الفصل الخامس

تقسيم الاجتهاد إلى: مطلق ومتجزي، بالفعل وبالقوّة

وتقسيم المجتهد إلى: الانفتاحي والانسدادي

والأحكام المترتبة على المجتهد من حيث حجّية الافتاء والقضاء والولاية وجواز التقليد للعامي وما يتوقف عليه الاجتهاد


تقسيم الاجتهاد

موضوعنا في هذا البحث تقسيم الاجتهاد إلى: مطلق ومتجزي، وإلى اجتهاد بالقوّة وبالفعل، والبحث في الأحكام المترتبة عليها، وبلا شك أنّ الاجتهاد قابل للقسمة إلى ما هو بالقوّة وبالفعل، والمجتهد إلى مطلق ومتجزي، وكذلك يقسّم المجتهد إلى: انفتاحي وانسدادي، والمجتهد الانسدادي إمّا أن يقول بالانسداد على الكشف أو الحكومة، وتترتب أحكام مختلفة على كل واحد من هذه الأقسام:

القسم الأول: بالنسبة للمجتهد الواجد لملكة استنباط الحكم الشرعي ولكنّه ليس مجتهدا بالفعل، فما حكمه؟ هل يجوز تقليد المجتهد الذي يملك ملكة الاستنباط بالفعل ويكون اجتهاده مطلقا أو لا يجوز؟

في هذا المورد قولان: قول بالجواز وقول بعدم الجواز، وقبل توضيح هذا البحث نرى من اللازم ذكر مقدّمة، وهي أنّ ملكة استنباط الأحكام تختلف عن سائر ملكات الإنسان مثل ملكة السخاء، الشجاعة، الأخلاق، العدالة، فملكة السخاء ناشئة من العمل بمعنى أنّ الإنسان يتحرك على مستوى العمل في القيام بالسخاء وبذل المال بشكل متكرر وحينئذٍ يؤثر هذا العمل الخارجي في إيجاد ملكة السخاء في نفسه ويكون إنسان سخيا وجوادا، وهكذا الإنسان الشجاع حيث ينبغي عليه أن يقوم بأعمال شجاعة بشكل متكرر حتى تؤثر هذه الأعمال الخارجية في واقعه النفساني وتوجد فيه ملكة الشجاعة، وهكذا الإنسان الحسن الخلق فيجب عليه في مقام العمل التحرك في تعامله مع الناس بدوافع أخلاقية حتى تتحقق فيه ملكة الأخلاق، وعندما تتحقق في الإنسان ملكة السخاء والكرم بسبب العمل الخارجي حينئذٍ يكوم الشخص متحليّا بملكة السخاء ولا يختلف حاله خينئذٍ عند بذل الأموال الكثيرة أو القليلة لأن يملك في نفسه ملكة السخاء، وهذه الملكة لا يختلف حالها في أن يقوم الشخص بأعمال كثيرة أو قليلة، وهكذا بالنسبة إلى ملكة الشجاعة وملكة الأخلاق.

ولكن خلافا لملكة الاجتهاد حيث إنّ العمل الخارجي لا يعتبر شرطا لتحصيل ملكة الاجتهاد والاستنباط بحيث ينبغي على الإنسان أولاً استنباط الحكم في مقام العمل ثم تدريجيا تضحى ملكة في نفسه تسمى ملكة الاجتهاد، بل على العكس من ذلك، حيث يجب على الإنسان أولاً أن يحقق في نفسه ملكة الاستنباط والاجتهاد ثم يتحرك على مستوى العمل لاستنباط الحكم الشرعي، وبدون ملكة الاستنباط والاجتهاد لا يمكن للمجتهد استنباط الأحكام الشرعية، نعم، الممارسة وعمل الاستنباط دخيل ومؤثر في تكامل وترشيد ملكة الاستنباط وتقويتها لا أنّ هذا العمل الخارجي مؤثر في إيجاد ملكة الاستنباط للأحكام الشرعية.

ونستنتج من هذه المقدّمة أنّ ملكة الاستنباط للمجتهد لا تتلازم ولا تتوقف على الموقف العملي للاستنباط حتى يقال بأنّه ما لم هناك استنباط فعلاً على مستوى العمل فلا اجتهاد، وإنّما يكون الإنسان واجدا لملكة الاستنباط ولكنّه لا يعرف عملاً حكم الموارد والموضوعات الشرعية ولم يستنبط مثلاً حكم زكاة الإبل ولا يعرف ما حكم زكاة البقر والغنم، أو حكم خمس أرباح المكاسب، فهو لم‏يستنبط هذه الأحكام وهذه الفروع وارجاع هذه الفروع إلى أصولها وقواعدها الكلية.

والسؤال هو: هل يجوز لمثل هذا المجتهد الواجد لملكة الاستنباط ولكنّه في مقام الفعلية والعمل لم يستنبط حكما شرعيا، هل يجوز له أن يقلِّد مجتهدا بالفعل أو لا يجوز؟

الجواب: لقائل أن يقول إنّ التقليد لواجد ملكة استنباط الأحكام الشرعية جائز، وذلك لعدة أدلة:

الدليل الأول: الاستصحاب، فقبل أن يحصل على قوّة وملكة الاستنباط كان التقليد جائز له، والآن بعد أن حصل على ملكة الاستنباط الأحكام الشرعية نشك هل يجوز له التقليد أم لا؟ وهنا يجري استصحاب بقاء جواز التقليد مادام استنباطه للأحكام لم يصل إلى حدّ الفعلية، وإلاّ فإذا وصل في قوّة الاستنباط إلى مرحلة الفعل والعمل فلا يجوز له التقليد قطعا، لأنّه مجتهد بالفعل والمجتهد الذي يملك القدرة على استنباط الأحكام الشرعية فإنّ أدلة جواز التقليد وهي رجوع الجاهل إلى العالم، منصرفة عنه وقاصرة عن الدلالة على المجتهد الذي يقدر على استنباط الأحكام الشرعية بالفعل، والنتيجة أنّ من يملك ملكة الاجتهاد يجوز له التقليد استنادا إلى دليل الاستصحاب.

الجواب: إنّ من شرائط وجريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعا ومحمولاً فإذا لم يتحقق هذا الركن في الاستصحاب فإنّه لا يجري في المقام.

أركان الاستصحاب:

إذا كنّا على يقين بأنّ زيدا كان عادلاً بالأمس، فموضوع القضية المتيقنة هو زيد واليوم نشك هل ارتكب أحد الذنوب الكبيرة كالغيبة مثلاً وبذلك سقطت عدالته، أو أنّه لم يرتكب هذا الذنب، وأنّ ملكة العدالة الشرعية باقية لديه، فهنا تتحد القضية المشكوكة والمتيقنة ويجري استصحاب بقاء العدالة إلى اليوم، لأنّ موضوع القضية المتيقنة هو زيد بالأمس، وموضوع القضية المشكوكة زيد اليوم أيضا. وكذلك هذه القضية من حيث المحمول واحدة، فمحمول القضية المتيقنة العدالة ومحمول القضية المشكوكة بقاء عدالة زيد أيضا، إذن فمثل هذا المورد التي تتحد فيه القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعا ومحمولاً فإنّ أركان الاستصحاب تامة ولهذا يجري الاستصحاب وتكون هذه القضية من موارد «ولا تنقض اليقين بالشك».

ولكن إذا كان الموضوع متعددا مثلاً كان موضوع القضية المتيقنة زيدا، أمّا موضوع القضية المشكوكة فهو عمرو، ونشك في بقاء عادلة عمرو أو عدم بقائها فهنا لا يجري الاستصحاب حتى لو كانت القضية متحدة من حيث المحمول فإنّ المحمول في هذه القضية عدالة زيد، والمشكوك في هذه القضية عدالة عمرو فالمحمول هو العدالة، ولكن الموضوع متعدد فموضوع القضية المتيقنة زيد وموضوع القضية المشكوكة عمرو فلا يجري الاستصحاب، أو إذا كان الموضوع متحدا ولكن المحمول مختلف، فموضوع القضية المتيقنة وموضوع القضية المشكوكة زيد أيضا، ولكن محمول القضية المتيقنة عدالة زيد والمحمول في القضية المشكوكة عالمية زيد فهنا لا يجري الاستصحاب لأنّ محمول القضية المتيقنة والقضية
المشكوكة غير متحد، الغرض أنّ من شروط جريان الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعا ومحمولاً. والتغيير العارض في حالات الموضوع والمحمول موجب للشك في بقاء الموضوع أو المحمول.

وبعد هذه المقدّمة نقول: إنّ ما نحن فيه لا يوجد إتحاد في القضية المتيقنة والمشكوكة.

اختلاف الموضوع:

لم يكن زيد في السابق قادرا على استنباط الحكم الشرعي، وموضوع جواز التقليد العجز عن الاستنباط، ولكن عندما تتحقق فيه ملكة استنباط الأحكام الشرعية فالموضوع يتغير حينئذٍ ولا يكون هو الموضوع السابق، فعندما يكون زيد قادرا على الاستنباط فإنّه يختلف عن زيد السابق العاجز عن الاستنباط فهنا موضوع القضية المشكوكة المتيقنة متعدد ولذلك لا يجري الاستصحاب.

الدليل الثاني: على جواز تقليد الواجد لملكة الاستنباط هو «سيرة العلماء»، فالسيرة العملية للأصحاب والعلماء لم تكن بشكل أنّ الشخص بمجرّد أن يحصل على ملكة استنباط الأحكام الشرعية فيحرم عليه التقليد، وإلاّ يجب أن تكون جميع الأعمال حتى السفر على الشخص الواجد لملكة استنباط الحكم الشرعي لغير عملية الاستنباط حراما، وعليه فبمقتضى السيرة العملية للأصحاب يجوز التقليد للواجد لملكة الاجتهاد المطلق من المجتهد بالفعل.

الجواب: وهذا الدليل واضح البطلان لأنّه، أولاً:إنّ السيرة ليست دليلاً لفظيا حتى يمكن التمسك باطلاقها في مورد الشك، السيرة دليل لبّي، ونحن نشك في أصل انعقاد مثل هذه السيرة وهل توجد مثل هذه السيرة بأنّ الواجد لملكة الاستنباط يقلِّد غيره من المجتهدين بالفعل، أو لم تكن مثل هذه السيرة لدى الأصحاب والعلماء، ومع وجود الشك في السيرة لا يمكن التمسك بوجودها على جواز تقليد واجد الملكة للمجتهد بالفعل، بل يمكن القول إنّ سيرة العلماء والمحققين كانت على خلاف ذلك، من قبيل المقدّس الأردبيلي الذي كان يهتم في أمر التحقيق وتحصيل العلم إلى حدّ يرى في زيارة طالب العلم لكربلاء وسفره من النجف إلى كربلاء إشكال فيما إذا كانت هذه الزيارة مانعة من تحصيل العلم لهذا الطالب وذلك لا يجوز، وكان يبيح السفر بمقدار ما يرفع معه العسر والحرج، لأنّ العالم والمجتهد إذا كان مشغولاً دائما باستنباط الأحكام الشرعية فربّما يقع في مشقّة وحرج وبمقتضى قاعدة الأهم والمهم وأنّ الحرج منفي في الإسلام وأهمية قاعدة الحرج على غيرها من القواعد فإنّ ذلك المقدار الحرجي يدخل تحت هذه القاعدة وحينئذٍ يخرج هذا المورد عن الوجوب، وأمّا الباقي فعليهم الاشتغال بعملية الاستنباط بالفعل، إذن فسيرة العلماء والمحققين من أصحابنا لم تكن تتسامح في عملية الاستنباط ولم يكونوا يرون جواز ترك إهمال عمل الاستنباط لمن يملك هذه الملكة ويتحرك على مستوى تقليد غيره من المجتهدين بالفعل.

النتيجة: إذا كان الشخص واجدا لملكة الاستنباط فلا يجوز له تقليد غيره إلاّ بذلك المقدار الذي يكون استنباط الأحكام حرجي عليه، فهنا يجوز له ترك الاستنباط والتقليد،وحاصل الجواب، أنّه إذا كان بعض العلماء يرون جواز تقليد واجد الملكة فهو من باب تقديم الأهم على المهم ومن باب نفي العسر والحرج، لا من باب أنّ هذا الجواز موافق للقاعدة والأصل وأنّ تقليد واجد الملكة للمجتهد المطلق وبالفعل جائز دائما.

السيرية العقلائية:

الدليل الثالث: على جواز تقليد واجد ملكة الاستنباط لغيره، سيرة العقلاء، مثلاً إذا كان الشخص يتمتع بقدرة فنية ومهارة في أمر إصلاح وتعمير المكائن أو الأبنية أو كان ماهرا في فنون أخرى، ولكنّه يترك أحيانا تعمير ذلك الشيء إلى غيره ممّن يملك المهارة بالفعل، ومن هذا القبيل المجتهد الواجد للاستنباط فيجوز له الرجوع إلى الشخص المجتهد بالفعل لكشف الحكم الشرعي، وهذا حاله حال سائر الأمور التي قامت عليها سيرة العقلاء كما تقدّم.

الجواب: إنّ الحوادث والسلوكيات الدخيلة والمؤثرة في نظام معاش الإنسان ومعاده على نحوين: فتارة لا تكون تلك الحوادث والسلوكيات مهمّة، وأخرى تكون من المسائل المهمّة في حياة الفرد، فإذا كانت تلك المسائل من جملة الحوادث غير المهمّة مثل تعمير البناء والمصنع والسيارة و... فإنّ سيرة العقلاء في هذه الموارد تبيح للشخص القادر على هذا العمل أن يفوّض أمر التعمير والإصلاح لغيره ممن يملك المهارة في التصليح والاعمار بالفعل في هذه الأمور.

ولكن إذا كان المسألة من المسائل المهمّة مثل علاج المرض الشديد ففي مثل هذه المورد إذا احتمل أنّه لو أرجع المريض إلى طبيب آخر ليعالج هذا المرض بالفعل فإنّ الطبيب الآخر لا يتمكن من علاجه ففي مثل هذا المورد لا يجوز لمن كان مطمئنا بنفسه، قدرته على علاج المريض أن يترك العلاج ويرجع المريض إلى طبيب بالفعل مع وجود احتمال عدم معالجة المرض وأنّ هذا الشخص قادر بشكل أفضل على علاج هذا المرض، فهنا العقلاء لا يبيحون لهذا الشخص الواجد لملكة الطبابة أن يترك علاج هذا المريض ويرجعه إلى غيره والذي يحتمل أنّه لا يستطيع علاج المريض بشكل كامل.

وهكذا في مورد تقليد الشخص الواجد لملكة الاستنباط فحاله كذلك أيضا، لأنّ أهميّة المسائل الشرعية أكثر بكثير من المسائل الأخرى، ومع وجود احتمال الخطأ واحتمال الاشتباه في استنباط المجتهد بالفعل فإنّ السيرة العقلائية في الأمور ذات الأهمية لا تبيح رجوع هذا الشخص الواجد لملكة الاستنباط إلى غيره وتقليده.

مضافا إلى ذلك فإنّ العقل يحكم بعدم الرجوع لأنّه مع وجود احتمال الخلاف واحتمال عدم العلاج، فالعقل لا يجوّز الرجوع إلى غيره وتقليده واتباعه، وعلى الأقل في الموارد ذات الأهميّة فإنّ سيرة العقلاء مشكوكة وهل أنّها جارية في مورد الشخص الذي يملك القدرة على تعمير ذلك الشيء أو على علاج ذلك المريض أو على استنباط الحكم الشرعي ومع ذلك يرجع إلى غيره، وفي مورد الشك لا يمكن التمسك بالسيرة، لأنّ سيرة العقلاء دليل لبيٌّ، ولا يمكن التمسك به في مورد الشك. على أيّة حال نقول إنّ هذا المورد في تقليد الغير قد ثبت بسيرة العقلاء، إذن الشخص المالك للاستنباط والذي يملك القدرة على استنباط الحكم الشرعي من الأدلة كيف يجوز له تقليد الغير في تحصيل الأحكام الشرعية؟

إنّ قلت: لقد ذكرتم أنّ الرجوع إلى الغير في المسائل المهمّة لا يجوز وعلى الأقل مشكوك، وحينئذٍ لا يمكن التمسك بسيرة العقلاء بلحاظ وجود احتمال الخطأ والاشتباه في عمل الغير، ولكنّ في مورد استنباط واجد الملكة يحتمل الخطأ والاشتباه أيضا، مثلاً إذا أراد أن يعالج المريض بنفسه فيحتمل أيضا وقوعه بالخطأ والاشتباه، وإذا أراد استنباط الحكم الشرعي من أدلة الأحكام فيحتمل وقوعه في الخطأ والاشتباه أيضا،إذن فكلا الحالين متساويين.

