّ المراد من السجادة شراء الحنطة مثلاً فهذا خلاف الظاهر ويحتاج إلى قرينة ودليل خاص.

إذن فالعمل بالظواهر حجّة بسيرة وبناء العقلاء، وهذه السيرة العقلائية جاءت في مورد الأحكام الشرعية ومورد امضاء وتأييد المعصوم، لأنّه لم يرد في التاريخ أنّ المعصوم قال : أيّها الناس لا تعملوا بالظواهر أو بظاهر الكلام، فمثل هذا الكلام لم يرد في كلام أي نبي وأي ولي، ومن عدم ردع المعصوم عن سيرة العقلاء هذه في العمل بظواهر الكلام نكتشف أنّ سيرة العقلاء في مورد بيان الأحكام الشرعية حجّة أيضاً، إذن لا شك في حجيّة هذه القواعد المستوحاة من ظاهر الكتاب والسنّة.

قاعدة القضاء:

تقدّم أنّ من جملة القواعد الكلية في باب القضاء والقابلة للتطبيق على الجزئيات، قاعدة «البيّنة والإيمان» حيث قال رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله : «إنّما اقضي بينكم بالبيّنات والإيمان» (76) .
وفي رواية اُخرى : «البيّنة على المدعي واليمين على من ادّعى عليه» (77) .

قاعدة الصلح:

قال رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله : «الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً» (78) وهذا الحديث يبين مشروعية الصلح والمصالحة بين المسلمين، إلاّ في مورد أن يستدعي الصلح تحليل الحرام وتحريم الحلال فهو باطل.

قاعدة تكافوء المسلمين:

ورد في الحديث: «المسلمون اُخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» (79) وهذه قاعدة كلية تثبت الاُخوة المعنوية بين المسلمين وكذلك تساويهم من حيث الدماء وتساويهم من الجهات الإنسانية الاُخرى ويسعى بذمتهم أدناهم، أي الفرد الأدنى منهم يحقّ له مثلاً في ميدان الحرب أن يعطي الأمان لجنود الأعداء من الكفّار، فهذه الذمّة الصادرة من الجندي العادي في الجيش الإسلامي محترمة ولا يحقّ للآمر ولقائد القوات المسلحة نقض هذه الذمّة والقول بأن هذا الجندي العادي لا يحقّ له أن يتصرف بمثل هذا التصرف «ويسعى بذمتهم أدناهم» بمعنى أنّه إذا صدر عهد الذمّة هذا من أقلهم شأناً وقام الجندي العادي للمسلمين بعقد عهد الذمّة مع مجموعة من الأعداء الكفّار وأدخلهم في ذمّة الإسلام فإنّ القائد للجيش الإسلامي لا يحقّ له أن ينقض هذا العهد، فذمّة هذا الجندي العادي هي ذمّة المسلمين وكأنّ المسلمين هم الذين عقدوا هذا العهد مع جنود الأعداء فلا يحقّ لأحد نقضه، وهذا من تعاليم الإسلام الكلية (80) .

قاعدة نفي الغرر:

قال رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله : «المغرور يرجع على من غره» (81) فمن رأى أنّه وقع في معاملة موقع الغش من الطرف المقابل فله أن يرجع إلى الشخص الذي غره، أو إذا كانت المعاملة فيها غرر وغش (82) فإنّ مثل هذه المعاملة والبيع الغرري باطلة.

قاعدة الجب:

وهي «الإسلام يجب ما قبله» (83) فإذا لم يكن الشخص في صدر الإسلام أو الآن مسلماً، ولكنه إذا أسلم فإنّ إسلامه هذا يوءدي إلى العفو والصفح عن الأعمال التي ارتكبها قبل إسلامه ولا تترتب عليه الأحكام والعقوبات الإسلامية المقررة لهذه الأعمال ويستخرج منها فروع كثيرة في أبواب السياسات والمعاملات وغيرها.

قاعدة لا تعاد:

قال أبو جعفر الباقر عليه ‏السلام : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس : الطهور، الوقت، والقبلة، والركوع، والسجود» (84) وهذه من جملة القواعد الكلية التي تقرر أنّ الصلاة لا تعاد بسبب وجود نقص وخلل فيها إلاّ إذا كان النقص في أحد هذه الاُمور الخمسة : أن يصلّي بدون طهور، أو يصلي في خارج الوقت، أو مستدبراً القبلة، أو بدون ركوع وسجود، فمثل هذه الصلاة يجب إعادتها، ولكن في غير هذه الموارد الخمسة وفي حالة حدوث النقص غير العمدي أو الزيادة غير العمدية فلا يجب عليه إعادتها.

قاعدة التجاوز والفراغ:

وذلك في قوله عليه‏ السلام : «كلّ شيء شك فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمضي عليه» (85) مثلاً لو شككت في الصلاة هل أنّك قرأت فاتحة الكتاب أم لا ؟ في حين أنّك تجاوزت مرحلة القيام ودخلت في الركوع، فكلّ شك يكون لديك في الجزء السابق فعليك بامضاء ذلك المشكوك وأنّك قد أتيت به.