الجواب: إنّ الإنسان نفسه ربّما يعلم بالأحكام الشرعية بالعلم الوجداني وعلم الشخص القادر على الاستنباط يختلف عن الشخص الذي يحصل على الحكم بواسطة التبعية والتقليد للغير، مثلاً هناك سلسلة من المسائل يعلم بها الإنسان بالعلم الوجداني وفي هذه المسائل لا وجه لتقليد الغير من قبيل الضروريات ومسلّمات الأحكام الإلهيّة كوجوب الحج، وجوب الزكاة، وجوب الصوم، وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواترات والإجماعات هذه كلها من المسائل الضرورية والقطعية في الإسلام، وفي هذه المسائل يوجد علم قطعي بضرورتها وحتميتها ولا مجال للتقليد فيها، وهكذا بالنسبة لمسائل الاستلزامات العقلية وفي مورد يستنتج الإنسان من مقدّمة كبرى عقلية وصغرى عقلية نتيجة معينة، أو في مورد يترتب الحكم على أمر ملازم لحكم العقل، ففي هذه المسائل القطعية كوجوب ذي المقدّمة الملازم لذي المقدّمة، واستحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد، حيث يستلزم وجوب الشيء عدم حرمته، وحرمة الشيء تلازم عدم وجوبه، فمثل هذه الاستلزامات القطعية هي مسائل قطعية وإلزامية ولا مورد للتقليد فيها لأنّ التقليد إنّما يكون في الأحكام الظاهرية ومع وجود العلم الوجداني القطعي بالحكم الواقعي والضروري فلا مجال للتقليد.

وفي غير المسائل الضرورية والقطعية وفي حال عدم وجود العلم الوجداني بالأحكام فالشخص الواجد لملكة استنباط الحكم الشرعي يملك الحجّة بالأحكام فعندما يكون لديه علم بالحجّة في غير المسائل الضرورية والقطعية وغير المسائل الوجدانية فالعمل بهذه الحجّة مفرغ لذمّة المكلّف ومفرغ لذمّة هذا الإنسان المجتهد، وعليه فإذا عمل صاحب الملكة بوظيفته الشرعية سواء من طريق الوجداني والقطعي بالأحكام أو من طريق الاستلزامات العقلية بالأحكام أو من طريق العلم بالحجّة في مورد الحكم الشرعي فإنّ عمله بالحجّة الإلهيّة مفرغ للذمّة، خلافا لما إذا عمل بهذه المسألة من موقع تقليد الغير والتبعية له، فلا يملك مثل هذه اليقين بافراغ الذمّة من طريق الحجّة الإلهيّة أو من طريق العلم الوجداني.

وعلى هذا الأساس إذا استنبط هذا الشخص الحكم الشرعي بنفسه فإنّ استنباطه يعتبر حجّة شرعية ولكن إذا عمل بتقليد الغير فإنّ هذا التقليد مشكوك الحجيّة وهل أنّ قول الغير والتقليد له في حين أنّ هذا الشخص المقلِّد يملك القدرة على الاستنباط وتحصيل الحجّة على الحكم الشرعي، جائر ومفرغ للذمّة أم لا؟ وفي هذه الصورة لا يمكن القول بأنّ تقليد مثل هذا الشخص جائز لأنّ أدلة جواز التقليد قاصرة عن شمولها لهذا الشخص الواجد للملكة وعلى الأقل مشكوكة.

مضافا إلى أنّه يشاهد في بعض الموارد أنّ الواجد لملكة الاستنباط يجوز له التقليد من باب المسامحات العرفية والمسامحات العرفية ليست بحجّة بحيث يتسامح في مسألة تقليد صاحب الملكة للمجتهد بالفعل أيضا.

النتيجة: إنّ تقليد واجد ملكة الاجتهاد لغيره من المجتهد بالفعل لا يجوز، سواء بمقتضى العلم الوجداني أم بمقتضى سيرة العقلائية، أم بمقتضى الأصول العملية والاستصحاب، أم بمقتضى سيرة الأصحاب. ونحن لم نعثر على دليل يدلّ على جواز تقليد الواجد لملكة الاجتهاد، وأمّا مقتضى الأدلة اللفظية فسيأتي إن شاء اللّه‏.

الأدلة اللفظية:

الدليل الرابع: على عدم جواز تقليد الواجد لملكة الاجتهاد، الأدلة اللفظية، حيث تدلّ آية النفر على أنّه يجب على مجموعة وطائفة من المسلمين التفقه بالدين ثم تعليم الآخرين بأحكام الدين وانذارهم، وحينئذٍ لا وجه أن يكون بيانهم هذا حجّة على الآخرين ولكنّه غير حجة على الشخص المبيّن لأحكام الدين على نفسه.

الدليل الخامس: انصراف أدلة جواز التقليد من الآيات والروايات عن واجد ملكة استنباط الأحكام الشرعية، لأنّ موضوع أدلة جواز التقليد رجوع الجاهل إلى العالم، والشخص الذي يستطيع استنباط الأحكام الشرعية فهو غير جاهل بالأحكام، فعندما لا يكون جاهلاً بالأحكام فأدلة الجواز التقليد منصرفة عن شمولها للمتمكن من استنباط الأحكام الشرعية في دائرة حجّيتها.

إنّ قلت: إنّ من جملة أدلة التقليد، آية النفر حيث تدلّ على وجوب نفر جماعة للتفقه في الدين وبعد ذلك يتحركون لأنذار قومهم وتبليغ أحكام الدين إليهم، وهذا المعنى من تفقه جماعة من المسلمين بوصفه واجبا كفائيا للاجتهاد، ينطبق على المجتهد بالفعل الذي يتفقّه في الدين ويعلم بالفعل الأحكام الشرعية حيث يبيّن الأحكام للآخرين، ولكنّ الشخص الذي هو جاهل بالأحكام وقادر على استنباط الأحكام الشرعية فهو ليس بفقيه، لأنّه جاهل بالأحكام بالفعل وإنّما يستطيع استنباط الأحكام، وحينئذٍ فإنّ مفهوم آية النفر وهو التفقه في الدين منصرف عنه، حيث ينطبق مفهوم الآية على الشخص المتفقه فعلاً.

الجواب: إنّ آية النفر تدلّ على جواز تقليد المجتهد وقبول قوله وقاصرة عن شمولها للمتمكن من الاستنباط، لأنّ شمول الآية إنّما يكون للشخص الذي يجب عليه التفقّه واجبا كفائيا أو واجبا عينيا ويتفقّه في الأحكام الدين ويأتي لينذر الآخرين العاجزين عن استنباط الأحكام الشرعية، وأمّا الشخص الواجد لملكة استنباط الأحكام فهو قادر على استنباط لا عاجز عنه، والشخص القادر على الاستنباط لا تشمله آية النفر.

وكذلك آية السؤال: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (1) فهذه الآية لا تشمل أيضا المتمكن من الاستنباط لأنّه أولاً: أنّ المراد بأهل الذكر في هذه الآية كما ذكر المحققون، هم الأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام فالمصداق هو الأئمّة ولا يرتبط بحجّية قول الراوي أو حجّية قول الفقيه والمجتهد.

ثانيا: على فرضنا قبولنا بأنّ هذه الآية الشريفة شاملة، لا من حيث التنزيل بل من حيث التأويل، للفقيه أيضا وتقرر في مضمونها أنّ الجاهل الذي لا يعلم بالحكم الشرعي يجب عليه السؤال من العالِم، ولكنّ الشخص المتمكن والقادر على استنباط الأحكام الشرعية والواجد لملكة الاستنباط فهو غير جاهل بالأحكام بل عالم بها، وعندما يكون عالما بالأحكام فإنّ آية السؤال لا تشمله أيضا.

الدليل السادس: على عدم جواز تقليد واجد ملكة الاستنباط للمجتهد بالفعل، كلام الشيخ الأنصاري رحمه‏الله في هذا المجال في رسالته باسم «الاجتهاد والتقليد، ص 58» ففي هذه الرسالة يدعي المرحوم الشيخ الأنصاري الإجماع على عدم جواز تقليد المتمكن من الاستنباط، فعلى أساس تمامية هذا الإجماع فإنّه يكون مؤيدا قويا لعدم جواز تقليد الواجد لملكة الاستنباط من المجتهد بالفعل.

الدليل السابع: على عدم جواز تقليد الواجد لملكة الاجتهاد، عمومات الكتاب والسنّة، ومنها حديث الثقلين المتواتر حيث قال رسول اللّه‏ صلى ‏الله‏ عليه‏ و‏آله : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه‏ وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض إن تمسكتم بهما لن تظّلوا أبدا» (2) .

وهذا الحديث الشريف يقرر ارجاع جميع الناس إلى العمل بالكتاب والسنّة، فعموم هذا الحديث يشمل الأحكام الإلهيّة المستنبطة من الكتاب والسنّة، ويخرج من عموم أدلة ارجاع الناس إلى الكتاب والسنّة العاجز عن الاستنباط، وأمّا الشخص القادر على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنّة فيبقى تحت عموم فهم الأحكام الشرعية واستنباط الأحكام الإلهيّة من الكتاب والسنّة.

إنّ قلت: بمقتضى نفى الحرج «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ...» (3) . يمكن القول انّ تقليد الواجد لملكة الاجتهاد من المجتهد بالفعل جائز، لأنّ استنباط الأحكام بالفعل حرجي عليه، والحرج منفي في الإسلام.

الجواب: أولاً: لا حرج في المقام، فالمسألة غير تامة كبرويا، لأنّه إذا كان استنباط الأحكام للفقيه والمجتهد الواجد لملكة الاستنباط بالفعل حرجيا، ولكنّه إذا تدرج في استنباط الأحكام فسوف يرتفع الحرج، وعلى هذا الأساس فإنّ كبرى نفي الحرج لا تنطبق على هذا المورد.

ثانيا: إنّ المراد من استنباط المسائل إذا قلنا بالحرج فيها فهذا يعني أنّ ذلك المقدار الذي يقع حرجيا لا يجب استنباطه، ولكنّ المسائل التي يستنبطها الواجد لملكة الاجتهاد والتي لا تكون حرجية، يجب عليه استنباطها وبالتالي لا يجوز له تقليد الغير في هذه المسائل، لأنّ أدلة جواز التقليد وهي رجوع الجاهل إلى العالِم لا تشمل الواجد لملكة الاستنباط.

ثالثا: على فرض أننا قلنا بتطبيق كبرى لا حرج في المورد، وأنّ الفقيه الواجد لملكة الاستنباط يكون استنباط الأحكام بالفعل حرج عليه وبالتالي فهو منفي عنه، ولكن قاعدة لا حرج تنفي الحكم التكليفي، وأنّ استنباط الأحكام على هذا الشخص غير واجب إلاّ أنّ أدلة الحرج لا تثبت الحكم الوضعي وهو حجّية قول المجتهد بالفعل لواجد الملكة، وكذلك الحكم الوضعي في نفي حكم القضاء والإعادة الذي يترتب على واجد ملكة الاستنباط لتقليده للمجتهد بالفعل حيث لا يكون تقليده جائزا في الحقيقة، وعلى هذا الأساس لا يمكن التمسك بأدلة لا حرج في إثبات حجّية قول المجتهد بالفعل للشخص القادر على الاستنباط، لأنّ الحجيّة حكم وضعي ودليل لا حرج ينفي الحكم التكليفي وهو وجوب الاستنباط، وأمّا إثبات الحكم الوضعي وهو حجّية قول المجتهد الآخر لهذا الشخص الواجد لملكة الاستنباط فلا دلالة له على ذلك، وكذلك العمل الذي أتى به تقليدا لهذا المجتهد بالفعل أنّه لا يجب عليه القضاء والإعادة فالحكم الوضعي لا تنفيه أدلة لا حرج.

النتيجة: إنّ جميع وجوه الأدلة النقلية والعقلية التي تدلّ على اعتبار التقليد لا تشمل القادر على الاستنباط والواجد للملكة فيجب عليه ستنباط الحكم الشرعي بنفسه كفاية أو عينا، ولا يجوز له تقليد المجتهد بالفعل، وأدلة جواز التقليد النقلية و العقلية لا تشمل الشخص القادر على الاستنباط أو الشخص الذي يعمل بالاحتياط، مضافا إلى أنّه مع الشك في حجّية قوله الغير للواجد لملكة الاستنباط وهل أنّ قول هذا المجتهد بالفعل حجّة عليه أو غير حجّة؟ فنفس هذا الشك في الحجيّة مساوق للقطع بعدم الحجيّة، وعليه فمقتضى الأدلة اللفظية وبمقتضى الأصل العقلي لا يمكن القول: بحجّية قول المجتهد بالفعل على الواجد لملكة الاستنباط الأحكام.

تفصيل البحث:

وقد ذكر المرحوم الكمباني دليلين على عدم جواز تقليد الواجد لملكة الاستنباط:

الدليل الأول: حكم العقل، بيان ذلك أنّ المجتهد في مقام العمل بالحكم الشرعي يتمسّك بالحجّة، وأمّا العامي ففي مقام العمل يتمسك بمن له الحجّة، والشخص الذي يملك الحجّة في الحكم الشرعي لا يصل به الأمر إلى من له الحجّة حتى يتبعه ويقلده.

النتيجة: عندما يكون الشخص واجدا لملكة استنباط الحكم الشرعي فهو عقلاً واجد للحجّة الشرعية في مورد العمل بالحكم الشرعي، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى أن يقلِّد من له الحجّة، ولكن الإشكال الذي يرد على هذا الكلام هو أنّ المقلِّد أيضا في مقام العمل بالحكم الشرعي لا يستند إلى من له الحجّة بل يستند إلى الحجّة، غاية الأمر أنّ حجّة واجد الإستنباط تختلف مع حجّة المقلِّد، فالقادر على استنباط الحكم الشرعي حجّته الأدلة الأربعة: الكتاب، السنّة، حكم العقل، الإجماع.

أمّا المقلِّد فحجّته قول الخبير وقول الفقيه، وإلاّ فمن حيث الحجيّة كما أنّ للمجتهد موازين علمية من الروايات والامارات التي تعتبر طريقا للواقع لإثبات الحكم الشرعي، فللمقلِّد أيضا تكون فتوى الفقيه وفتوى المجتهد طريقا للواقع لإثبات الحكم الشرعي والواقعي.

النتيجة: أنّه لا يمكن التفكيك من جهة الحجيّة بين المقلِّد والمجتهد والقول بأنّ المقلِّد في مقام العمل يستند إلى من له الحجّة، والمجتهد الواجد لملكة الاستنباط يستند في مقام العمل بالحكم الشرعي إلى الحجّة الشرعية، فهذا كلام من باب المسامحة، فكليهما يستند إلى الحجّة ولا يستلزم التصويب.

وعلى هذا الأساس فالدليل الأول للمرحوم الكمباني في التفريق عقلاً بين الواجد لملكة الاستنباط وبين العامي مورد تأمل وإشكال.

الدليل الثاني: على عدم جواز تقليد الواجد لملكة الاستنباط، أنّ الحجيّة لا تدور مدار وصول الحجّة، بل تدور مدار إمكان وصول الحجّة، فإذا كان الدليل والحجّة االشرعية ممكنة الوصول بحيث إنّ المجتهد العالم إذا تحرك على مستوى الفحص والتحقيق فإنّه سيحصل على الحكم الشرعي من ذلك الدليل فإنّ الحجّة تامة عليه، فالدليل الذي يكون في معرض الوصول هو حجّة ولو لم يصل إلى المجتهد وبالتالي فإنّ هذا الواجد للملكة وبسبب تمكّنه من تحصيل الدليل الشرعي بواسطة الفحص والتحقيق فإنّ الحجّة تامة عليه، لأنّه قادر على استنباط المدارك الشرعية وتحصيل الفهم بالحكم الشرعي وإذا كان الدليل على الحكم الشرعي ممكن الوصول فيجب عليه الرجوع إلى هذه الأدلة لإثبات الحكم الشرعي وتكون هذه الأدلة حجّة على الواجد للملكة، ومع وجود الحجّة للحكم الشرعي فلا تصل النوبة إلى التقليد ولا تشمله أدلة جواز التقليد، لأنّ مورد أدلة جواز التقليد هو الفاقد للحجّة، أي العامي الذي لا طريق لديه لتحصيل الحجّة من الكتاب والسنّة إلاّ من طريق التقليد. ولذلك يجوز له التقليد لمن يملك الحجّة.

إن قلت: إنّ المالك للحجّة هو الشخص الذي يملك استنباط الحكم الشرعي بالفعل، وأمّا الواجد لملكة الاستنباط فإنّه لا يملك الحجّة بالفعل لأنّ الوارد في لسان الروايات وأدلة الاجتهاد هو: «مَن عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا فإنّي قد جعلته عليكم حاكما»، أو ما ورد في آية النفر بعنوان التفقّه في الدين، وهذا العنوان ناظر إلى من له الحجّة وهو المجتهد بالفعل، وأمّا الشخص الواجد لملكة الاجتهاد والاستنباط والذي لم يستنبط الحكم بالفعل ولا ينطبق عليه عنوان التفقّه وعنوان من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعندما لا ينطبق عليه هذا العنوان فلا يكون ذا حجّة وحينئذٍ يجوز له تقليد من له الحجّة وهو المجتهد بالفعل.

الجواب: إنّ آية النفر التي ورد فيها عنوان التفقّه في الدين تبيّن أنّ كل شخص فقيه وعالم بالحكم الإلهي يجب عليه انذار الآخرين وبيان الأحكام لهم، وأمّا أن يكون هذا الفقيه واجدا لملكة الاستنباط فلا ينطبق عليه هذا العنوان وإذا كان واجدا لاستنباط الحكم بالفعل فينطبق عليه هذا العنوان، فإنّ الآية لا تدلّ على هذا التفصيل ولم يرد في الآية المباركة حدود مفهوم الفقاهة والتفقّه، فالآية المباركة تقول بشكل مطلق أنّ كل من يعرف الحكم الشرعي فيجب عليه انذار الآخرين وعليهم قبول قوله وأنّه حجّة، وكذلك الروايات التي تقول: «من نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا»غير ناظرة إلى هذا التفصيل بين الواجد للملكة والمجتهد بالفعل.

مضافا إلى أنّ سيرة العلماء في مورد جواز التقليد لا تشمل الشخص الواجد لملكة الاجتهاد والقادر على الاستنباط ولا أقل من الشك في حجّية هذه السيرة فيهذا المورد وبالتالي فهذه الشك مساوق لعدم الحجيّة كما ذكرنا.

وتبيّن ممّا تقدّم أنّ مقتضى القواعد العقلية والآيات والروايات وسيرة العقلاء هو عدم جواز تقليد الواجد لملكة الاستنباط لمجتهد آخر، فيجب على واجد الملكة استنباط الحكم الشرعي وهذا الاجتهاد إمّا أن يكون واجبا كفائيا عليه أو واجبا عينيا، غاية الأمر قد يرد هنا إشكال وهو أنّه توجد لدينا رواية معتبرة وصحيحة تقرر جواز تقليد المجتهد بالفعل لمجتهد آخر وبطريق أولى يكون تقليد الواجد لملكة الاستنباط لمجتهد آخر جائزا.

وهذه الرواية في صحيحة ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبداللّه‏: أنّه ليس كل ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم ويجيء الرجال من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه، فقال عليه‏ السلام : «ما يمنعك عن محمدبن مسلم الثقفي فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيها» (4) .

وهذه الرواية معتبرة سندا وواضحة دلالة، فسلسلة السند قد ذكرت بالتفصيل في محلّها، وأمّا من حيث الدلالة فإنّ ابن أبي يعفور بنفسه فقيه في الرواية، وعندما يسأل من الإمام عليه ‏السلام عن حكم ومسألة لا يعرفها فالإمام عليه‏ السلام يأمره بالرجوع لفقيه آخر وهو محمد بن مسلم وأنّ يعمل بما يقوله له، وكما قلنا فإنّ هذه الرواية معتبرة سندا ودلالةً وتقرر جواز رجوع الفقيه بالفعل إلى فقيه بالفعل آخر.

وفي الرواية أخرى عن شعب بن عقرقوقي قلت لأبي عبداللّه‏ عليه‏ السلام : ربّما احتجنا أن نسأل عن شيء فممن نسأله، فقال عليه‏السلام : «عليك بالأسدي» (5) .

النتيجة: على فرض أنّ مقتضى القاعدة عدم جواز رجوع مجتهد إلى مجتهد آخر في مورد فهم الحكم، ولكنّ هذه الرواية تخصص تلك القاعدة وتجيز رجوع مجتهد إلى مجتهد آخر بمورد العمل بالحكم الشرعي وفهم الحكم الشرعي، وعلى هذا الأساس وطبقا لهذه الرواية يجوز تقليد المجتهد لمجتهد آخر بالفعل فضلاً عن تقليد الواجد لملكة الاستنباط لمجتهد بالفعل.

وطبعا هناك جواب لهذا الاستدلال بالرواية.

التفقه في عصر حضور المعصوم عليه ‏السلام :

إنّ عملية التفقّه في عصر حضور الإمام المعصوم عليه ‏السلام تختلف عن عملية التفقّه في عصر الغيبة، ففي عصر حضور الإمام كان التفقّه بشكل أنّ الراوي والفقيه ينقل الرواية عن الإمام ويعلم بالحكم الشرعي من خلال هذه الرواية وكان المرجع للناس في عصر الحضور هو الإمام نفسه وكان الأصحاب والفقهاء رواة عن الإمام وينقلون الروايات عنه، ولا شك أنّ روايات الأئمّة عليهم ‏السلام كانت متناثرة بين الأصحاب فبعض كان يحفظ عدد من الروايات وبعض آخر يحفظ روايات أخرى، وربّما لا يكون أحدهم يحفظ جميع الروايات، فكان الراوي غير الحافظ للرواية يرجع إلى الراوي الحافظ لها ويستقي منه الحكم الشرعي الذي ذكره الإمام عليه ‏السلام ، مثلاً الشخص الذي يشك في صلاة النافلة فما حكمه؟ ففي هذا المورد إذا كان المكلّف يعيش في عصر حضور المعصوم فإنّه يرجع إلى الحافظ لرواية عن المعصوم ويسأل منه الحكم الشرعي.

خلافا لعصر الغيبة حيث إنّ المكلف إذا شك في حكمه الشرعي عند الشك في النافلة فهل يبني على الأكثر أو على الأقل؟ وهل يجوز له قطع صلاة النافلة ويستأنف العمل أو لا يجوز؟ كل هذه الاحتمالات ترد في مورد الشك في النوافل، ولا شك أنّ المكلّف إذا كان يعيش في زمان حضور المعصوم فإنّه يرجع إلى الراوي، وإذا لم يصل إليه فإنّه بإمكانه مراجعة راوٍ أو فقيه آخر وتحصيل الحكم الشرعي منه، فالراوي أو الفقيه ينقل الرواية عن الإمام المعصوم ويعيّن الحكم الشرعي.

وأمّا في عصر الغيبة فالبحث في الواجد لملكة الاستنباط فتارة لا يكون ملتفتا للحكم الشرعي للمسألة وغير محيط بجوانب المسألة من جميع أبعادها فهذا الاحتمال خارج عن البحث، ولكن تارة أخرى يكون ملتفتا للحكم الشرعي ومحيطا بالمسألة الشرعية لأنّه يريد استنباط الحكم الشرعي لها، ففي هذه المسألة لو شك في حكم الشك في النوافل، وهل يجب عليه البناء على الأقل أو على الأكثر أو يقطع الصلاة ويستأنف؟ فربّما تشمله اطلاق أدلة حرمة قطع الصلاة حيث ورد: «إنّ الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» (6) أو يستصحب عدم إتيان الأكثر، أو أنّ قاعدة الاستصحاب في هذا المورد تقرر «إذا شككت بين الأقل والأكثر فابني على الأكثر» (1) ، وأنّ هذه الاستصحاب على هذا الأساس مخصص بهذه القاعدة فلا يجري، أو يعمل بمقتضى الرواية المرسلة الواردة في الكافي أو في كتب أخرى بأنّه: «عند الشك في النوافل فابني على الأقل» (7) فتعيين الحكم في هذه المسألة وعند الشك في النوافل يحتاج إلى اجتهاد في العمل بهذه القواعد والروايات، أو يعمل بمقتضى قاعدة التخيير عند الشك في النوافل، فيمكنه البناء على الأقل أو الأكثر، أو يستصحب عدم الإتيان بالأكثر، أو يعمل بمقتضى الرواية المرسلة، فإذا كانت هذه الرواية تملك شهرة فتوائية فلابدّ من البحث هل أنّ هذه الشهرة الفتوائية جابرة لضعف سند الرواية المرسلة، أو أنّ الشهرة الفتوائية غير جابرة لضعف السند؟

الجابر والكاسر:

هناك بحث أصولي وهو: هل أنّ الشهرة جابرة وكاسرة أم لا؟ إذا قلنا بأنّ الشهرة جابرة، مثلاً في هذه الرواية المرسلة في باب النوافل التي تقرر لزوم البناء على الأقل، فهذه الرواية وإن كانت مرسلة وضعيفة من حيث السند، ولكنّها تملك شهرة فتوائية بين العلماء، فهل هذه الشهرة الفتوائية جابرة لضعف سند الرواية المرسلة بالتالي تكون الرواية معتبرة ويكون العمل بها صحيحا، أو غير جابرة؟ وبالعكس نرى أنّ رواية قوية من حيث السند ولكنّ المشهور أعرض عن العمل بهذه الرواية، فهل إعراض المشهور عن العمل بالرواية يوجب وهنها وضعفها وانكسارها أو لا يوجب وهن وكسر قوة الرواية؟

هذه المسائل تحتاج إلى اجتهاد حيث إنّ المجتهد يبحث في مسألة: هل أنّ الشهرة الفتوائية أو الشهرة العملية جابرة أو غير جابرة؟ فإذا كانت جابرة فإنّه يفتي عند الشك في النوافل بمضمون هذه الرواية المرسلة وهو البناء على الأقل وإذا لم تكن الشهرة جابرة للسند فلابدّ من التمسك باستصحاب عدم الإتيان بالأكثر ويتمسك بالتخيير بين الأقل والأكثر، أو يفتي على مبناه في قاعدة جبران الشهرة لضعف السند أو عدمه، والفقيه الذي لا يعتبر الشهرة جابرة وكاسرة لا يرى أنّ هذه الرواية معتبرة، ولكن السؤال هو: هل أنّ صاحب ملكة الاجتهاد في هذه الموارد يجب عليه تحصيل الحجّة ويستنبط الحكم الشرعي بنفسه، أو يجوز له رجوع إلى مجتهد آخر ويقلِّده في هذه المسألة؟

النتيجة: إنّ رجوع الفقيه إلى فقيه آخر في زمان حضور الأئمّة عليهم‏ السلام يختلف عن زمان الغيبة، ففي زمان الحضور يكون المرجع هو الإمام وكلام الإمام، فعندما يراجع فقيه إلى فقيه آخر في مسألة شرعية فإنّما يرجع إلى كلام الإمام لا إلى الفهم الحدسي والفهم الاجتهادي لذلك الفقيه الآخر، وأمّا في زمان الغيبة فعندما يرجع المقلِّد للفقيه فيقلده في مسألة معينة ولكي يفهم ويحصل على الحكم الشرعي فإنّ مثل هذا التقليد للمجتهد في زمان الغيبة إنّما هو من أجل الحصول على رأيه واجتهاده، وعليه فالقادر على استنباط الحكم الشرعي والواجد لملكة الاجتهاد لا يجوز له التقليد ويجب عليه استنباط الحكم الشرعي بنفسه أو العمل بالاحتياط، لأنّه أولاً: إنّ أدلة جواز التقليد وهي رجوع الجاهل إلى العالم،
لا تشمل الواجد لملكة الاجتهاد القادر على الاستنباط.

ثانيا: على فرض الشك في هذا الأمر أي الشك في حجّية قول المجتهد بالفعل للمجتهد بالقوّة الواجد لملكة الاجتهاد، فنفس هذا الشك في الحجيّة يكفي لإثبات عدم حجّية ذلك الفقيه لهذا الفقيه بالقوّة القادر على الاستنباط.

إذن، تحصل ممّا تقدّم أنّه بمقتضى أدلة جواز التقليد وبمقتضى العقل وبمقتضى السيرة العقلائية، لا يجوز للواجد لملكة الاجتهاد والاستنباط تقليد المجتهد بالفعل.

رجوع العامي إلى واجد الملكة:

وعكس هذه المسألة مطروح أيضا وهو: هل يجوز للآخرين من العوام تقليد الواجد لملكة الاستنباط والقادر على استنباط الحكم الشرعي، ولكنّه لم يستنبط بالفعل أو لا؟

الجواب: بالنفي، فمادام الواجد لملكة الاستنباط لم يستنبط للحكم الشرعي فعلاً فلا يجوزه للآخرين تقليد، لأنّ موضوع الحجيّة لا يتوفر في قول الواجد للملكة، فموضوع حجّية قوله على الآخرين من المقلِّدين فيما إذا استنبط الحكم الشرعي عملاً ولو مجرّد استنباط مسألة واحدة، حيث يتحقق مسألة حجّية قوله على الآخرين، وحينئذٍ يمكنهم تقليد هذا الشخص الذي استنبط الحكم الشرعي في هذه المسألة، لأنّ موضوع حجّية قوله يتحقق في استنباطه الفعلي للحكم لشرعي.

انصراف أدلة جواز التقليد:

إنّ قلت: إنّ الأدلة اللفظية على جواز التقليد كآية النفر وآية الذكر، منصرف عن جواز التقليد للشخص الذي استنبط الحكم في مسائل معدودة، لأنّ عنوان الفقيه والتفقّه وعنوان: عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا ينطبق على المجتهد المطلق والمجتهد بالفعل الذي يستنبط الأحكام الشرعية لعامة المسائل، وأمّا الشخص الذي استنبط الحكم الشرعي في مسألة واحدة أو مسائل معدودة فلا ينطبق عليه عنوان الفقيه في الدين وعنوان العارف بالأحكام، وعليه فإنّ الأدلة اللفظية لجواز التقليد لا تشمل المجتهد الواجد للملكة الذي استنبط الحكم في مسألة واحدة.

الجواب: أولاً: إنّ آية النفر لا يستفاد منها أنّ عنوان الفقيه هو الموضوع، وبعبارة أخرى: إنّ هذه الآية المباركة وكذلك ما ورد في الروايات من عنوان الفقيه وعنوان العارف بالأحكام وعنوان الناظر إلى الحلال والحرام، غير مقيدة بحدٍّ خاص وأن تحقق هذه العناوين مشروط بحصول وتحقق الاجتهاد المطلق واستنباط جميع الأحكام، فمثل هذا الشرط والحد غير موجود في هذه النصوص لتحقق تلك العناوين، فتلك العناوين مطلقة وتشمل المجتهد المطلق الذي يستنبط جميع الأحكام بالفعل وكذلك تشمل الواجد لملكة الاستنباط وقد استنبط مسائل محدودة فقط ولم تتيسر له الفرصة لاستنباط جميع المسائل.

النتيجة: أنّ آية النفر المباركة لم تشترط شرطا لعنوان التفقّه والفقيه، وليس موضوعها عنوان الفقيه، إنّما الموضوع في هذه الآية هو المتفقه في الدين والعالم بحكم الدين، وحنيئذ يجب على هذا الشخص بيان ما عرفه من الفقه للناس، وعلى هذا الأساس فالمجتهد المتجزي والشخص الواجد للاستنباط والذي استنبط بعض المسائل المحدودة بالفعل يدخلان في مفهوم آية النفر.

ثانيا: إنّ الفهم العرفي للشخص القادر على استنباط الأحكام ويمكنه في الجملة استنباط الشرعي يطلق عليه عنوان العارف بالأحكام والناظر إلى الحلال والحرام، والفقيه في الدين، وعندما يرى العرف صدق عنوان الفقيه في الدين عليه فإنّ أدلة جواز التقليد وآية النفر وكذلك الروايات التي تقرر ارجاع الجاهل إلى العالم، كلها واردة في هذا الفرض، وتشمل مثل هذا الشخص.

ثالثا: إنّ الشخص العالم بجميع الأحكام الإلهيّة والذي يستنبط جميع أحكام الدين بالفعل ويعلمها كلها هو النبي والإمام المعصوم عليه‏السلام فقط ولا غير، فالإنسان العادي غير المعصوم مهما وصل في درجات الكمال العلمي والاجتهاد فإنّه لا يعلم بجميع الأحكام فعلاً وليس عارفا بالأحكام الإلهيّة بالفعل، وعليه فإنّ جعل الحاكمية للمجتهد ولزوم الرجوع إلى العارف بالحلال والحرام يستلزم اللغوية على هذا الفرض، لأنّه لا يوجد أحد غير المعصوم عالم بجميع الأحكام الإلهيّة وبالفعل.

رابعا: على فرض أنّ عنوان الفقيه في الدين وعنوان العارف بالأحكام الإلهيّة وعنوان الناظر الحلال والحرام في الدين يصدق فقط على المجتهد المطلق الشخص الذي يستنبط جميع الأحكام بالفعل، فإنّ معرفة هذا الشخص الذي يعرف جميع الأحكام ويستنبطها بالفعل عسيرة على المقلَّد ويستلزم التعرف عليه الحرج، فالمقلِّد غير قادر على تعيين وتشخيص أنّ هذا المجتهد عارف فعلاً بجميع الأحكام ومجتهد مطلق وأنّه يستنبط الأحكام بالفعل.

النتيجة: أنّ الأدلة اللفظية لجواز التقليد غير منصرفة عن جواز تقليد الواجد لملكة الاستنباط للأحكام الشرعية الذي يستنبط بعض المسائل المعدودة.

وهكذا في سيرة العقلاء، فالشخص الواجد لملكة الاستنباط ويستنبط مسائل معدودة ففي نظر العقلاء له القابلية على الرجوع إليه، مثلاً في نظر العرف إذا استنبط طبيب معين ألف مسألة طبية فإنّه يصدق عليه طبيب بالفعل، وإذا استنبط طبيب آخر واجد لملكة الطبابة بعض المسائل المعدودة وكان له علم بها ولكنّه لا يعلم بجميع المسائل الطبية بالفعل فإنّ سيرة العقلاء في هذا المورد تقضي بالرجوع إلى الطبيب الحاذق ولو في بعض المسائل المحدودة، فبالرغم من عدم صدق عنوان الطبابة والطبيب في حقّه ولكنّه في هذه المسائل المعدودة دقيق النظر، ولهذا فإنّ سيرة العقلاء تقضي بجواز الرجوع إليه للعلاج.

إن قلت: إنّ سيرة العقلاء إنّما تكون حجّة فيما إذا لم يتمّ الردع عنها من قِبل الشارع، ولكن في المقام فإنّ الأدلة اللفظية على جواز التقليد وآية النفر وآية‏الذكر ورواية الناظر إلى الحلال والحرام تنطبق على الفقيه المطلق بالفعل لا على من يقدر على استنباط بعض المسائل، ولذلك فإنّ الأدلة اللفظية لجواز التقليد رادعة عن هذه السيرة.