وقول الصادق عليه‏ السلام : «في الميتة لا تصلِّ في شيء منه ولا في سبع» (86) وهذه من القواعد الكلية التي تبين عدم جواز الصلاة في أجزاء الميتة وكذلك في أجزاء السبع والحيوان غير مأكول اللحم.

وقوله عليه‏ السلام : «لابأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة، إنّ الصوف ليس فيه روح» (87) .

وقوله عليه ‏السلام : «كلّ شيء يضر بطريق المسلم، فصاحبه ضامن بما يصيبه» (88) .

وقوله عليه‏ السلام : «أيّما رجل أفزع رجلاً من الجدار أو نفرت به دابة فخر فمات فهو ضامن لديته وإن انكسر فهو ضامن لدية ما ينكسر منه» (89) .

وهذا يعني إذا كان رجل إلى جانبه جدار أو حائل وكان يصيح إلى شخص آخر وبذلك نفرت دابته أو فزعت وانطلقت هاربة وسقط راكبها ومات، فهذا الشخص الذي افزع تلك الدابة أو افزع ذلك الشخص بصراخه فمات، فهو ضامن لديته، أو إذا سقط الراكب فانكسرت عظامه بسبب هذه الحركة الفجائية فهو ضامن لأعضاءه المكسورة.

قاعدة دية أعضاء الإنسان :

وقوله عليه‏ السلام : «كلّ ما كان في الإنسان اثنان ففيهما الدية وفي أحداهما نصف الدية وما كان فيه واحد ففيه الدية» (90) .

بمعنى أن كلّ ما كان من أعضاء الإنسان زوجاً ففيهما دية إنسان كامل، مثلاً من أعضاء الإنسان الزوج : عينان، ويدان، ورجلان، واُذنان، وبيضتان، فهذه الأعضاء في بدن الإنسان على شكل زوج فلو اتلف شخص كلا هذين العضوين فعليه دية كاملة، وإذا اتلف أحداهما فقط فعليه نصف دية إنسان كامل، وما كان في الإنسان فرداً ففيه الدية كاملة، مثلاً العقل يعتبر شيئاً واحداً، فلو قام شخص باتلاف عقل شخص آخر فعليه الدية كاملة، أو لو قطع عضوه التناسلي فعليه دية كاملة، ومراد الإسلام من هذا الكلام بيان قانون كلي في مسألة الديات وأنّ أعضاء الإنسان الزوجية والأعضاء الفردية في الإنسان إذا اتلفها شخص فعليه دية كاملة، مثلاً الأنف يعتبر عضواً واحداً فلو اتلفه شخص فعليه الدية كاملة.

إذن فهذه قواعد كلية وردت في سياق روايات المعصومين عليهم ‏السلام وبالإمكان تطبيقها على الموارد الجزئية وبذلك تتيح هذه القواعد فهماً للحكم الشرعي يفتح الطريق أمام المسلمين لحلّ الكثير من المشاكل والتعقيدات في واقع الحياة استناداً إلى هذه القواعد الكلية، فلو أنّ المجتهد استند إلى هذه القواعد في بيان الحكم الشرعي فكلامه حجّة وصحيح. ومضافاً إلى أنّ الإمام المعصوم عليه ‏السلام أمر أصحابه أن يبينوا للناس الأحكام الإلهيّة والافتاء فيهم، نرى أنّ الإمام أميرالموءمنين عليه‏ السلام قال للقثم ابن عبّاس : «واجلس لهم العصرين فافتي المستفتي وعلّم الجاهل وذاكر العالم» (91) وهكذا تحرك الفقهاء في بيان الأحكام الإلهيّة للناس وتذكيرهم لها «فَذَكِر إنّ الذِّكرى تَنفَعُ المُوءمِنينَ».

تعليم الجاهل وتذكير العالِم:

ليس العلم لوحده يمثل مفتاحاً لحلّ مشاكل الإنسان، فالإنسان ربّما يعلم الكثير من المسائل ولكن علمه هذا لا يوءثر في حلّ مشاكله، ولذلك نرى أنّ رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله يقول لـ عبداللّه‏ بن مسعود : اقرأ آيات القرآن. وعندما كان عبداللّه‏ بن مسعود يقرأ القرآن ويصل إلى بعض الآيات يجد رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله يبكي، وعلى ضوء ذلك فإنّ التذكر يفيد الإنسان كثيراً، وحتّى لو كان الإنسان عالماً بالمسألة فإنّه يحتاج إلى التذكر، وقد قرأنا آنفاً في الرسالة التي وجهها أميرالموءمنين عليه‏ السلام لابن عباس أنّه قال له : «واجلس لهم العصرين فافتي المستفتي وعلّم الجاهل وذاكر العالم».