الجواب: تقدّم أنّ الوارد في لسان الأدلة اللفظية عنوان التفقّه في الدين والعارف بأحكام الحلال والحرام، وهو غير محدود بأن يعمل أو يستنبط الشخص جميع الأحكام الشرعية، ثم إنّ عنوان التفقّه وعنوان الذكر وعنوان العارف بالأحكام الواردة في لسان الأدلة اللفظية مطلق وقابل للانطباق على المجتهد المطلق الذي يستنبط جميع الأحكام الشرعية بالفعل وينطبق أيضا على الواجد لملكة الاستنباط الذي يستنبط بعض المسائل المعدودة فعلاً، إذن فعنوان الفقيه في الدين والعالم بالأحكام والناظر إلى الحلال والحرام أعم ممّن يستنبط جميع الأحكام أو بعضها، وعلى هذا الأساس فإنّ الأدلة اللفظية لجواز التقليد غير رادعة عن سيرة العقلاء، ونكتشف من عدم الردع حجّية سيرة العقلاء هذه شرعا في هذا المورد.

النتيجة: إنّ تقليد صاحب ملكة الاجتهاد جائز، غاية الأمر بالشروط التي سيأتي ذكرها إن شاء اللّه‏ في بحث شروط الاجتهاد، وفعلاً البحث في المقام التصوري لهذا الموضوع، وسيأتي البحث عن شروط جواز التقليد ومنها ما إذا كان المجتهد غير مطلق ولكن فتاواه لا تخالف فتوى الأعلم، ولكن إذا كان رأيه في مسألة معينة مخالف لفتوى الأعلم فإنّ مقتضى القاعدة والاحتياط والرجوع إلى الأعلم.

دوران الأمر بين التعيين والتخيير:

كان البحث في جواز تقليد صاحب ملكة الاجتهاد فيما إذا استنبط الحكم الشرعي بالفعل ولو لبعض المسائل المعدودة، وقلنا بجواز الرجوع لصاحب ملكة الاجتهاد مع توفر شروط معينة، ومن هذه الشروط أن لا يكون رأيه في هذه المسألة مخالف لقول الأعلم وإلاّ فينبغي الاحتياط في مورد الاختلاف مع فتوى الأعلم، وطبعا لا توجد لدينا رواية صريحة في مورد لزوم الرجوع إلى قول الأعلم تعيينا، نعم ورد في الرواية المعروفة بمقبولة عمر بن حنظلة وكذلك الرواية المشهور «رواية أبي خديجة» يسأل فيها الراوي الإمام عن الروايتين المتعارضتين وما هو التكليف في هذه الصورة، فيقول الإمام: «خذ بأعدلهم وأفقههما والأوثق حديثا» (8) .

وقد استدل البعض بهذه الرواية لوجوب الرجوع إلى قول الأعلم بمقتضى هذه الكلمة «أفقههما» ولكنّ هذه الرواية مع كونها من حيث السند مورد مناقشة فهي من‏حيث الدلالة تتعلق بباب القضاء والحكم بباب القضاء غير الحكم بباب الفتوى، وحتى من باب تنقيح المناط لا يمكن القول بوحدة المناط في مورد باب القضاء وباب الفتوى، لأنّ المناط في باب القضاء فصل الخصومة ورفع النزاع، أمّا مناط الحكم في مورد الفتوى فهو والاستنباط الإخبار عن الحكم الإلهي وعندما يتعدد المناط فلا يمكن تسرية الحكم في باب القضاء إلى باب الفتوى من باب تنقيح المناط، غاية الأمر في دوران الأمر بين الرجوع لقول العالم مع وجود قول الأعلم، يتعين الرجوع إلى قول الأعلم بلحاظ دوران الأمر بين أصالة التعيين والتخيير، لأنّ قول الأعلم مطلقا حجّة، أي أنّه إذا كان قول العالم حجّة في صورة الاختلاف فقول الأعلم حجّة أيضا، وحينئذٍ تكون الحجّة تخييرية في هذه الصورة، وعلى فرض أنّ قول العالم وقول الأعلم كلاهما حجّة فيكون قول الأعلم حجّة تخييرية في مقابل حجّية قول العالم، وإذا كان قول العالم مع وجود قول الأعلم غير حجّة، فكذلك في هذه الصورة يكون قول الأعلم حجّة تعينية.

النتيجة: أنّ قول الأعلم في مثل هذا المورد حجّة مطلقا وقول العالم مشكوك الحجيّة، وهنا احتمال أنّ قول العالم مع وجود مخالفة الأعلم غير حجّة ونشك في حجّيته، ومقتضى القاعدة عدم الحجيّة ولزوم الرجوع إلى قول الأعلم بمقتضى أصالة التعيين. إنّما البحث في تصوير وصياغة أصالة التعيين.

إنّ أصالة التعيين يمكن تصويرها بنحوين:

النحو الأول: أنّ مقتضى الأصل العملي حرمة العمل بالظن، لأنّ الظنّ بالحكم ليس علّة لتنجز الحكم، وإنّما العلّة لتنجز الحكم هو العلم الوجداني لا الظنّ، والظن ليس علما وجدانيا ولا يقتضي الحجيّة، لأنّ الظن يقترن دائما مع احتمال الخطأ والمخالفة للواقع وما كان مقترنا باحتمال خلاف الواقع واحتمال الخطأ لا يقتضي الحجيّة والتنجز، وعلى هذا الأساس فنسبة الظنّ إلى الحجيّة هو اللاقتضاء، فإذا قام دليل على اعتباره وحجّيته فسيكون الظنّ حجّة بمقتضى الدليل الشرعي والتعبدي، فإذا لم يكن لدينا دليل شرعي وتعبدي على حجيّة الظنّ فلا يمكن القول إنّ الظنّ حجّة لأنّ الظنّ عقلاً ليس علّة للحجّية ولا يقتضي الحجيّة، لأنّ مقتضى الحكم الأولى هو حرمة العمل بالظنّ كما ورد في الآية الشريفة: «قُلْ أَاللّه‏ُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه‏ِ تَفْتَرُونَ» (9) وكذلك بمقتضى الأصل اللفظي:«إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّشَيْئا...» (10) . وبمقتضى الأصل العملي والأصل العقلي أيضا فإنّ الظنّ ليس بحجّة، لأنّ الشك في الحجيّة مساوق لعدم الحجيّة.

وأمّا مسألة حرمة العمل بالظنّ، فإنّ الظنون الخاصّة التي قام الدليل على حجيّتها واعتبارها خارجة عن هذا الحكم من قبيل الظنّ الحاصل من خبر العادل والثقة، والظنّ الحاصل من الآيات والروايات، فهذه من جملة الظنون الخارجة عن دائرة حرمة العمل بالظنّ، وكذلك الظنّ الحاصل من فتوى المجتهد لأنّ فتوى المجتهد طريق ظنّي وتعبدي للواقع، وحينئذٍ يكون الظنّ الحاصل من قول الأعلم خارج أيضا عن دائرة حرمة العمل بالظنّ وذلك بمقتضى أدلة حجيّة الفتوى، وأمّا الظنّ الحاصل من قول العالم مع وجود مخالفته لقول الأعلم، فلا نعلم هل أنّه خارج عن دائرة حرمة العمل بالظن أو لا؟ ومقتضى القاعدة عدم خروج مشكوك الحجيّة فهو ليس بحجّة.

النحو الثاني: هو أنّ اشتغال ذمّة الإنسان وذمّة المكلّف بالتكليف الإلهي يقيني، ومقتضى هذا العلم الإجمالي بالتكليف الإلهي يستلزم فراغ الذمّة اليقيني حيث يجب على المكلّف تفريغ ذمّته بواسطة امتثال التكليف الإلهي، والعمل بقول الأعلم مفرغ لذمّة الإنسان، ولكن الرجوع إلى فتوى العالم مع وجود فتوى الأعلم في هذه المسألة يبعث على الشك في فراغ الذمّة لوجود احتمال أن تكون فتوى العالم مع وجود فتوى الأعلم غير حجّة، وعندما لا تكون حجّة فإنّ الرجوع إليه والعمل بفتواه لا يفرغ الذمّة، إذن فمقتضى القاعدة في هذا المورد وفي دوران الأمر بين أصالة التعيين وأصالة التخيير فإنّ المتعين عقلاً هو حجّية أصالة التعيين.

ولكن إذا لم تكن فتوى العالم في مسألة معينة مخالفة لفتوى الأعلم، ففي هذه الصورة لا مانع شرعا وعقلاً من الرجوع لفتوى العالم المساوية والمماثلة لفتوى الأعلم، لأنّه إمّا أن تكون فتوى العالم حجّة تخييرية ففي هذا الفرض فإنّ كلا الفتويين متساويين في المسألة ولا اختلاف بينهما، والمكلّف مخيّر بين الأخذ بقول العالم والأخذ بقول الأعلم، لأنّ اطلاق دليل حجّية الفتوى لا يشملها في صورة المماثلة أو يقال إنّ العمل بقول العالم من مصاديق الحجّة في هذه الصورة، لأنّة في هذ المورد يكون قول الأعلم حجّة عليه، وبما أنّ حجّة الأعلم مساوق لنظر العالم في هذه المسألة فيجوز له الرجوع إلى العالم، لأنّ من مصاديق الحجّة، وعلى هذا الأساس فإنّ الواجد لملكة الاجتهاد إذا استنبط حكما في مسألة معينة يجوز الرجوع إليه في هذه المسألة، غاية الأمر لا ينبغي أن تكون مخالفة لفتوى الأعلم، وإلاّ فإن كانت مخالفة فتوى الأعلم يدور الأمر بين أصالة التعين وأصالة التخيير ومقتضى القاعدة أصالة التعيين والرجوع لقول الأعلم. ولكن إذا كان قول العالم مطابقا للإحتياط وقول الأعلم مخالفا للإحتياط فهل يجب الرجوع إلى قول الأعلم في هذه الصورة، أو إلى قول العالم الموافق للاحتياط؟ هذه المسألة مورد بحث وتأمل.

النتيجة: في هذا المطاف أنّ المجتهد الواجد لملكة الاستنباط يكون قوله واستنباطه حجّة لنفسه وكذلك حجّة للآخرين الذين يقلِّدونه في هذه المسائل مادامت فتواه غير مخالفة لفتوى الأعلم.

المجتهد المطلق والمتجزي،

المجتهد إمّا مجتهد مطلق بحيث يمكنه استنباط جميع الأحكام الشرعية من أدلّتها الشرعية والعقلية المعتبرة، أو مجتهد متجزي يستنبط بعض الأحكام الشرعية من الإمارات والأصول المعتبرة الشرعية والعقلية، هذا الموضوع أيضا يمكن البحث فيه من أربع جهات كما في تقسيم الاجتهاد من حيث الفعلية والملكة:

الجهة الأولى: من حيث تصوير إمكان وعدم إمكان الاجتهاد المطلق والاجتهاد المتجزي.

الجهة الثانية: البحث في حجّية وعدم حجّية قول المجتهد بالنسبة له ولمقلِّديه.

الجهة الثالثة: البحث في نفوذ ولايته وعدم نفوذها.

الجهة الرابعة: البحث في نفوذ قضاء المجتهد وعدم نفود قضائه.

أمّا بالنسبة للجهة الأولى فإنّ المرحوم الآخوند ذكر في الكفاية تعريف المجتهد المطلق والمتجزي، فبالنسبة لتعريف المجتهد المطلق يقول بأنّه هو الشخص القادر على استنباط الأحكام الشرعية من الامارات والأصول المعتبرة شرعا وعقلاً، بمعنى أنّ المجتهد المطلق هو الشخص الذي يملك القدرة على استنباط جميع الأحكام الشرعية مورد ابتلائه وابتلاء مقلِّديه من أدلة الأدلة الأحكام، سواء الأدلة الشرعية أم الأدلة العقلية.

أمّا المجتهد المتجزي فهو الشخص القادر على استنباط بعض الأحكام الشرعية من الأدلة والامارات والأصول المعتبرة الشرعية والعقلية، ثم يقول: هل أنّ الاجتهاد المطلق ممكن أو غير ممكن؟ يقول: إنّ الاجتهاد المطلق ممكن وكذلك واقع في الخارج، إذن البحث في الاجتهاد المطلق ليس من حيث وقوعه وعدم وقوعه، لأنّ إمكان وقوع الاجتهاد المطلق أمر مسلّم ومورد قبول (11) .

إنّما الكلام في حكم الاجتهاد المطلق من حيث الحجيّة وعدم حجيّة له ولمقلِّده ومن حيث نفوذ ولايته وعدم نفوذها، ومن حيث نفوذ قضائه وعدم نفوذه.

ولكن في المقام يمكن المناقشة والقول بأنّ الاجتهاد المطلق غير ممكن، لأنّه لا أحد سوى الإمام المعصوم عليه ‏السلام عالم بجميع الأحكام الإلهيّة في أبواب الفقه المختلفة من العبادات والمعاملات والعقود والايقاعات واستنباطها من الأدلة الشرعية والعقلية، والدليل على ذلك كلام المجتهدين أنفسهم في رسالاتهم العملية وكتبهم الفتوائية حيث إنّهم في الكثير من الموارد يتوقفون ويفتون بالاحتياط ومعنى ذلك أنّهم لا يعلمون بحكم هذه المسألة وإلاّ فلو كانوا عالمين بالحكم الشرعي فلا وجه للتوقف والاحتياط.

الجواب: بالنسبة للاجتهاد المطلق تارة نقول بأنّ المجتهد ينبغي أن يستنبط جميع المسائل التي تتصل بحياة الفرد والمجتمع بالفعل في جميع الموضوعات والفروع المترتبة عليها، وهذا العمل لا يتيسر سوى للمعصوم عليه‏السلام ، لأنّ أولاً، إنّ فروع المسائل وجزئياتها كثيرة ومختلفة وغير قابلة للاستقصاء، بل إنّ بعض الفروع لا موضوع لها فعلاً فلا يمكن استنباط حكمها، والمراد من الاجتهاد المطلق هو أن تكون للشخص ملكة وقدرة على الاجتهاد المطلق وهذه القدرة والملكة هبة من اللّه‏ تعالى لهذا المجتهد الذي يقدر على استنباط الحكم الشرعي عندما يسأل منه مسألة شرعية ويقدر على استنباطها من الأدلة المعتبرة الشرعية والعقلية.

إذن فالمراد من المجتهد المطلق لا يعني استنباط جميع الأحكام فعلاً وإلاّ فإنّ ذلك غير ميسور للإنسان العادي إلاّ بعناية إلهيّة، وبواسطة المعجزة وبطريقة غير طبيعية وخارقة للعادة، وطبعا فالإمكان الذاتي موجود إلاّ أنّه خارج عن البحث. فالبحث هو أنّ العلم بجميع الأحكام الفروع والموضوعات الجزئية بالفعل لا يتيسر للمجتهد عادة، إذن أولاً: أنّ المراد من المجتهد المطلق هو الشخص القادر على استنباط جميع الأحكام من أدلتها الشرعية، لا أنّه عالم بالفعل بجميع الأحكام.

ثانيا: أن تكون هذه القدرة على استنباط جميع الأحكام مطلقة وغير محدودة للمجتهد المطلق، وما نرى من التردد لدى البعض في بيان الحكم والقول في المسألة بالاحتياط بمعنى أنّه غير عالم بالحكم، وهذا المعنى لا يتنافى مع الاجتهاد المطلق، لأنّه عندما يقول بالتأمل والاحتياط في مسألة معينة يعني أنّه لا يعلم حكمها الواقعي في لوح الواقع، أو يفتي بالاحتياط في المسألة لأنّ الامارة النقلية والقاعدة العقلية تقتضي التوقف والاحتياط.

النتيجة: أنّ الاجتهاد المطلق ممكن بذاته من جهة وممكن من حيث الوقوع من جهة أخرى ففي الواقع الخارجي يمكن القول بأنّ المحقق الأول، صاحب الشرائع، والعلاّمة الحلّي، الشهيدين، وصاحب الجواهر، هؤلاء من جملة المجتهدين بشكل مطلق حيث يملكون القدرة على استنباط جميع الأحكام الإلهيّة من الامارات والأصول الشرعية والعقلية، إذن فالاجتهاد المطلق بمعنى القدرة على استنباط جميع الأحكام الفعلية من أدلتها الشرعية والعقلية ممكن.

الحكم المترتب على المجتهد المطلق:

الجهة الثانية: البحث في حكم المجتهد المطلق، فهل يجوز للمجتهد المطلق العمل برأيه، أو لا يجوز؟ وطبعا الجواز هنا بالمعنى الأعم وما يقبل الجمع مع الوجوب.

الجواب: إنّ المجتهد المطلق يجب عليه العمل برأيه، لأنّه عندما يكون عالما بالمسألة فإنّ هذا العلم حجّة عليه سواء كان قوله مطابقا لفتوى غيره أو مخالفا، لأنّ قول الغير إذا كان مماثلاً لفتواه فالرجوع إلى الغير في فتواه لا وجه له وإذا كانت فتواه مخالفة لفتوى الغير فإنّ يحتمل أن يكون فتوى الغير مخالفة للواقع وخطأ، ففي هذه الصورة لا يعقل رجوع العالم إلى الجاهل والخاطيء، ورجوع العالم إلى الجاهل ممنوع شرعا وعقلاً، أمّا رجوع الغير إليه فتارة يكون المجتهد المطلق انفتاحيا ويرى باب العلم والعلمي في زمن الغيبة مفتوحا، وتارة يكون المجتهد المطلق انسداديا ويعتقد بانسداد باب العلم والعلمي بالأحكام في زمن الغيبة.

الحكومة والكشف:

والمجتهد الانسدادي تارة يقول بالكشف في مورد حجّية الظنّ ويعتقد بأنّ هذا الظنّ بالحكم الشرعي كاشف عقلاً عن أنّ الشارع في ظرف انسداد باب العلم والعلمي يرى الحجيّة للظن.