وقال الإمام الصادق عليه‏ السلام لأبان ابن تغلب : «اجلس في مسجد المدينة وافتي الناس فإني أحبُّ أن يرى في شيعتي مثلك يفتيهم» (92) وهذا يعني أنّ مسألة الافتاء والاستفتاء كانت شائعة ومتواترة في عصر المعصوم أيضاً.

وعن علي بن اسباط قال : قلت للرضا: يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال عليه‏ السلام: «ءاتِ فقيه البلد فاستفتيه من أمرك فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإنّ الحق فيه» (93) .

وهكذا نرى أنّ الإمام الرضا عليه‏ السلام يأمر علي بن اسباط بأن يتوجه إلى فقيه البلدة ولو كان من أهل العامة ويستفتيه في أمره ويسأله عن مسألته، ولكن إذا افتاه بشيء يجب عليه الأخذ بخلافه فإنّ الحقّ في مخالفتهم.

تتمة ونتيجة:

مضافاً إلى الأدلة المتعددة التي ذكرناها في جواب الاخباريين والتي تقرر مشروعية الاجتهاد، فهناك شواهد وجهات اُخرى لاثبات مشروعية الاجتهاد، منها :

أولاً: أنّ الأئمّة كانوا يعلمون بأنّ عصر الغيبة الكبرى سيستغرق مدّة طويلة وأنّ شيعة أهل البيت سيكونون محرومين من حضور الإمام، كما ورد في كلمات الأئمّة عليهم‏ السلام أنّهم كانوا يتوقعون صعوبات جمّة وأزمات كثيرة ومحن متوالية في عصر غيبة الإمام المعصوم، إذن فالإمام المعصوم كان يملك علماً حضورياً وواقعياً بتحقق عصر الغيبة وعدم توصل الناس للمعصوم.

ثانيا: إنّ المعصوم يعلم بأنّ الناس بمقتضى فطرتهم في ذلك العصر الظلماني الطويل للغيبة سيرجع الجاهل فيهم إلى العالم بحكم عقلهم وأنّ اتباع أهل البيت عليهم‏ السلام يرجعون إلى الفقهاء لفهم أحكام دينهم.

ثالثا: إنّ الأئمّة عليهم‏ السلام كانوا يعلمون بأنّ فقهاء الشيعة وعلمائهم في هذا العصر الظلماني في الغيبة يرجعون إلى أحاديثهم ورواياتهم لبيان الحكم الشرعي للناس ويعتمدون على كتبهم الروائية التي بين أيديهم، وكذلك يعلمون أنّ علماء الشيعة كانوا حتّى في عصر حضورهم وحياتهم يعتمدون على الكتب الروائية المدوّنة، ولذلك كان الأئمّة يأمرون أصحابهم دائماً بكتابة الأحاديث، فكان أصحابهم يسمعون الأحكام الشرعية من الأئمّة ويدوّنونها ويحفظونها وكان الأئمّة عليهم‏ السلام يقولون : «سيأتي زمان لا يأنس العلماء إلاّ بكتبهم» (94) أي هذه الكتب التي كتبوا فيها الأحاديث والروايات ودوّنوها، فكان الأئمّة يرغّبون علماء الشيعة بتدوين الأحاديث وروايات المعصومين عليهم‏ السلام ويقولون لهم أنّه سيثيبهم اللّه‏ تعالى يوم القيامة على كلّ حرف نوراً ومقاماً كريماً (95) .

وعلى هذا الأساس فإنّ إرتباط العلماء بكتبهم ومصنفاتهم الروائية موءيد من جانب المعصوم، وقد أمر الأئمّة أصحابهم وفقهاء الشيعة بتفريع الأحكام وبيان جزئيات الأحكام الشرعية من خلال تطبيق تلك القواعد والاُصول الكلية التي بيّنها المعصوم أو بيّنها القرآن الكريم، مثلاً : إنّ الحكم الذي يبينه علماء الإسلام في رفع الحكم الضرري مستند في شريعة الإسلام إلى قاعدة «لا ضرر» التي وردت على لسان النبي الكريم صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، وإذا كان هناك حرج في حكم من الأحكام الشرعية كالوضوء في الهواء البارد أو الحرج على المكلّف من الوضوء بسبب المرض فإنّ مثل هذا الوضوء يعتبر حرجياً وغير واجب، ومستند فتوى العلماء والفقهاء هو ما ورد في القرآن الكريم : «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...» (96) .

وهكذا بالنسبة للعقد الذي يجب الوفاء به مشروط بأن يكون العاقد بالغاً، ومكلفاً، عاقلاً، مالكاً حتّى يجب الوفاء بذلك العقد، ومستند الفقهاء في ذلك قاعدة «اوفوا بالعقود» التي ذكرت في كتاب اللّه‏، وهكذا في الموارد الاُخرى سواءً في مورد القضاء أم في مورد الفتوى فإنّ الفقها عندما يتحركون لبيان الأحكام الشرعية فإنّهم يعتمدون على تلك القواعد الكلية الواردة في لسان القرآن والسنّة بوصفها منبع الأحكام الشرعية الجزئية.

وهكذا في مورد علاج الروايات المتعارضة فإن ترجيح أحد الروايتين أو الحكم بالتخيير يستند لبيان المعصوم حيث ورد الترجيح بالافقه والأعدل والاوثق و...، وإلاّ فإن فقدت المرجحات تصل النوبة إلى التخيير.

وهكذا بالنسبة للشخص الذي يعيش في بلد أو في الصحراء وحدث له أمر ومسألة لا يعرف حكمها الشرعي، فهنا يقول الإمام : عندما تكون في بلد من البلدان ولا تجد في ذلك البلد من يوافقك على مذهبك، أي لا تجد عالماً موالياً لأهل البيت في ذلك البلد، فارجع إلى فقيه ذلك البلد فكلّ حكم يذكره لك ذلك الفقيه فأعمل على خلافه فإنّ الرشد والهدى في العمل بخلاف الفقيه العامي، والمراد مما تقدّم أن جميع هذه الطرق والدلائل وبيان القواعد الكلية في لسان الروايات إنّما هو لأجل بيان الأحكام بطريقة الاجتهاد وأنّ استنباط الأحكام من هذه القواعد الكلية صحيح ومشروع.

ولولا هذا الطريق لمشروعية بيان الأحكام ولو لم يكن الاجتهاد موقع رضى المعصوم فإنّ الإمام يجب أن ينهى العلماء والفقهاء عن ذلك ويرشدهم إلى طريق آخر غير طريق الاجتهاد واستنباط الأحكام ويقول لهم بأنّه لا ينبغي عليكم بيان الأحكام وفهم الأحكام من طريق الاجتهاد، والحال أنّه لم يرد مثل هذا النهي والردع عن المعصوم عليه‏ السلام ولم ينه الإمام الفقهاء عن الاجتهاد واستنباط الأحكام من الكتاب والسنّة، وليس فقط لم يردع عن ذلك بل أمر بالفتوى به وكان فقهاء الشيعة وعلمائهم يتحركون على أساس هذه المنهجية الاجتهادية في عصر المعصوم نفسه وكانوا يبيّنون الأحكام للناس بواسطة فهمهم الاجتهادي للروايات والنصوص.

وعلى أيّة حال يكفي في إثبات المطلوب وأنّ الإمام مضافاً إلى أنّه لم يردع عن الاجتهاد فقد كان يحثّ العلماء على الافتاء، ما ورد في الرواية المعروفة عن الإمام الصادق عليه ‏السلام يقول لأبان بن تغلب : «اجلس في المدينة وافتي الناس فإني أحبّ أن يكون في شيعتي مثلك يفتيهم» (97) .

وهكذا ما ورد في رواية اُخرى والتي تقرر الثواب العظيم والأجر الاُخروي الكبير للعلماء الذين يتحركون في حياتهم لبيان الأحكام الإلهيّة وقد عبّر عنهم الإمام بأنّهم «الكافلون لأيتام آل محمّد والراشدون لشيعتنا إلى الطريق المستقيم والمرابطون في الثغور والحافظون لهم من الضلالة والزيغ». وبا إنّ رئيس المحدّثين الشيخ الصدوق رحمه‏ الله كان من جملة العلماء الذين وقعوا مورد تأييد المعصوم، وطبقاً لما ذكره بعض الموءرخين أنّ الصدوق ولد بدعاء الإمام صاحب الزمان عليه‏ السلام ، ومن جملة هوءلاء العلماء الشيخ المفيد رحمه ‏الله الذي أنشد الإمام صاحب الزمان عليه‏ السلام أبياتاً في حقّه عند وفاته وكتبت على قبره المبارك وهي :

لا صوت الناعي بفقدك إنّه      يوم على آل الرسول عظيم

إذن فمثل هذه العبارات والكلمات من إمام العصر في تأييده لعلماء الشيعة كالشيخ المفيد والشيخ الصدوق والسيّد المرتضى والسيّد الرضي والشيخ الطوسي رحمهم‏ الله وأمثالهم، يتبين من ذلك أن حكمهم وفتاواهم كانت مورد رضا المعصوم وأنّ الأحكام التي يبينونها هي أحكام إلهية.

إنّ الأئمّة المعصومين عليهم ‏السلام كانوا في عصر حضورهم والبالغ مدّة ثلاثمائة سنة (أي 70 سنة زمان الغيبة الصغرى و 230 سنة عصر حضور المعصومين) كانوا هم المبينين للأحكام الإلهيّة، وبعد ثلاثمائة سنة وفي عصر الغيبة الكبرى كانت مسوءولية بيان الأحكام على عهدة علماء الإسلام حيث يستخرجون الأحكام والقواعد الدينية من منابعها الكلية من ظاهر الكتاب والسنّة ويقدمونها للناس وبذلك يحفظون الإسلام وأحكام الشريعة الإسلاميّة بالرغم من وجود العوائق والموانع التي كانت الحكومات الظالمة وقوى الكفر والانحراف والجور تضعها أمام حركتهم الإلهيّة ولمنع تقدّم الإسلام والمسلمين، إلاّ أنّ علماء الإسلام والفقهاء تصدوا لكلّ هذه الموانع وواجهوا قوى الكفر والانحراف وحفظوا دين اللّه‏ للبشرية : «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّه‏ِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّه‏ُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» (98) .