تارة يكون المجتهد الانسدادي قائلاً بالحكومة، حيث يقول: لا علاقة لي بقول الشارع بأنّ الظنّ طريق إلى الواقع أو لا، ولكن عقلي يحكم بأنّه في ظرف الانسداد لا سبيل لنا سوى العمل بالظنّ في مقام امتثال تكليف المولى، فالظنّ في ظرف الانسداد يعمل عمل العلم، فكما أنّ العلم حجّة في ظرف انفتاح باب العلم فكذلك الظنّ حجّة في ظرف الانسداد، وكما أنّ العمل بالعلم مجزٍ فالعمل بالظنّ مجزٍ أيضا.

وتارة يرى المجتهد الانسدادي بأنّ نتيجة دليل الانسداد مطلقة فكل ظنّ حاصل في ظرف الانسداد ومن أي سبب كان ومن أي شخص وفي أي مورد وفي أي مرتبة حصل الظنّ فهو حجّة.

وتارة أخرى بأنّ نتيجة دليل الانسداد مهملة وفي قوّة الجزئية وظنّ الانسدادي في الجملة حجّة.

الفقيه الانفتاحي والانسدادي:

إذا كان المجتهد المطلق انفتاحيا ففي هذه الصورة لا إشكال في رجوع المقلِّد إليه وتقليده جائز لأنّ الدليل الشرعي قام على جواز رجوع الجاهل إلى عالم.

وإذا كان المجتهد المطلق انسداد ففي جواز الرجوع إليه وتقليده تأمل، وفي ذلك يقول المرحوم الآخوند: إنّ تقليد المجتهد الانسدادي في غاية الإشكال لأنّ الرجوع إليه ليس من قبيل رجوع الجاهل إلى العالم، بل من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل (12) ، لأنّه يعتقد بانسداد باب العلم والعلمي في الأحكام ويقول: إنّ العقل يحكم بأنّ اللّه‏ تعالى في هذا العالم وضع أحكاما لعباده وفي ظرف الانسداد يجب العمل وفقا للظن بتلك الأحكام، وأمّا مؤدى ذلك الظنّ هل هو حكم اللّه‏ أو ليس بحكم اللّه‏ فلا أهمية له.

وظاهر كلام المرحوم الآخوند مطلق، أي أنّه مطلق من حيث شموله للمجتهد الانسدادي المطلق أو المتجزي وسواء كان أعلم أو عالم فتقليده غير جائز لأنّه بمثابة رجوع الجاهل إلى الجاهل، والمجتهد الانسدادي ليس عالما بالأحكام حتى يكون تقليده من باب رجوع الجاهل إلى العالم.

بيان ذلك: أنّ الدليل القائم على جواز التقليد إمّا من باب الأدلة اللفظية أو سيرة العقلاء أو دليل الانسداد فجميع هذه الأدلة أعم من الآيات والروايات وسيرة العقلاء تقرر أنّ موضوع جواز التقليد هو رجوع الجاهل إلى العالم، وكما يستفاد ذلك من آية النفر وآية السؤال حيث تدلّ على جواز الرجوع إلى الفقيه بالأحكام.

وهكذا ما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة في جواز الرجوع إلى الناظر إلى الحلال والحرام والعارف بالأحكام الإلهيّة وهذه العناوين لا تصدق على المجتهد الانسدادي لأنّه حسب القاعدة جاهل بالأحكام ويرى أنّ باب العلم والعلمي للأحكام مسدود.

وهكذا سيرة العقلاء حيث إنّ موضوعها جواز رجوع غير الخبير إلى الخبير، وهذا لا يشمل جواز الرجوع إلى المجتهد الانسدادي لأنّه ليس خبيرا بالأحكام الإلهيّة بل يعمل طبقا لظنّه وبحكم عقله ولو كان خلاف الواقع فهو عقلاً معذور.

النتيجة: إنّ أدلة جواز التقليد قاصرة عن إثبات حجّية رأي مثل هذا المجتهد، ودليل الإنسداد لا يدلّ أيضا على جواز تقليد المجتهد الانسدادي، لأنّ دليل الإنسداد إنّما يكون له وجه فيما إذا كانت مقدمات الانسداد تامة، ومقدمات الإنسداد للمقلِّد الذي يمكنه تقليد المجتهد الانفتاحي غير تامة.

ومن هنا نستظهر أنّ أدلة جواز التقليد أعم من الآيات والروايات وسيرة العقلاء، قاصرة عن إثبات حجّية رأي المجتهد الانسدادي، لأنّ العناوين المأخوذة في لسان هذه الأدلة لا تصدق على جواز تقليد المجتهد الانسدادي،إلاّ أن يكون هناك دليل آخر يدلّ على جواز تقليده، وهذا الدليل إمّا أن يكون دليل الانسداد أو الاجماع، أمّا دليل الانسداد فهو تام بالنسبة للمجتهد الانسدادي نفسه في صورة أن تكون مقدمات الانسداد تامة، و لكنّ هذا المقدمات غير تامة للمقلِّد، لوجود المجتهد الانفتاحي وإمكان تقليده، فحينئذٍ لا يكون باب العلم بالأحكام والطرق للواقع مسدودا أمام المقلِّد.

أمّا الإجماع فواضح حيث لا يوجد إجماع في مورد جواز تقليد المجتهد الانسدادي، لأنّ مسألة الانسداد تعتبر من المسائل المستحدثة التي ورد البحث فيها في القرن الأخير، ولم تكن في العصور القديمة ولم يكن هناك اتفاق بين العلماء والاصحاب في هذه المسألة بحيث نقول بوجود إجماع واتفاق لدى العلماء يدلّ على جواز تقليد المجتهد الانسدادي.

أمّا إذا كان هناك دليل آخر للمقلِّد بحيث يمكن أن تكون مقدمات الانسداد تامة في حقّه فبحسب دليل الانسداد يجوز له تقليد المجتهد الانسدادي.

مقدمات الانسداد:

إنّ مقدمات الانسداد مؤلفة من خمس مقدمات:

المقدّمة الأولى: أنّ كل مكلّف له علم إجمالي بصدور أحكام شرعية للناس في هذا العالم وأنّ الإنسان ليس كالحيوانات والبهائم يعيش بدون تكليف وحكم شرعي من قِبل اللّه‏ تعالى، لأنّ الإنسان يملك جوهرة العقل، والعقل يرى نفسه مسؤولاً أمام مولاه الحقيقي وملزما باطاعة قوانينه ودستوراته، ولذلك نرى أنّ الإمام علي عليه‏السلام يقول في نهج البلاغة في باب فلسفة بعثة الأنبياء : «إنّ اللّه‏ تعالى بعث الأنبياء للبشر ليثيروا فيهم دفائن العقول» (13) الإنسان يتحرك بنور العقل إلى أن يصل إلى مرحلة سامية في مسيرة التكامل المعنوي.

وببيان آخر: ورد أيضا عن الإمام أميرالمؤمنين عليه‏ السلام قال: «رحم اللّه‏ امرء علم من أين وفي أين وإلى أين» (14) ، وعلى سبيل المثال إذا جاء شخص وأخبرك بأنّ في خزانتك كنزٌ فلابدّ أنّك ستفرح كثيرا، وهكذا الحال في فلسفة بعث الأنبياء حيث يذكر الإمام أميرالمؤمنين عليه‏السلام أنّ الأنبياء بعثوا لهداية الناس واظهار الكنوز الإلهيّة الخفية في ذاتهم، فالعقل البشري يسير في طريق التكامل والقرب من اللّه‏ تعالى ونيل السعادة البشرية ولكنّ البشرية لم تدرك هذا المعنى.

على أيّة حال إنّ العقل يرى نفسه مسؤولاً أمام المولى الحقيقي سبحانه وتعالى، وبتعبير آخر أنّ العقل يخلق هذه المسؤولية للإنسان وأنّه يجب عليه اطاعة تكاليف المولى، إذن فطبقا لهذه المقدمة فإنّ كل إنسان بمقتضى فهمه الفطري والعقلي يعتقد بوجود أحكام شرعية إلهيّة وأنّ الإنسان مسؤول بامتثال هذه الأحكام الشرعية والتكاليف واطاعتها وأنّ مخالفتها تعتبر ظلما بحق المولى، الظلم مستحق للعقاب شرعا وعقلاً.

المقدّمة الثانية: إنّ الأحكام الإلهيّة ليست لغوا ولا فائدة فيها، فعندما يضع اللّه‏ تعالى التكاليف والدساتير للبشر إذن، فيجب على المكلّف امتثال هذه التكاليف والأحكام الإلهيّة.

المقدّمة الثالثة: أنّ باب العلم والعلمي لهذه الأحكام مسدود لمن يقول بالانسداد، أما انسداد باب العلم فلأنّ الإمام المعصوم غير حاضر ونحن نعيش عصر الغيبة الكبرى وعصر الظلمات الممتدة والطويلة وليس لنا سبيل للتوصل إلى المعصوم لنستقي منه الأحكام الشرعية‏الواقعية، وأمّا انسداد باب العلمي والامارة من باب الظنّ الخاص مثل حجيّة خبر الواحد وحجيّة الإجماع والشهرة وحجيّة ظواهر الآيات والروايات، فإنّ هذا الطريق غير تام لمن يقول بالانسداد، وأدلة حجيّة خبر الواحد كفهوم آية النبأ أو سيرة العقلاء أو الآيات والروايات فإنّ دلالتها على إثبات حجيّة خبير الواحد غير تامة، فعليه فإنّ باب العلمي أيضا مسدود إلى الواقع.

المقدّمة الرابعة: إنّ العمل بالاحتياط إمّا أن يكون حرجيا أو مخلاً بنظام المعاش والمعاد، فمن يعمل بالاحتياط في أنّ هذا الطعام الموجود في السوق أو هذا اللحم الموجود لدى القصاب هل هو مذبوح بالطريقة الشرعية أم لا؟ فإذا أراد العمل بالاحتياط فلا ينبغي له أن يشتري هذا اللحم، أو بالنسبة إلى اللباس في السوق حيث يحتمل أنّ هذا القماش من جملة الأموال المسروقة أو الغصبية أو لم يؤد صاحبه خمسه، فالتصرف في هذا اللباس وشراءه لا يجوز حينئذٍ، فلو أراد العمل بالاحتياط فيجب عليه اجتناب هذا اللباس والقماش، وهكذا بالنسبة لسائر الموارد كالخبز واللبن وغيرها فإنّ المكلّف يحتمل مثلاً أنّ هذا اللبن نجس، فإذا أراد العمل بالاحتياط فيجب عليه اجتنابه وهذا الاحتياط والاجتناب إمّا أن يكون حرجيا عليه أو مخلاً بالحياة، ونعلم أنّ الشارع قد رفع العسر والحرج عن عباده ولا يريد لهم اخلال النظام في المجتمع بأن يعيش الناس في حالة الإرباك والخلل في معاشهم ومعادهم، فمثل هذا العمل منهي من الشارع.

وأمّا العمل بأصالة البراءة فإنّ يستلزم الخروج من الدين، فإذا شككت بأنّ هذا الماء نجس أم لا، فمقتضى أصالة الطهارة أنّه طاهر وليس بنجس، وإذا شككت بأنّ هذا العمل واجب أو غير واجب، فهناك شك في التكليف والأصل عدم الوجوب وهكذا في جميع الموارد الأخرى، فإذا أرادنا العمل بأصالة البراءة في جميع هذه الموارد فيستلزم الحروج من الدين.

إذن فالمقدّمة الرابعة تقرر أنّ العمل بالاحتياط غير ممكن لانّه إمّا أن يكون حرجيا أو مخلاًّ بالمعاش والمعاد، ولا يجوز العمل بأصالة البراءة اطلاقا لأنّه يستلزم الخروج من الدين.

المقدّمة الخامسة: إذا عمل المكلّف في هذه الموارد بالشك والوهم بالحكم الشرعي، أي أنّه عمل بالحكم المشكوك أو المتوهم لا المظنون فإنّه ترجيح للمرجوح على الراجح وهو قبيح عقلاً.

وعندما تتمّ هذه المقدمات الخمسة للإنسداد على المكلّف فحينئذٌٍ يتعين عليه عقلاً العمل بالظنّ الانسدادي في مورد الأحكام، فإذا حصل لديه ظنّ من خبر الواحد أو ظن مطلق من ظاهر الكتاب أو من الإجماع المنقول أو من الشهرة أو من غيرها من الأسباب الأخرى فإنّ العقل يحكم هنا وبسبب انسداد جميع الأبواب الشرعية للتوصل إلى الحكم الشرعي فلا سبيل أمامك سوى العمل بظنّك.

وطبعا يمكن القول أنّ مقدمات الانسداد ربّما تكون تامة للمجتهد نفسه، ولكنّ مقدمات الانسداد للمقلِّد غير تامة وذلك مع وجود المجتهد الانفتاحي، وعندما يكون هناك مجتهدٌ انفتاحي فإنّ باب العلمي غير مسدود على المقلِّد لأمكان تقليد المجتهد الانفتاحي، ودليل الانسداد لا يدلّ حينئذٍ على جواز تقليد الانسدادي.

أضف إلى ذلك أنّ المقلِّد حتى لو كان الاحتياط حرجيا بالنسبة له فإنّ الاحتياط ممكن ولا يصل إلى مرتبة الاخلال بنظام المعاش والمعاد، وإلاّ فلو وصل الاحتياط إلى درجة الاخلال فإنّ مثل هذا الاحتياط منهي عنه شرعا، ولكن في ذات الوقت ومع وجود الحرج في الاحتياط إلاّ أنّه لا تصل النوبة إلى تقليد المجتهد الانسدادي، لأنّه ذكرنا في المقدمة الرابعة بأنّ أحد مقدمات الانسداد هو أن لا يكون العمل بالاحتياط ممكنا للمقلِّد، وهذا يعني أنّه إذا كان العمل بالاحتياط ممكنا فلا تصل النوبة إلى القول بجواز تقليد المجتهد الانسدادي.

النتيجة: إنّ أدلة جواز التقليد بأجمعها من الآيات والروايات وسيرة العقلاء وكذلك الأدلة الخارجية الأخرى من الإجماع ونفس دليل الانسداد، قاصرة عن إثبات جواز تقليد المجتهد الانسدادي ولا يمكن القول على أساس هذه الأدلة بجواز تقليد المجتهد الانسدادي كما يستفاد ذلك من كلام الآخوند الخراساني رحمه‏الله .

إلاّ أنّ الالتزام العملي بكلام الآخوند في مقام الفتوى مشكل جدّا ولا يمكن القول بأنّ هذه الأدلة لا تشمل جواز تقليد المجتهد الانسدادي، مثلاً الميرزا القمي بمكانته العلمية العظيمة من القائلين بالانسداد، فهل يمكن القول إنّ الميرزا القمي مع تبحره الواسع في علم الأصول والفقه والعلوم الأخرى أنّه جاهل وأنّ أدلة جواز التقليد لا تشمل تقليده ولا يجوز رجوع العوام إليه وأنّ تقليده من قبيل رجوع الجاهل إلى الجاهل، وأنّ المجتهد الانفتاحي الذي يستنبط مسائل معدودة هو عالم وبالتالي يجوز تقليد العوام له وأنّ أدلة جواز التقليد تشمله لأنّ تقليده يكون من باب رجوع الجاهل إلى العالم. فمثل هذا الكلام لا يمكن الالتزام به، ومن هنا فإنّ المرحوم الكمباني يقول بجواز تقليد المجتهد الانسدادي.

نظرية المرحوم الكمباني رحمه ‏الله :

ويذكر المرحوم الكمباني في هذا المجال كلام على خلاف كلام الآخوند رحمه‏الله ، يقول: إنّ المجتهد الانسدادي عالم بالأحكام ويجوز تقليده. ودليله على هذا المدعى أنّ العلم أعم من المعرفة بالحكم الواقعي وقيام الحجّة عليه، كما ورد في لسان الروايات والنصوص، من أنّ المعرفة بالأحكام ترتبط بظاهر النصوص والروايات لا بفهم الواقع، يقول الإمام عليه‏ السلام : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا»، إذن ليس هناك بحسب المتعارف إلاّ الاستفادة من ظاهر الكتاب وظاهر كلامهم عليهم ‏السلام مع وضوح أنّ حجّية الظاهر ببناء العرف ليس بمعنى جعل الحكم المماثل حتى يتحقق هناك العلم الحقيقي بالحكم الفعلي (15) .

وهذا يعني أنّكم إذا عرفتم بمعاني النصوص الواردة فإنّكم أفقه الناس وأعلم الناس وظاهر هذا الكلام يدلّ عل المعذرية والمنجزية في مقام احتجاج المولى والعبد لا أنّه يدلّ على كشف الواقع، فالشخص الذي يعلم بالحكم الإلهي من ظاهر الكتاب والسنّة فإنّ كان مطابقا للواقع فهو منجز في حقّه وإن كان مخالفا للواقع فهو معذر.