الكافلون لأيتام آل محمّد صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله :

كان البحث في مسألة النظر والاجتهاد الموجود والمصطلح في الحوزات العلمية وأنّ الفقيه يحكم بالاستناد إلى ظاهر الكتاب والسنّة ويستنبط الحكم الإلهي وأنّ هذه الطريقة صحيحة ومشروعة وتعتبر حجّة شرعية، وقد ورد في بعض الروايات التعبير عن علماء الدين بالكافلين لأيتام آل محمّد صلى‏ الله ‏عليه ‏و‏آله ، وهنا نستعرض بعض هذه الروايات التي تقرر في مضمونها الاحترام الكبير والتجليل للعلماء والفقهاء لبيانهم الأحكام الشرعية وهداية الناس إلى الصراط المستقيم وأنّ العالِم إذا انقذ مسلماً من الجهل والضلالة فإنّ اللّه‏ تعالى سيثيبه في يوم القيامة بما لا يعلم مقدار ثوابه إلاّ اللّه‏ تعالى.

فعن أبي محمّد العسكري عليه ‏السلام : «ألا فمَن هداه وأرشده وعلّمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى».

وعن الصدّيقة الطاهرة فاطمة عليهاالسلام أنّها قالت: «سمعت أبي يقول: إنّ علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرت علومهم وجدّهم في إرشاد عباد اللّه‏ أيضا حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور ثمّ ينادي عزّوجلّ: أيّها الكافلون لأيتام آل محمّد الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمّتهم هؤلاء تلامذكم والأيتام الذين كفلتهم ونعشتهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ممّا أخذوا عنهم من العلوم حتى أنّ فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثمّ إنّ اللّه‏ تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين لأيتام آل محمّد حتى تتمّ خلعهم وتضاعفوها ويضاعف لهم وكذلك على مَن خلع وعليهم وعلى من يليهم».

وكانت المخاطبة بهذه الكلمات الزهراء فاطمة عليهاالسلام حيث قال لها: «يا أمة اللّه‏، إنّ سلكه من تلك الخلع أفضل ممّا طلعت عليه الشمس، ثم قال: ألف ألف مرّة» (99) .
ومثل هذا الحديث ما ورد أنّ رسول اللّه‏ صلى ‏الله ‏عليه‏ و‏آله عندما أرسل الإمام علي عليه‏ السلام إلى اليمن للقضاء قال له : «لأنّ يهدي اللّه‏ بك رجلاً خير ممّا طلعت عليه الشمس».

فضيلة العالم ومقامه يوم القيامة:

يقول اللّه‏ عزّوجلّ: «يَرْفَعْ اللّه‏ُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللّه‏ُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (100) .

قال علي بن أبي طالب عليه‏ السلام : «من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا، فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهله جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور، يضيى‏ء جميع العرصات، ثم ينادي منادٍ: يا عباد اللّه‏! هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمّد ألا فمَن أخرجه في الدنيا من حيره جهله، فاليتشبث بنوره، ليخرجه من حيرة ظلمة العرصات إلى نزهة الجنان، فيخرج كل من كان علّمه في الدنيا خيرا أو فتح من قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له عن شبهة بحذافيرها أي بأجمعها» (101) .

قال الإمام الحسن بن علي عليه‏ السلام : «فضل كافل اليتيم من آل محمّد المنقطع عن مواليه، فضله كفضل الشمس على الصحى» (102) .

وكوكب الصحى هو بنات النعش، وبنات النعش كوكب خفات لا ظهور له كثيرا.

قال الإمام الحسين عليه ‏السلام : «من كفل لنا يتيما، قطعته عنّا محبتنا باستتارنا، ينادي المنادي من عنداللّه‏ تعالى: اجعل له ياملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علّمه ألف ألف قصر».
وهذا هو الثواب العظيم الذي يعطيه اللّه‏ تعالى للعلماء والفقهاء الذين يعملون على هداية أيتام آل محمّد صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله ورعيتهم وبيان الأحكام الشرعية لهم.

قال علي بن الحسين عليهماالسلام : «فأبشروا علماء شيعتنا بالثواب الأعظم والجزاء الأوفر لا يعلم إلاّ اللّه‏ العليم الحكيم».