النتيجة: إنّ الروايات الشريفة تدلّ على كفاية فهم ظاهر الكلام في مقام الاحتجاج بين الموالي والعبيد، ومعناه أنّ الإنسان إذا استفاد حكما من ظاهر كلام المولى وكان هذا الحكم خلاف الواقع فإنّه بإمكانه في مقام الاحتجاج مع المولى أن يستدل بفهمه لظاهر كلام المولى فإن كان مخالفا للواقع فهو معذر له لأنّه عمل بظاهر كلام المولى، وهذا العمل يعتبر عملاً بالحجّة من المولى، وظاهر الروايات لا يدلّ على كشف الواقع حتى يقال إنّ هذه الروايات إنّما تكون حجّة لأنّها كاشفة عن الواقع. لأنّ الدليل على حجّية الروايات وحجيّة الظاهر هو سيرة العقلاء، وسيرة العقلاء في مورد الأخبار والروايات لا تكون من باب جعل الحكم المماثل للواقع حتى يقال إنّ سيرة العقلاء ترى حجيّة ظاهر كلام المولى من باب جعل الحكم المماثل للواقع وأنّ المكلّف حينئذٍ سيكون عالما بالواقع، كلاّ فإنّ سيرة العقلاء ترى بأنّ ظاهر كلام المولى حجّة من باب الاحتجاج والعذر عند المولى والشخص الذي لا يمتثل ظاهر كلام المولى فإنّه عقلاً يستحق المؤاخذة والعقوبة كما أنّ المقرّ يحاكم بظاهر إقراره، وكذلك فإنّ أدلة جواز التقليد فآية السوءال لا تدلُّ على أنّه يجب عليكم سوءال أهل الذكر لكي تعلموا بالواقع، فالآية الشريفة تدلُّ على وجوب السوءال فيما لا تعلمون لتحصلوا على العلم بالجواب من أهل الذكر.

على أيّه الحال فالمستفاد من سيرة العقلاء والآيات والروايات ـ على حدّ تعبير المرحوم الكمباني ـ أنّ الشخص الذي يستوحي الحكم الشرعي من هذه الأدلة فهو عالم بالحجّة الإلهيّة، والعالم بالحجّة الإلهيّة يملك الحجّة في ذلك الحكم وعالم بالحكم وفقيه، وعندما يكون عالما بالحجّة وعالما بالحكم فيجوز تقليده، والمجتهد الانسدادي عالم بالحجّة وعالم بظاهر الآيات والروايات ولذلك يجوز تقليده.

نقد ومناقشة

أوّلاً: الإشكال الوارد على هذا الكلام أنّ سيرة العقلاء لا تدلُّ على جعل الحكم المماثل في مورد ظاهر الكلام والعمل بخبر الثقة وبالتالي لا تفضي إلى العلم بالأحكام، أمّا قوله بأن سيرة العقلاء، بالنسبة للفهم ظاهر الكلام وبالنسبة لدلالة خبر الثقة، تدلُّ على جعل المنجزية والمعذرية ولا تدلُّ على الكاشفية والطريقية على الواقع، فغير صحيح، بل إنّ العقلاء في مورد الظواهر وخبر الثقة يعتبرون الكاشفية والطريقية للواقع، فظاهر كلام الإمام عندما يقول : تجب صلاة الجمعة في زمان الغيبة، كاشف عن الواقع وطريق للكشف عن الحكم الواقعي، وعندما تقوم سيرة العقلاء في مورد ظاهر كلام المولى وفي خبر الثقة على جعل الكاشفية والطريقية للواقع فحينئذٍ يمكن القول بصحّة الاحتجاج والموءاخذة.

ثانياً: بالنسبة للعمل بظاهر كلام المولى والعمل بأخبار الثقة فإنّ ارتكاز العقلاء لا يقوم على أساس التعبد المحضّ، ففي هذه الموارد يكون ارتكاز العقلاء نابعاً من الفطرة العقلائية كما في مورد قبح العقاب بلا بيان وأن صحّة العقاب يتوقف على صحّة وجود البيان ووجود الحجّة والبيان من المولى للعبد قبل الموءاخذة والاحتجاج، ثمّ إنّ العبد إذا خالف ذلك البيان فتكون موءاخذته صحيحة كما تشير إلى ذلك الآية الشريفة : «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (16) والشاهد على أنّ ظواهر كلام المولى تدلُّ على الكاشفية والطريقية للواقع ما ورد في الروايات حيث يسأل الراوي الإمام : هل يونس بن عبدالرحمن ثقة حتّى آخذ منه معالم ديني ؟

فيجيب الإمام : ثقة، فخذ منه معالم دينك. ومعنى الأخذ هنا يدلُّ على أنّ الكلام كاشف عن الواقع، لا أنّ معنى هذا الكلام أنّ وجوب أخذ معالم الدين من يونس بن عبدالرحمن الثقة يعني صحّة الاحتجاج والموءاخذة فقط، وكذلك بالنسبة للروايات الدالّة على جواز التقليد مثل مقبولة عمر بن حنظلة، بالرغم من أن هذه الرواية واردة في مورد القضاء كما سيأتي البحث عن ذلك في محله وأنّ التمسك بجواز التقليد بهذه الرواية مشكل، فإنّ هذه الرواية تقول : «عن عمر بن حنظلة عن أبي عبداللّه‏ عليه‏ السلام ... قال : «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخف بحكم اللّه‏ وعلينا ردٌّ...» (17) .

وكذلك يسأل الراوي الإمام عليه‏ السلام عن الحكمين المتعارضيين في واقعة واحدة ويقول: فما تكليفنا ؟ يقول الإمام : «من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا فأني جعلته عليكم حاكماً» (18) ، فهذا الكلام من الإمام يدلُّ على أنّ الكلام الناظر للحلال والحرام وللحكم الشرعي طريق إلى الواقع وطريق للكشف عن الحكم الإلهي لا أنّ مفاده أن رجوع المكلّف إليه من أجل صحّة الاحتجاج وبالتالي عدم الموءاخذة.

مضافاً إلى أنّ كلام المرحوم الكمباني مخالف لظاهر آية السوءال، فالآية تقول : «فَسْـألُوآاْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ» (19) حيث توجد ثلاثة عناصر في هذه الآية : السائل، المسوءول عنه، المسوءول. فالسائل هو الراوي، أي الشخص الجاهل بالأحكام، والمسوءول عنه الحكم، سواءاً كان الحكم حكماً شرعياً أو موضوعاً خارجياً وواقعة معيّنة.

وأمّا المسوؤل فهو الإمام، أو على حدّ تعبير البعض ومن خلال التأويل وتنقيح المناط أن الآية الشريفة تشمل العالم غير المعصوم أيضاً وتقول أنّ المسوءول هو العالم، إذن فالسائل هو الراوي والمسوءول عنه هو الحكم والواقعة، والمسوءول هو العالم، والآية المباركة تدلُّ بظاهرها على أنكم يجب عليكم أن تسألوا عن الاُمور التي لا تعلمون بها من العالم لكي تحصلوا على العلم بالمسوءول عنه، فالآية لا تدلّ على لزوم السوءال لمجرّد عدم الموءاخذة وصحة الاحتجاج دون الكشف والعلم بالواقع.

وكذلك فإنّ سياق الآية الشريفة وارد في مسألة نبوة نبي الإسلام صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله حيث تقرر أنّه يجب على عوام اليهود وعوام أهل الكتاب إذا لم يتعرفوا على رسالة نبي الإسلام صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله أن يسألوا من علماؤهم عن ذلك، وطبعاً فإنّ
هذا الكلام محل تأمل وعليكم بالرجوع إلى المجلد الثاني من مقدّمة التفسير التحليلي للقرآن الكريم حيث ذكرنا هناك بالنسبة للآية الشريفة إنّ مصداق أهل الذكر منحصر بالأئمّة المعصومين عليهم‏ السلام ، لأنّ معنى الذكر لا يعني العلم، سواء في اللغة أو في الاصطلاح والاستدلال، فمعنى العلم يختلف عن معنى الذكر، والآية الكريمة لم تقل : فسألوا أهل العلم، حتّى يمكن الاستدلال في هذه الآية الشريفة لإثبات حجيّة قول الفقيه الذي هو مصداق أهل العلم. بل قالت: «فَسْـألُوآاْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ» ومصداق أهل الذكر في الآية الشريفة منحصر بالأئمّة المعصومين عليهم‏السلام ، ولا تنطبق على غير المعصوم. المهم أنّ البعض ذهب في تفسيره لهذه الآية المباركة بأنّ المقصود منها أهل الكتاب ووجوب السوءال من علمائهم عن نبي الإسلام صلى ‏الله ‏عليه‏ و‏آله كما ورد ذكره في التوراة والانجيل، فعلى فرض أنّ شأن نزول الآية الشريفة هو ما يتصل بالنبوة والسوءال من علماء اليهود الذين يجدون علامات النبي في التوراة والانجيل، وبالتالي نبيّن منهم علائم النبوة، فعلى هذا الأساس فإنّ الآية المباركة لا تدلُّ لا بحسب الظاهر ولا بحسب السياق على جعل المعذرية وصحّة الاحتجاج، إذن فالسوءال في الآية الشريفة: «فَسْـألُوآاْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ» يعتبر مقدّمة للعلم بالحكم الإلهي لا أن الآية الشريفة تدلُّ على أنّ السوءال من أجل جعل المنجزية والمعذرية بالواقع، وهكذا نرى أنّ كلام المرحوم الكمباني يواجه هذا النقد والمناقشة في المقام.

إلى هنا رأينا أن كلام المرحوم الآخوند صاحب الكفاية باقٍ على قوته وأن تقليد المجتهد الانسدادي غير جائز.

وكذلك ما ورد في الرواية الصحيحة الواردة في اُصول الكافي عن أبي جعفر الإمام محمّد الباقر عليه ‏السلام حيث يقول للراوي: «أنّ عليكم التوقف فيما لاتعلمون به والرجوع إلينا لتعلموا بالحكم الإلهي وتعرفوا الحقّ».

المهم أنّ المجتهد يجب عليه استفراغ الوسع في فهم واستنباط الحكم الشرعي من أدلته ويحكم بمقتضى الدليل والحجّة، وحينئذٍ إذا كنّا نستند في أدلة جواز التقليد إلى سيرة العقلاء، فإنّ مقتضى هذه السيرة في مورد الأحكام هو تحصيل الحجّة، من قبيل موارد وظائف المولى والعبيد حيث يقول المولى للعبد: إنني أقمت عليك الحجّة وبيّنت لك الحكم فلماذا عصيت الأمر ؟ والعبد بدوره يحتجّ عند المولى بأنه عمل بالحجّة الواصلة من المولى فلو كانت مخالفة للواقع فهو معذور لأنّ المولى لم يبيّن الواقع وما نحن فيه من هذا القبيل، فبالنسبة للتقليد فإنّ سيرة العقلاء تقرر الأخذ بالحجّة ممّن يكون أدرى وأقوى على إقامة الحجّة.

النتيجة: أنّ وظيفة المجتهد، العمل والحكم بمقتضى الدليل والحجّة، ووظيفة المقلِّد الأخذ بالحجّة من الأقوى والأعلم، سواءاً كان هذا الأقوى والأعلم انفتاحياً أو انسدادياً، وأمّا في صورة عدم كون المجتهد أعلماً في حال اختلاف المجتهدين ووتساويهم في الحكم والعلم فهنا مورد التخيير بالإجماع، وان لم يكن هناك إجماع على هذه المسألة فإنّ مقتضى القاعدة هو الاحتياط وان يعمل المقلِّد بالاحتياط في هذا المورد.

وأمّا بالنسبة للأدلة اللفظية على جواز التقليد كآية النفر وآية السوءال والروايات الواردة في هذا الشأن فإنّ موضوع جواز التقليد من الأدلة اللفظية هو العارف والفقيه بالأحكام والفقيه بمعالم الدين، فهذه العناوين، أي عنوان العالم بالأحكام والفقيه بمعالم الدين لا تنطبق على المجتهد الانسدادي، كما ذكر ذلك المرحوم الآخوند في كلامه وذكر ذلك أيضاً في مصباح الاُصول.

وإشكال الكمباني رحمه ‏الله على الآخوند رحمه‏ الله هو قوله: إنّ اطلاق العالم والفقيه على الشخص الواجد للملكة منجزٌ ومعذر في مورد الأحكام وينطبق عليه. يردُّ عليه : هناك فرق بين العالم بالحجّة على الحكم الشرعي وبين العارف والعالم بنفس الحكم الشرعي، والمجتهد الانسدادي عالم بالحجّة على الحكم لا أنّه عالم بالحكم، لأنّ المجتهد الانسدادي يرى بأن باب العلم والعلمي في الأحكام مسدود، وحينئذٍ لا يمكن اطلاق كلمة العارف والعالم بالحكم على العالم بالحجّة على الحكم، وعلى هذا الأساس إذا قلنا بأنّ الظنّ الانسدادي حجّة من باب الحكومة كما هو معنى حجيّة الظنّ من باب الحكومة فالعالم الانسدادي وطبقا لقوله تعالى: «لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوآاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (20) يكون عالم بالجحة على أحكام الدين ولكن هذا المتفقه والمنذر ليس فقيهاً في الدين نفسه، ولا يصدق على المجتهد الانسدادي عنوان العارف بالدين وبأحكام الدين، غاية الأمر أنّه معذور عقلاً على أساس تمامية مقدمات الانسداد، إمّا طبقاً لحكومة العقل أو طبقاً لمبنى الكشف.

إذن فبمقتضى الأدلة اللفظية للتقليد فإنّ تقليد المجتهد الانسدادي مشكل، وغاية ما يمكن قوله في هذا المجال أنّ الأدلة اللفظية كآية النفر، لا مفهوم لها حيث تقرر الآية وجوب قبول قول الفقيه، ولكن هذا لا يدلّ على المفهوم وهو نفي جواز التقليد من غير العالم بالحكم، فمثل هذا المفهوم لا يمكن استنباطه من آية النفر حتّى يقال بأن هذه الآية تدلُّ بمفهومها على الردع عن سيرة العقلاء في مورد التقليد.

النتيجة: أوّلاً: بمقتضى السيرة العقلائية يجوز تقليد المجتهد الانسدادي، لأنّ مقتضى سيرة العقلاء لزوم العمل بالحجّة الإلهيّة، وأنّ الحجّة منجزة ومعذرة عند المولى سواءً كانت مطابقة للواقع أم غير مطابقة، ومن هذه الجهة فإنّ الأدلة اللفظية لجواز التقليد لا مفهوم لها في عدم جواز تقليد غير الفقيه الانفتاحي فالأدلة اللفظية مطلقة، وعلى هذا الأساس يجوز تقليد المجتهد الانسدادي وفقاً للقاعدة وذلك بحكم سيرة العقلاء، غاية الأمر مع حفظ الخصوصيات والشروط المذكورة في جواز تقليد المجتهد الانسدادي ومن هذه الشروط أن لا تكون فتوى المجتهد الانسدادي مخالفة لفتوى الأعلم هذا أوّلاً.

ثانياً: إنّ المرحوم الآخوند صاحب الكفاية واتباعه ينكرون جواز تقليد المجتهد الانسدادي ولا يرون نفوذ قضائه أيضاً إلاّ في حدود العمل بمقتضى الأدلة القطعية للأحكام كالخبر المتواتر أو خبر الواحد القطعي السند المعصوم، أي قطعي الصدور عن المعصوم وكذلك إذا كان قضاوءه مطابقاً للاجماعات القطعية وفي هذه الصورة يكون قضاوءه نافذاً، ولاشك أنّ مسألة القضاء هي من جهة أشد اشكالية من مسألة صدور الفتوى وجواز التقليد، لأنّه ـ كما سيأتي لاحقاً إن شاء اللّه‏ ـ يجوز تقليد المجتهد المتجزي ولكن قضاء المجتهد المتجزي غير نافذ، لأنّه بمقتضى رواية مقبولة عمر بن حنظلة الواردة في باب نفوذ القضاء أنّ الإمام قال : «من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا فأني جعلته عليكم حاكماً» (21) فكلمة «أحكامنا» جمع مضاف والجمع المضاف يفيد العموم، وعليه فإنّ القاضي يحتاج إلى معرفة جميع الأحكام أو على الأقل معرفة الأحكام المعتد بها فعلاً في مورد القضاء، ومعرفة جميع الأحكام فعلاً في باب القضاء لا يصدق على المجتهد المتجزي، لأنّ المتجزي يعلم ببعض الأحكام لا جميعها، ولذلك لا يصدق عليه عنوان : «من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا». ولذلك لا تكون قضاوته معتبرة ومشروعة ولا تكون نافذة، وفي ذات الوقت فإنّ قضاء المتجزي غير نافذ بحكم الاعتبار الشرعي أيضاً، ولكن المرحوم الآخوند في مورد قضاء المتجزي يقول : إذا كان قضاوءه بمقتضى الأدلة القطعية من الخبر المتواتر والخبر القطعي السند والصدور عن المعصوم والاجماعات القطعية فمثل هذا القضاء للمتجزي نافذ.

وعلى أساس نظر الآخوند فيما إذا حصل لديه في مورد القضاء علم بالحكم من أدلة الكتاب والسنّة والاجماعات فكيف يكون هذا الحكم والقضاء مقبولاً وكافياً من المتجزي ولا يكون كافياً من المجتهد الانسدادي بالنسبة لجواز الفتوى وجواز التقليد؟ لأنّ المجتهد الانسدادي لا يعمل بالظنّ في مورد وجود الدليل القطعي في الأحكام الإلهيّة كالخبر المتواتر والاجماع القطعي في المسألة والخبر القطعي الصدور عن الإمام، فمع وجود الأدلة القطعية لا يتحرك المجتهد الانسدادي للعمل بالظنّ، وإنّما يعمل بالظنّ فيما إذا عجز عن تحصيل الأدلة القطعية، وعليه في مورد جواز التقليد يكون الرجوع إلى المجتهد الانسدادي وتقليده كافياً  بطريق أولى، لأنّ ذلك يتفق من جهة مع سيرة العقلاء التي تعتبر من الأدلة القوية على جواز التقليد، والرجوع إلى الحجّة التي يحكم بها المجتهد الانسدادي في صورة عدم مخالفته لقول المجتهد الانفتاحي الأعلم، يكون حجّة، ومن جهة اُخرى أن ظاهر الأدلة اللفظية ساكتة في المقام ولا مفهوم لها على عدم جواز تقليد المجتهد الانسدادي.