قال الإمام محمّد الباقر عليه‏ السلام : «العالم كمَن معه شمعة تضيى‏ء للناس، فكل مَن أضاءت له، فخرج لها من حيرة أو نجاها من جهل فهو من عتقائه من النار، واللّه‏ يعوضه عن ذلك بكل شعرة لمَن أعتقه».

والمقصود ممّا تقدّم من الروايات الشريفة أنّ العالم والفقيه الشيعي يملك عند اللّه‏ مثل هذا المقام وأنّه كافل أيتام آل محمّد صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله كما صرّحت بذلك الروايات، ومن هنا فكلّ شخص يعمل على هداية أيتام الشيعة ويخرجهم من أجواء الجهل والضلالة إلى أجواء العلم والهداية فإنّ اللّه‏ تعالى سيكتب له مثل هذا المقام، وهنا كيف يمكن القول أنّ كلام هذا العالم في بيان الأحكام الإلهيّة غير حجّة ؟ هل يمكن أن يكون للعالم مثل هذا المقام ومع ذلك فإنّ كلامه مخالف للحكم الإلهي والشرع ؟

وقال رسول اللّه‏ صلى الله ‏عليه‏ و‏آله : «علماء اُمتي كأنبياء بني إسرائيل»، وهناك رواية عن النبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله أيضاً بهذه العبارة : «علماء اُمّتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل» والمراد من هوءلاء العلماء هم الأئمّة المعصومين عليهم ‏السلام لا أن يكون المقصود العلماء غير المعصومين، لأنّه عندما يكون الأنبياء معصومين فلا يمكن أن يكون غير المعصوم أفضل من المعصوم.

إذن فإذا عمل علماء الإسلام بوظيفتهم الشرعية وعملوا على هداية الناس إلى الصراط المستقيم وكفلوا أيتام آل محمّد المنقطعين عن إمام زمانهم، ففي يوم القيامة يكون ذلك العالم شفيعاً للناس وكذلك الأشخاص الذين تتلمذوا على يديه واستقوا منه المعارف والأحكام الإلهيّة فهم أيضاً سينالون مقام الشفاعة.

المربي والحافظ للدين:

عن الإمام أميرالمؤمنين علي عليه‏ السلام أنّه قال: «العلماء حكّام على الناس» (103) .

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‏ السلام : «علماء شيعتنا مرابطون بالثغور الذي يلي ابليس وعفاريته، يمنعونهم من الخروج على ضعفاء شيعتنا ألا فمَن أتعب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممّن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرّة» (104) .

وقد ورد أيضاً في الروايات الشريفة: «مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء» (105) .

والحقيقة أنّ العالم المبين للأحكام الإلهيّة للناس، كما تصرح به هذه الرواية أفضل عند اللّه‏ ألف ألف مرّة من المجاهد، فإنّ مداد قلم العالم يوءدي دورين : فهو من جهة يحفظ الدين الإسلامي، ومن جهة اُخرى يعمل على تربية المجاهدين والشهداء، بمعنى أنّ الشهيد الذي وصل إلى تلك المرتبة السامية من جراء جهاده واعتقاده وتضحيته إنّما هو بواسطة تربية عالم الدين لأنّه مبين للأحكام الإلهيّة وأنّ الجهاد في سبيل اللّه‏ له ذلك المقدار من الثواب والمقام عند اللّه‏، وبهذا البيان والكلام يتحرك المجاهد في طريق الجهاد في سبيل اللّه‏، إذن فالعالم يؤدّي بقلمه وبيانه عملين ومهمتين : فهو يحفظ الدين وكذلك يربي الشهداء والمجاهدين، ومعلوم أنّ من يوءدّي عملين عظيمين بقلمه ويجمع بين حفظ الدين وتربية المجاهدين أفضل عند اللّه‏ من المجاهد الذي يقوم بعمل واحد وهو الدفاع عن الدين.

ثمّ إنّ الإمام عليه‏ السلام ذكر العلّة لكون العالم المبيّن للأحكام أفضل ألف ألف مرتبة من المجاهد في سبيل اللّه‏ وقال : (لأنّه يدافع عن أديان محبينا، وذلك «المجاهد» يدافع عن أبدانهم) فهذا العالم يدافع عن دين شيعتنا ومحبينا، وأمّا المجاهد فإنّه يدافع عن أبدانهم ودنياهم في مقابل الأعداء من الروم والترك والخزر.

إنّ حقيقة الإنسان ترتبط بروحه، وعندما تريد الروح أن تتحرك في هذه الدنيا فإنچها تستخدم الوسيلة للتحرك وهي الأقدام، أو عندما تريد أن تتحدث مثلاً تستخدم الآداة لذلك وهو اللسان، وعندما تريد أن تكتب، فالوسيلة لذلك اليد، ومعلوم أنّ الأدوات ليست لها قيمة صاحب الأدوات، فأدوات البدن المادية نسبتها إلى الروح كذلك مثل نسبة القلم إلى الكاتب، فعندما يقول الإمام : مقام العالم أفضل ألف ألف مرّة من مقام المجاهد، فلأنّ العالم حافظ دين المجتمع والناس، وأمّا المجاهد في سبيل اللّه‏ فيحفظ أبدان الناس.