التفصيل:

حاصل المطلب في مورد جواز تقليد المجتهد الانسدادي لزوم القول بالتفصيل، بمعنى أنّه إذا كان الدليل على جواز التقليد هو الأدلة اللفظية فلا يجوز تقليد الانسدادي، لأنّه يرى انسداد باب العلم والعلمي، ولا يصدق عليه حينئذٍ عنوان العارف بأحكامنا وعنوان الفقيه الوارد في لسان الأدلة، فالأدلة اللفظية لا تدلّ على جواز التقليد إذا كان موضوع جواز التقليد هو المجتهد الانسدادي لأنّه لا يعتبر فقيهاً في أحكام الدين وعارفاً في الشريعة، ولكن في نفس الوقت قلنا أنّ الأدلة اللفظية لا مفهوم لها في عدم جواز تقليد غير الانفتاحي، بل هي مطلقة.

وأمّا إذا كان دليل جواز التقليد، سيرة العقلاء، فتقليد الانسدادي جائز، لأنّ سيرة العقلاء في مورد المكلّف وفي مورد وظائف المولى والعبد تكتفي بالعمل بالحجّة الصادرة من المولى، وموضوع السيرة في المقام حجّة المولى فقط، وعلى هذا الأساس فإنّ المجتهد الانسدادي يعتبر عارفاً بحجّة المولى من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ رجوع المقلِّد للمجتهد الانسدادي يعتبر رجوعاً للحجّة من المولى، أعمّ من أن تكون هذه الحجّة صادرة من كلام المجتهد الانفتاحي أو من المجتهد الانسدادي.

النتيجة: القول بالتفصيل فيما يتصل بتقليد المجتهد الانسدادي، فإذا كان الدليل على جواز التقليد هو الأدلة اللفظية، فتقليد المجتهد الانسدادي مشكل، وإذا كان الدليل على جواز التقليد سيرة العقلاء، فلا اشكال حينئذٍ في تقليد المجتهد الانسدادي، لأنّ سيرة العقلاء في مورد الأحكام الإلهيّة أنّ وظائف العبد تجاهه هي العمل بالحجّة عند المولى، والمجتهد الانسدادي يملك الحجّة أيضاً في مورد الأحكام الشرعية، في الحجّة العقلية والحجّة الظنية بالأحكام، ولذلك يجوز الرجوع إلى المجتهد الانسدادي وتقليده بمقتضى سيرة العقلاء.

وهنا تأمل ذكره آية اللّه‏ الخوئي رحمه‏ الله (22) في مورد تقليد المجتهد الانفتاحي، فعلى مسلك التحقيق فإنّ الروايات والأخبار وكذلك ظواهر الكتاب تدلُّ كلّها على أنّ بيان الحكم الشرعي جعل الحجيّة مطلقة، أي في مورد يكون الحكم الذي يستنبطه المجتهد من ظاهر الكتاب وظاهر الروايات حجّة، فهذه الحجّة عبارة عن المنجزية والمعذرية للامارات والطرق الشرعية، وعندما يكون الأمر كذلك فبالنسبة للأمارات والطرق الشرعية المجعولة فإنّ المنجزية والمعذرية تكون لمن وجد خبر ثقة أو فهم الحكم من ظاهر الكتاب فإنّه واجد للحجّة وبالتالي لديه منجزية ومعذرية لا أنّه واجد للعلم بالأحكام.

وعلى ضوء ذلك لا يجوز تقليد المجتهد الانفتاحي فكيف الحال بتقليد المجتهد الانسدادي، لأنّه بالنسبة لظاهر الكتاب وبالنسبة لخبر الثقة فإنّ المجعول الشرعي هو المعذرية والمنجزية، والمجتهد الانفتاحي عالم بالحجّة الشرعية المنجزة والمعذرة شرعاً لا أنّه عالم بالحكم الشرعي.

ولكن قيل ذلك وقد طرح الآخوند رحمه‏الله هذا الإشكال والتوهم وأجاب عنه (23) بقوله : نعم إنّ المجعول على لسان الكتاب والسنّة ولسان الامارات هو الحجيّة، ولكن المراد من جواز تقليد المجتهد لا يعني أنّ المجتهد عالم بجميع الأحكام الشرعية فعلاً حتّى يقال في مورد الامارات والطرق أنّه غير عالم بالأحكام الشرعية، فالعالم بالحجّة عالم بالمنجزية والمعذرية، ولذلك لا تشمله أدلة رجوع الجاهل إلى العالم بالأحكام.

والمقصود أنّ العالم الانفتاحي في مورد إقامة الحجّة، عالم بموارد قيام الحجّة الشرعية، ولا نحتاج في مسألة جواز التقليد إلى أكثر من أن يكون المجتهد عالماً بإقامة الحجّة الشرعية ويرجع إليه العامي في هذه الموارد ويصدق عليه رجوع الجاهل إلى العالم لا رجوع الجاهل إلى الجاهل (24) . مثلاً من جملة موارد إقامة الحجّة، طهارة الماء أو نجاسته، ومن جملة موارد إقامة الحجّة نجاسة الخمر ونجاسة المسكر المائع، فلو قلنا بوجود الحجّة على حرمة ونجاسة الخمر والمائع المسكر وقيام الحجّة هذا يمثل حكماً شرعياً ففي مثل هذه الموارد فإنّ المجتهد الانفتاحي يعلم بأن اللّه‏ تعالى قال في كتابه الكريم : «وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُورًا» (25) وكذلك في مورد حرمة ونجاسة الخمر حيث يقيم الحجّة من قوله تعالى : «إِنَّمَا ا لْخَمْرُ وَا لْمَيْسِرُ وَالاْءَنصَابُ وَالاْءَزْلَـمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـنِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (26) ولكن المقلِّد لا يعلم بإقامة هذه الحجّة في هذه الموارد فيرجع هذا المقلِّد الجاهل إلى العالم الذي يقيم له الحجّة في هذا المورد، ويكون بذلك مشمولاً لأدلة جواز التقليد، وهكذا في باقي موارد قيام الحجّة على الأحكام.

إن قلت: إن أدلة جواز التقليد لا تقول برجوع الجاهل إلى العالم في موارد إقامة الحجّة، بل ارجاعه إلى العالم بالأحكام الشرعية والعالم بأحكام الدين، فإذا كان المجتهد الانفتاحي عالماً بموارد إقامة الحجّة فإنّه يكون صاحب حجّة ويكون قوله منجزاً، فإذا كان كذلك فهذا هو حال المجتهد الانسدادي أيضاً، بمعنى أنّ المجتهد الانسدادي في مورد الأحكام الشرعية يملك الحجّة وكذلك تكون مقدمات الانسداد حجّة أيضاً، إمّا حجّة عقلية على مستوى الحكومة، أو حجّة شرعية على مستوى الكشف، وإذا كان كذلك يكون تقليده من باب تقليد صاحب الحجّة وينطبق عليه رجوع الجاهل إلى العالم، إذن يجوز حينئذٍ تقليد المجتهد الانسدادي أيضاً، والحال إنّكم قلتم سابقا بعدم جواز تقليد المجتهد الانسدادي، لأنّه لا ينطبق عليه عنوان العارف بالأحكام والعالم بالأحكام، وعليه فإنّ جوابكم هذا مثير للعجب.

والجواب الذي أورده البعض على هذا الكلام، أنّ المجتهد الانسدادي على أساس الحكومة يكون ذا حجّة بحكم العقل لا أنّه ذو حجّة بحكم الشرع، أي أنّ المجتهد الانسدادي في صورة اكمال مقدمات الانسداد الخمسة يستنتج أنّ عقله هو الحاكم وأنّ وظيفته العمل بالظنّ بالأحكام، ولكنه في ذات الوقت ليس عالماً بجعل الحجّة الشرعية، والشخص العالم بمجعول الحجّة العقلية لا يصدق عليه عنوان العارف بالأحكام والعالم بالأحكام الشرعية، وعندما لا يملك المجتهد الانسدادي منجزاً ومعذراً شرعياً في مورد الأحكام فإنّه لا يصدق عليه عنوان العارف بالأحكام الشرعية ولا يكون تقليده من باب الرجوع إلى العالم.

وهناك اشكال آخر ذكره صاحب مصباح الاُصول في مورد أن لا تكون للمجتهد امارة شرعية على الأحكام، لا من ظاهر الكتاب ولا من خبر الثقة، مثلاً في مورد التدخين وهل هو حلال أم حرام ؟ فلا يوجد دليل من الكتاب ولا من روايات الثقاة في هذا المورد على حلية الحكم أو حرمته، وهنا يقع الشك للمجتهد في هذا المورد فيحكم المجتهد بأصل قبح العقاب بلا بيان ويفتي بجواز التدخين، إذن ففي مورد يكون دليل المجتهد أصلاً عقلياً، ففي هذه الصورة لا يكون هذا المجتهد عالماً بالحكم الشرعي بل عالما بالحكم العقلي، وعندما يكون عالماً بالحكم العقلي لا بالحكم الشرعي الواقعي أو الظاهري، فعليه يكون الرجوع إلى مثل هذا المجتهد وتقليده من باب رجوع الجاهل إلى الجاهل، لأنّه في هذه الموارد ليس عالماً بالأحكام الشرعية، بل يتبع حكم العقل في قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهذا العقل موجود لدى المقلِّد أيضاً حيث يدرك في مورد عدم وجود الدليل الشرعي بهذا الحكم العقلي، إذن إذا كان الدليل على الحكم أصلاً عقلياً لا امارة شرعية فهنا لا يجوز تقليد المجتهد الانفتاحي أيضاً لأنّه من باب رجوع الجاهل إلى الجاهل كما قلنا.

وقد أجيب عن هذا الإشكال في الكفاية (27) وقال : إنّ تقليد المجتهد في موارد الاُصول العقلية ليس تقليداً في الحكم الشرعي حتّى يقال أن هذا المجتهد جاهل بالحكم الشرعي، بل في موارد الاُصول العقلية يكون رجوع المقلِّد إلى المجتهد من أجل فهم موارد الاُصول العقلية لأنّ المجتهد في هذه الموارد من أهل الخبرة ويعلم متى وكيف يحكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان وفي أي مورد لا يرد هذا الأصل العقلي، وفي أي مورد تأتي أصالة التخيير العقلي وفي أي مورد تجري قاعدة الاشتغال العقلي، وفي أي مورد يتعارض الأصل العقلي بالبراءة العقلية مع البرائة الشرعية (رفع ما لا يعلمون) أو في أي مورد لا تتعارض البراءة العقلية مع البراءة الشرعية، ففي كلّ هذه الموارد المقلِّد جاهل، وأمّا المجتهد فهو عالم بهذه الموارد ويتم الرجوع إليه بلحاظ بيان موارد الاُصول العقلية، إذن فأدلة جواز التقليد وهي رجوع الجاهل إلى العالم تصدق في هذا المورد، لأنّه طبعا يكون من مصاديق رجوع الجاهل إلى العالم.

لكن جواب المرحوم الآخوند هذا ـ وأنّ المقلِّد في هذه الموارد يرجع إلى المجتهد لفهم موارد تشخيص الامارة وتشخيص الأصل العقلي ـ مورد تأمل واشكال.

فإذا كانت الحجّة للمجتهد الانفتاحي هي الأصل العقلي، فهنا لا يكون عالماً بالأحكام الشرعية بل يفتي بمقتضى حكم العقل، وفي هذا المورد لا يجوز تقليد المجتهد الانفتاحي فكيف الحال بالمجتهد الانسدادي ؟

النتيجة: في هذا المقام كلام ذكره صاحب مصباح الاُصول وكذلك المرحوم الآخوند وأنّه في هذه الموارد يكون رجوع المقلِّد إلى المجتهد من أجل تشخيص موارد العقل لا أنّ الرجوع يكون من أجل فهم الحكم الشرعي. ولكن كلام المرحوم الآخوند هنا وكذلك ما ورد في مصباح الاُصول يواجه اشكالاً وجديرا بالتأمل.

نقد ومناقشة

ذكرنا أنّ المرحوم الكمباني قال : إنّ الشارع المقدس يعتبر ظواهر الكتاب والسنّة حجّة من أجل صحّة موءاخذة العبد، فإذا عمل المكلّف بالظاهر ففي هذا المورد يكون عمله عملاً بالحجّة ولا يستحق العقاب والموءاخذة، ولكن إذا لم يعمل المكلّف بظاهر الكتاب وبظاهر خبر الثقة فإنّه يكون قد خالف حجّة المولى ويستحقّ العقاب والموءاخذة.

وقد اُشكل عليه بأنه في المرتبة السابقة على صحّة الموءاخذة وعدم صحتها يجب أن يعلم العبد بأمر المولى وحكمه وبيانه، وإلاّ فإذا لم يكن البيان الإلهي تاماً فتأتي قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والمقصود أنّ هذين الحكمين العقليين مقبولان: أحدهما قاعدة قبح العقاب بلا بيان، والحكم الآخر أنّ العقل يرى حسن العقاب مع البيان.

وعندما يكون العقاب مع البيان حسناً والعقاب بلا بيان قبيحاً، فيطرح هذا السوءال :ما هي حدود بيان المولى ومقداره ؟

الجواب: إن بيان المولى على أربعة أنحاء :

1 ـ البيان العقلي على نفس الواقع وهو عبارة عن العلم الوجداني بالحكم الواقعي، مثل موارد القطع، فالشخص الذي له علم وجداني بالواقع، أي أنّه يقطع يقيناً بأنّ الحكم الشرعي هو وجوب صلاة الظهر، ويقطع بوجدانه أن شرب الخمر حرام، فهذه من موارد البيان العقلي والعلم الوجداني بالواقع مضافاً إلى أنّها تبين حكماً شرعياً.

2 ـ البيان الشرعي للواقع مثل خبر الثقة وظواهر الكتاب، والسيرة العقلائية غير المردوعة على حكم من الأحكام، فهذه الاُمور لها كاشفية عن الواقع وتمثل بياناً شرعياً للحكم.

3 ـ البيان الشرعي بالوظيفة العملية تجاه الواقع، مثلاً في حالة الشك والتحير بالحكم الواقعي، فالشارع اعتبر الاُصول العملية حجّة من قبيل البراءة الشرعية وقال: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (28) ، (ورفع ما لا يعلمون) وأنّ الناس في سعة ما لا يعلمون وفي مورد الجهل بالواقع فإنّ الاُصول العملية تبين وظيفة المكلّف تجاه الواقع لا أنّها بيان للواقع نفسه، لأنّ البراءة ليست كاشفة عن الواقع بل مجرد بيان الوظيفة العملية الظاهرية للمكلّف في حالة التحير والشك.

4 ـ البيان العقلي على الوظيفة العملية تجاه الواقع، ففي مورد يحكم العقل بالاحتياط، فمثل هذا المورد لا يكون البيان العقلي ناظراً للواقع، ولكنه يبين الوظيفة من أجل حفظ الواقع وأنّ الاحتياط في مورد احتمال التكليف إنّما هو من أجل حفظ الواقع.

وبعد أن تبينت حدود بيان المولى عقلاً وشرعاً بهذه الأنحاء الأربعة : البيان العقلي للواقع كالعلم الوجداني بالواقع، البيان الشرعي للواقع كظواهر الكتاب والسنّة، البيان الشرعي للوظيفة العملية تجاه الواقع كالبراءة الشرعية، والبيان العقلي للوظيفة العملية تجاه الواقع كالاحتياط العقلي.

وحينئذٍ فإن قبح العقاب بلا بيان تعتبر حكماً عقلياً يجري في مورد لا يكون فيه بيان عقلي ولا بيان شرعي ولا بيان عقلي بالوظيفة العملية تجاه الواقع، ولا بيان شرعي بالوظيفة اتجاه الواقع، وإلاّ فإنّ هذه الأنحاء الأربعة من البيان بإمكانها إزاحة موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويكون كلُّ واحد منها بياناً، لأنّ موضوع القاعدة العقاب بلا بيان، ومع وجود البيان الشرعي للواقع أو البيان العقلي للواقع أو البيان العقلي للوظيفة العملية أو البيان الشرعي للوظيفة العملية فإنّ كلّ واحد منها يقول : أنا بيان فلا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وفي هذه الصورة لا تجري البراءة العقلية لأنّها بلا موضوع.

وهنا يقول المرحوم الآخوند : في مورد الأحكام العقلية التي يفتي فيها المجتهد طبقاً للأصل العقلي، فإنّ رجوع المقلِّد إلى المجتهد في هذه الموارد لتشخيص عدم الامارة الشرعية غير تام. لأنّ رجوع المقلِّد إلى المجتهد في هذه الموارد إنّما هو من أجل تشخيص الأمارات الأربعة المذكورة، وبعد رجوع المقلِّد إلى هذا المجتهد لتشخيص تلك الامارات وقيام المجتهد بنفي جميع الأقسام الأربعة فحينئذٍ لا يكون هناك علم وجداني ولا مقتضى الدليل الشرعي ولا مقتضى البراءة ولا مقتضى الاحتياط. ومن هنا فإنّ المقلِّد يتحرك للعمل بحكم العقل بالاستقلال وتطبيق الكبرى العقلية في قبح العقاب بلا بيان ويستخلص منها البرائة العقلية، غاية الأمر أن هذا الحكم العقلي المستقل إنّما يتم للمقلد بعد رجوعه للمجتهد لتشخيص موارد الإمارات، وبعد بيان المجتهد يحصل له العلم بذلك، وفي هذه الصورة يصدق مفهوم التقليد ورجوع الجاهل إلى الخبير.