قال الإمام موسى ابن جعفر عليه‏ السلام : «فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا من المنقطعين عنّا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه، أشدّ على ابليس من ألف عابد» (106) .

قال الإمام محمّد بن علي الجواد عليه‏ السلام : «من تكفّل بأيتام آل محمّد صلى‏الله‏عليه‏و‏آله المنقطين عن إمامهم، المتحيرين في جهلهم، الاسارى في أيد شياطينهم وفي أيد النواصب من أعدائنا، فاستنقذه منهم وأخرجهم من حيرتهم ليفضلون عند اللّه‏ تعالى على العباد بأكثر من فضل السماء على الأرض» (107) .

قال الإمام علي بن محمّد الهادي عليه السلام : «لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا من العلماء الداعين إليه والدالّين على علمه والذابين عن دينه بحجج اللّه‏ والمنقذين لضعفاء عباد اللّه‏ من شباك ابليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلاّ ارتد عن دين اللّه‏، ولكنّهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يتمسك صاحب السفينة سكانها، هم الأفضلون عند اللّه‏ عزّوجل» (108) .

فعن أبي محمّد العسكري عليه ‏السلام عن أبيه عن آبائه عليهم‏السلام عن رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله قال: «أشدّ من اليتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يُتم يتيم انقطع عن إمامه... إلاّ فم هداه وأرشده، وعلّمه شريعتنا مان معنا في الرفيق الأعلى» (109)

والحاصل ممّا ذكرنا من سيرة المتشرعة والسيرة العقلائية التي لم يرد النهي والردع عنها، والنصوص الشرعية، كلّها تدلّ على مشروعية الاجتهاد المصطلح الموجود، ويتبين من ذلك أنّ المسلك الصحيح هو مسلك المجتهدين وأن ما قالوه وعملوا به هو الحقّ المبين.

«هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَإِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاْءَلْبَابِ» (110)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 . سورة النمل، الآية 6.
2 . سورة الأحزاب، الآية 33.
3. سورة الأنعام، الآية 124.
4 . وسائل الشيعة، ج18 ص 40 ـ 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ح 52.

5 . وسائل الشيعة، ج18 ص 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ح 51.
6. بحار الأنوار، ج2، ص 225.
7. سورة الحجرات، الآية 9.
8. اصول الكافي، ج1، ص16 كتاب العقل والجهل، ح11.
9. المصدر السابق، ح 3.

10. سورة محمّد،الآية 24.
11 . سورة الرعد، الآية 4.
12. سورة الغاشية، الآيات 17 إلى 20.
13 . سورة الرعد، الآية 3.
14. رسوة آل عمران، الآية 190.
15. الكافي، ج1، ص 25 كتاب العقل والجهل، ح 24.
16 . الكافي، ج1، ص 11 كتاب العقل والجهل، ح3.
17. المصدر السابق، ص16، ح 12
18. سورة الأنفعال، الآية 22.

19. سورة الأنفال، الآية 55.
20 . وسائل الشيعة، ج18، باب 9 من أبواب صفات القاضي. ح9.
21. سورة النحل، الآية 43.
22 . اصول الكافي، ج1، ص 210، باب أهل الذكر، ح2.

23. اُصول الكافي، ج1، ص 211، باب أهل الذكر، ح 7.
24 . اصول الاستنباط، ص 32.
25 . الاسكافي المتوفي 281 هـ ق، مقدمة تنقيح شرح عروة الوثقى، ج 1، ص فا ض.
26. سورة آل عمران، الآية 61.

27. فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ج 1، ص 292؛ مسند حنبل، ج1، ص 174.
28 . المصدر السابق، ج2، ص 250.
29. المصدر السابق، ص 248؛ صحيح الترمذي، ج2، ص 299.
30 . فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ج 2، ص 231 نقلاً عن تفسير الكبير، فخر
الرازي.
31 . المصدر السابق، ج 2، ص 274.

32. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج1.33. فضائل الخمسة، ج2، ص 233 نقلاً عن تاريخ البغدادي، ج6، ص 379.
34 . فضائل الخمسة، ج2، ص 238.
35 . سورة المائدة، الآية 50.
36 . بحار الأنوار، ج43، ص 278.
37 . انظر: بحار الأنوار، ج 33، ص 256؛ ربيع الأبرار للزمخشري، ج2، ص 186؛ الكامل لابن الأثير، ج 5، ص 42؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 4، ص 58.

38. إرشاد الشيخ المفيد رحمه‏الله ، ص 206.
39 . عيون أخبار الرضا، ج2، ص 135.
40 . إكمال الدين، للشيخ الصدوق رحمه‏ الله ، ص 13 نقلاً عن ينابيع المود، ص 524.
41 . إكمال الدين وإتمام النعمة، ص 12.
42 . وسائل الشيعة، ج18 ص 40 ـ 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ح 52.

43. مقدمة الاجتهاد والتقليد، غلام رضا العرفاني.
44. راجع كتاب مرجعيت وروحانيت للشهيد المطهري، بالفارسية.
45 . بحار الأنوار، ج2، ص 225.

46 . سورة النساء، الآية 43.
47. وسائل الشيعة، ج18، ص72، ح 8 أبواب صفات القاضي.
48. راجع كتاب الشريف إكمال الدين وإتمام النعمة.
49. بحار الأنوار، ج3، ص 174،؛ الاحتجاج للشيخ الطبرسي، ج2، ص 324.
50 . راجع، بحار الأنوار، ج73، ص 174.

51- سورة التوبة، الآية 122.
52 . تفسير البرهان، ج1، ص 560، الطبعة الجديدة نقلاً عن أمالي الشيخ المفيدرحمه‏ الله .
53 . وسائل الشيعة، ج 18، الباب 4 من أبواب صفات القاضي.

54- سورة التوبة، الآية 122.
55 . سورة يونس، الآية 36.
56 . وسائل الشيعة، ج 18، ص 41، باب 6 من أبواب صفات القاضي، ح 52.
57. مستدرك وسائل الشيعة، كتاب الغضب، باب 1.
58 . راجع وسائل الشيعة، ج 18، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
59 . وسائل الشيعة، ج 18، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، ح 1..
60 . المصدر السابق، ص 169.
61 . فهرست النجاشي، ص 7.

62. وسائل الشيعة، ج18، ص 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1.
63 . وسائل الشيعة، ج18، ص 106، باب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 8 و 15 و 19 و 27.
64 . وسائل الشيعة، ج18 ص 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ح 51.
65 . المصدر السابق. ص 40 ـ 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، ح 51 و 52.

66. سورة الحج، الآية 78.
67 . سورة المائدة، الآية 6.
68 . القواعد الفقهية، للعلاّمة البجنوردي، ج 1، ص 371.

69 . أصول الكافي، ج5، ص 294، ح8.
70 . مستدرك وسائل الشيعة، كتاب الغصب، باب 1.
71 . انظر وسائل الشيعة، ج16 كتاب الأطعمة والأشربة.
72 . المصدر السابق.

73 . مستدرك الوسائل، ج1، ص 164، من أبواب النجاسات الباب 29، ح1.
74 . وسائل الشيعة، ج 1، ص 175، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، ح1.

75 . سورة المائدة، الآية 2.
76. سورة البقرة، الآية 275.
77 . سورة المائدة، الآية 3.

78 . وسائل الشيعة، ج18، ص 189، الباب 2 من أبواب صفات القاضي.
79 . المصدر السابق.
80 . المصدر السابق، ج18 أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
81 . وسائل الشيعة، ج20، الباب 31 من أبواب القصاص.

82 . انظر: وسائل الشيعة، ج20، ص 55، الباب 31 من أبواب القصاص، ح 10.
83 . القواعد الفقهية، ص 226.
84 . القواعد الفقهية، البجنوردي، ج1، ص 176 و 226.
85 . المصدر السابق، ج1، ص 371.
86 . وسائل الشيعة، ج3، باب 9 من أبواب القبلة، ح 1.
87 . القواعد الفقهية، ج1، ص 275.
88 . وسائل الشيعة، ج3، ص 249 أبواب لباس المصلي.
89. المصدر السابق، ص 333.
90 . المصدر السابق، ج 19، ص 181، ح10.
91. المصدر السابق، ص 188، الباب 15 من أبواب الضمان.

92 . وسائل الشيعة، ج19، ص 217، الباب 1 من أبواب ديات الأعضاء، ح12.
93 . نهج البلاغة، الرسالة 67؛ مستدرك الوسائل أبواب صفات القاضي الباب 11،ح 15.
94 . وسائل الشيعة، ج18، ص 82، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ج23.

95 . وسائل الشيعة، ج18، ص72، الباب 11 أبواب صفات القاضي. ح 8 .
96 . المصدر السابق، ص 172، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، ح80.
97 . سورة الحج، الآية 78.

98 . فهرست النجاشي، ص 7.
99 . سورة التوبة، الآية 32.
100 . بحار الانوار، ج2، ص 3، كتاب العلم، ح3.

101 . سورة المجادلة،الآية 11.
102 . بحار الأنوار، ج2، ص 2، ح 2.
103 . المصدر السابق، ج2، ص2، ح2.

104. مستدرك الوسائل.
105 . بحار الأنوار، ج2، ص 5.
106 . مستدرك الوسائل، ج17، ص 321.
107 . بحار الأنوار، ج2، ص 5.

108 . المصدر السابق، ص6.
109. انظر: بحار الأنوار، ج 2، ص 6.
110 . بحار الأنوار، ج2، ص 2.
4 . سورة الزمر، الآية 9.