النتيجة، كما أنّ المجتهد الانفتاحي يستطيع القول: أنّ التدخين في مورد الشكّ حرام أو غير حرام ويكون حكم هذه المسألة من جملة الموارد الأربعة أو لا يكون منها، فإنّ المجتهد الانسدادي يمكنه القول أيضاً : إنّ الحكم الشرعي في هذا المورد أو الحكم العقلي للعمل بالوظيفة هو هذا الحكم أو ذاك.

وعلى ضوء ذلك يتبين أن حصر المرحوم الآخوند وصاحب مصباح الاُصول الجواز في مورد تشخيص الاُصول العقلية برجوع المقلِّد إلى المجتهد الانفتاحي فقط، غير تام، لأنّ المجتهد الانسدادي أيضاً في هذا المورد يمكن الرجوع إليه ويمكنه بيان حكم العقل بالواقع على مقولة الانسداد على أساس الحكومة، فالمجتهد الانسدادي في ظرف الانسداد يمكنه القول : إنّ الشارع في هذا المورد لا بيان له للواقع، ولكنك أيّها المقلدِّ تملك بياناً عقلياً بالوظيفة العملية تجاه الواقع وأنّ هذه الوظيفة تستدعي الاطاعة الظنية في ظرف الانسداد، بمعنى أنّ المكلّف يجب عليه العمل في ظرف الانسداد كما يكون حاله في ظرف الانفتاح، وكما يكون علمه منجزاً ومعذراً في حال الانفتاح فكذلك يكون الظنّ في ظرف الانسداد للمكلّف فيجب عليه العمل به.

إذن فعندما يجوز الرجوع للمجتهد الانفتاحي لتشخيص بيان الشرع وتشخيص عدم البيان والوظيفة العملية، فكذلك يجوز الرجوع إلى المجتهد الانسدادي لتشخيص مورد قبح العقاب بلا بيان ومورد حسن العقاب مع البيان.

النتيجة: أنّ تقليد المجتهد الانسدادي جائز إذا كان هو الأعلم وذلك بنفس الدليل الذي قام على جواز تقليد المجتهد الانفتاحي الأعلم.

تنفيذ القضاء:

البحث الآخر في هذا الموضوع، نفوذ وعدم نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي، فالآخوند في الكفاية قائل في الجملة بجواز قضاء المجتهد الانسدادي ويقول : بالنسبة للأحكام التي يكون فيها باب العلم والعلمي مفتوحاً مثل موارد الاجماعات والمتواترات وضروريات الأحكام فالمجتهد الانسدادي له حقّ القضاء أيضاً (29) .

ودليله على هذا المدّعى مقبولة عمر بن حنظلة التي تقول : «من نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا وإذا حكم بحكمنا فقد جعلته عليكم حاكماً» وهذا المعنى يصدق في مورد المجتهد الانسدادي.

 مضافاً إلى أنّ المجتهد الانسدادي في الجملة عالم بالضروريات والإجماعات والمتواترات في الأحكام، وقد ورد في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة أنّ الإمام قال : «إذا حكم بحكمنا فقضاوءه صحيح».

بيان ذلك: بالنسبة لجملة «إذا حكم بحكمنا» هنا بيانان. أحدهما، أنّ المراد من هذه الجملة متعلق حكم القاضي، فإن حكم بحكم الأئمّة وحكم اللّه‏ فقضاوءه نافذ، أي أنّ ذلك القاضي العارف بأحكام الأئمّة ويحكم بذلك الحكم فيكون حكمه نافذاً.

البيان الآخر في معنى هذه الجملة هو أن قوله : إذا حكم بحكمنا فحكمه نافذ، لا باعتبار أنّ حكم القاضي حكم الإمام وحكم اللّه‏، بل بلحاظ أنّ هذا القاضي منصوب من قبل الإمام، ولذلك فالحكم الذي يحكم به هو حكم الإمام، والمرحوم الآخوند في الكفاية يرى نفوذ حكم وقضاء العالم الانسدادي بهذا المعنى ويقول : أمّا قولنا بأن حكم المجتهد الانسدادي في القضاء نافذ فليس بلحاظ أنّ متعلق حكمه هو حكم الإمام وحكم اللّه‏ تعالى بل بلحاظ أنّ المجتهد الانسدادي منصوب من قبل الإمام في منصب القضاء وبالتالي فإنّ حكمه سيكون حكم الإمام، والغالب يكون حكم القاضي في الشبهات الموضوعية، مثلاً يحكم القاضي بأن هذا المال لزيد أو لعمرو، أو أن هذا البستان والدار لزيد أو لعمرو وأمثال ذلك، ويعمل بقاعدة «البيّنة على المدّعي والحلف على من ادّعي عليه» ولا شكّ أنّ الحكم والقضاء في الموارد الجزئية هذه لا يعتبر حكم الإمام لأنّ الإمام يبين الأحكام الكلية الإلهيّة في الشبهات الحكمية. إذن فهذه قرينة على أنّ حكم القاضي يكون في مورد الشبهات الموضوعية والجزئية ويمكن القول : إنّ المراد من جملة «إذا حكم بحكمنا» أي أننا حسب الفرض نصبنا المجتهد الانسدادي أو الانفتاحي قاضياً، فإذا حكم بحكم معين فإنّه بمنزلة حكمنا لأنّه منصوب من قبلنا كما هو الحال في حكم والي المحلة أو المحافظ أو رئيس البلدية للمدينة، فحكمه بمثابة حكم رئيس الدولة، لأنّه منصوب من قبله لهذا المقام.

النتيجة: أنّ بيان المرحوم الآخوند في قوله بأن قضاء المجتهد الانسدادي نافذ فيما إذا كان باب العلم مفتوحاً مثل موارد الاجماعات والمتواترات والضروريات في الأحكام، ودليله على نفوذه صدق مفهوم رواية مقبولة عمر بن حنظلة وأنّه : «عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا وإذا حكم بحكمنا فقد جعلته عليكم حاكماً».

نقد ومناقشة:

أوّلاً: إن حكم القاضي لا يختصّ بالشبهات الموضوعية، فما أكثر الموارد التي يحكم فيها في الشبهات الحكمية، مثلاً: هل أنّ توصيات المريض في مرض الموت نافذة أم لا ؟ وهل أنّ هذه الوصية صحيحة أم لا ؟ فعندما يحكم القاضي فإنّه يحكم في الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية على السواء، والملاك في حكم القاضي هو قواعد باب القضاء وقواعد أحكام اللّه‏ حيث يقول رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه ‏و‏آله : «إنّما اقضي بينكم بالبيّنة والإيمان» (30) ، ولذلك فإن حكم القاضي يعتبر حكم الإمام وحكم اللّه‏ تبارك وتعالى، فعندما يحكم بأن هذه الأرض ملك لزيد وأنّ ذلك البستان ملك لعمر، فهذا القضاء وإن كان يدور في الشبهة الموضوعية ولكن بموازين وملاكات باب القضاء يحكم بمقتضى أدلة جواز القضاء، وعندما يقضي بمقتضى قواعد وأدلة جواز القضاء فإنّه قضاوءه وحكمه سيكون حكم اللّه‏ حقيقةً، وعلى هذا الأساس فإنّ متعلق حكم القاضي هو حكم اللّه‏ لا أن نقول: بما أنّه منصوب من قبل الإمام فحكمه حكم الإمام وحكم اللّه‏. فإذا قلنا بكلام الآخوند رحمه‏الله وأنّ القاضي بلحاظ كونه منصوباً من جانب الأئمّة يكون حكمه حكم الإمام فإنّ ذلك يستلزم المجاز وخلاف ظاهر الرواية، وحمل الرواية على خلاف الظاهر والمجاز يحتاج إلى قرينة.

لأنّ ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة في الواقعة في مورد حكم القاضي سواء كان القاضي انسدادياً أم انفتاحياً، وهذا الحكم والقضاء يكون بمقتضى قواعد باب القضاء، ومقتضى هذه القواعد هو توفر البيّنة والإيمان، وعندما يقضي ويحكم القاضي بمقتضى القواعد الشرعية فلا شكّ في أنّ حكمه سيكون حكم اللّه‏ وحكم الإمام عليه‏السلام ، فعندما يكون هذا البيت ملك لزيد أو أنّ ذلك البستان ملك لعمرو فيكون ذلك حكم اللّه‏ وحكم الإمام، ولا يلزم أن يكون حكم القاضي هذا حكم اللّه‏ بالمجاز والعناية والقول بأنه بسبب كونه منصوباً من قبل الإمام فإنّ حكمه حكم الإمام وحكم اللّه‏. إذن فقول المرحوم الآخوند بأنّ المجتهد الانسدادي ولكونه منصوبا من قبل الإمام فإنّ حكمه نافذ ويعتبر حكم اللّه‏ على سبيل المجاز، يحتاج إلى قرينة ولا توجد مثل هذه القرينة في هذا المورد، بل عندما يحكم القاضي بالموازين الشرعية فإنّ حكمه حقيقةً يكون حكم الإمام وحكم اللّه‏.

ثانياً: ربّما يكون لدى القاضي شبهة في مورد الشبهة الحكمية، مثلاً في مورد الميراث وهل أنّ هذا الميراث يخرج من الثلث أو من مجموع ما تركه الميّت ؟ أو بالنسبة لتوصيات المريض في مرض الموت فلو أوصى بأن يكون هذا البستان مدرسة أو بأن يعطى هذا المال للشخص الفلاني وأمثال ذلك، فهل توصيات المريض هذه تخرج من أصل التركة أو من ثلث التركة ؟ هنا يقع القاضي في شبهة، فإذا كان هذا القاضي انسدادياً وحكم في المسألة فإنّ حكمه لا يكون حكم اللّه‏، لأنّه ليس له علم بالحكم ولا علمي بالحكم، لأنّ باب العلم والعلمي مسدود أمامه، وعليه فحكم المجتهد الانسدادي في الشبهة الحكمية غير نافذ.

نعم، إذا اخترنا مسلك المرحوم الكمباني الذي تقدّم فيما سبق من جواز فتوى الانسدادي وأنّ المجتهد الانسدادي كالمجتهد الانفتاحي عارف وعالم بالأحكام فسيكون قضاوءه نافذا، أو على مسلك المرحوم الآخوند الذي يقول : إن قضاء المجتهد الانسدادي نافذ لأنّه منصوب من قبل الإمام عليه ‏السلام ، وبسبب هذا النصب يقضي هذا المجتهد بالحكم وبالتالي يكون قضاوءه وحكمه حكم اللّه‏ وحكم الإمام المعصوم عليه‏السلام ، ولكن قلنا إنّ بيان المرحوم الكمباني مشكل ومحل تأمل، وكذلك بيان المرحوم الآخوند فإنّه خلاف ظاهر الرواية المقبولة.

وأمّا إذا كان القاضي انفتاحياً ويحكم بالشبهات الحكمية فحكمه نافذ، لأنّه عالم بالأحكام الشرعية، إمّا بالعلم الوجداني أو بالعلم بالحكم الشرعي بمقتضى خبر الثقة أو بمقتضى الاُصول العملية، وفي مورد الامارة وخبر الثقة يكون لدينا جعل للمنجزية، وفي مورد الاُصول العملية جعل للحكم الظاهري، فعندما يحكم القاضي في مورد الامارات والأصل العملي فسيكون منجزا وجعلاً للحكم الظاهري، وحينئذٍ يحكم بمقتضى العلمي وبمقتضى الامارة والاُصول العملية ويصدق عليه أنّه «حكم بحكمنا» ويكون حكمه نافذاً.

النتيجة: إنّ قضاء المجتهد الانسدادي غير نافذ إلاّ قلنا بمسلك المرحوم الكمباني الذي يقول : إنّ المجتهد الانسدادي عالم وعارف بالأحكام الإلهيّة وعالم بالحجّة، فإذا قلنا بذلك فإنّ حكمه نافذ. وكذلك على مسلك المرحوم الآخوند في الشبهة الموضوعية، وكذلك في الشبهة الحكمية حيث يقول بنفوذ حكم المجتهد الانسدادي، لأنّه في هذا المورد يكون عالماً بضروريات الأحكام ويصدق عليه «من عرف أحكامنا» وكذلك «إذا حكم بحكمنا» حيث يكون منصوباً من قبل الإمام، ولو أنّ متعلق حكمه لا يكون حكم اللّه‏ وحكم الإمام، ولكن لأنّه منصوب من قبل الإمام فيكون حكمه حكم اللّه‏ وحكم الإمام ويكون نافذاً.

وكذلك اذا قلنا بأن مستند حكم القاضي في باب القضاء رواية ابي‌خديجة حيث يصدق على القاضي أنّه : «يعلم شيئاً من قضايانا» وفي نسخة اُخرى «قضانا» بمعنى أنّ القاضي إذا علم بعض أحكامنا القضائية وحكم بها فإنّ حكمه نافذ.

ولكن جميع هذه الاُمور الثلاثة محل تأمل. فعندما لا يكون للمجتهد الانسدادي علم وعلمي في الحكم الشرعي فكيف يقضي في مورد الأحكام الشرعية في الشبهة الحكمية ؟

وقد اُجيب عن هذه الشبهة بثلاثة أنحاء :

أوّلاً: ما ذكره المرحوم الآخوند من أنّ القاضي، سواءً كان انفتاحياً أم انسدادياً، منصوب من قبل الإمام، ولذلك فحكمه حكم اللّه‏ ويكون نافذاً بمقتضى قوله «إذا حكم بحكمنا»، وطبعاً فإنّ هذا الكلام مخالف لظاهر الروايات، فظاهر مقبولة عمر ابن حنظلة في مورد القضاء يدلُّ على أن حكم القاضي هو حكم اللّه‏ حقيقةً، لأنّه عمل بالموازين والقواعد الواردة في باب القضاء وهي «البيّنة على المدّعي والحلف على من ادّعي عليه»وقال النبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله : «إنّما اقضي بينكم بالبيّنة والإيمان» فالقاضي لو كان انسدادياً فعندما يقضي ويحكم بمقتضى الموازين والمقررات الواردة في القضاء فإنّ حكمه يكون حكم اللّه‏ حقيقةً لا أنّه حكمه حكم اللّه‏ على سبيل المجاز، فالمجاز يحتاج إلى قرينة.

الجواب الثاني: ما ذكره المرحوم الكمباني وقد تقدّم سابقاً في بحث جواز وعدم جواز افتاء المجتهد الانسدادي حيث قال : إنّ المجتهد الانسدادي ولو لم يكن له علم وعلمي بالحكم نفسه، ولكنه يملك العلم بالحجّة على الحكم وحاله حال المجتهد الانفتاحي ولو كانت الحجّة عقلية على سبيل الحكومة. وعندما يكون لديه علم بالحجّة يكون مصداقاً لمن «عرف أحكامنا ونظرنا في حلالنا وحرامنا» وبالتالي يكون حكمه نافذاً.

وقد اُجيب على هذا الكلام بأنّ الحجّة على الحكم غير المعرفة بالحكم، وقد ورد في مقبولة عمر بن حنظلة جواز القضاء المبتني على المعرفة بالحلال والحرام، حيث يقول الإمام عليه‏ السلام : «من كان عارفاً بالحكم الإلهي، فقد جعلته عليكم حاكماً» وعليه فإنّ العارف بالحكم الشرعي هو الذي له حقّ القضاء لا العارف بالحجّة على الحكم.

الجواب الثالث: أن يقال إنّ مستند ومدرك عمل القاضي في باب القضاء رواية أبي خديجة المعتبرة، وهي لا تقرر لزوم أن يكون حكم القاضي بمضمون «إذا حكم بحكمنا» هو مفاد مقبولة عمر بن حنظلة، والرواية هي : محمّد بن علي بن الحسين باسناده عن أحمد بن عائذ عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال قال أبو عبداللّه‏ عليه‏ السلام جعفر بن محمّد الصادق عليه ‏السلام: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه» (31) .

فالمجتهد الانسدادي يعتبر من مصاديق «يعلم شيئاً من قضايانا» يكون قضاوءه نافذاً، وطبعاً فهذا الوجه أيضاً يمكن الإشكال عليه ومناقشته، لأنّ مفهوم مقبولة عمر بن حنظلة يتعارض مع منطوق معتبرة أبي خديجة، فمفهوم مقبولة عمر بن حنظلة هو أنّ الشخص العارف بأحكامنا والناظر بحلالنا وحرامنا، إذا حكم بحكمنا، فله حقّ القضاء، ويمكن القول : إنّ هذا الكلام ظاهر في المجتهد الانفتاحي وأنّ العالم الانسدادي لا يصدق على حكمه أنّه حكم بحكمنا، لأنّ باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعية مسدود أمامه فلا علم ولا علمي له بالحكم الشرعي، ولكن بلحاظ كونه منصوباً من قبل الإمام المعصوم ولذلك فإنّ حكمه حكم الإمام المعصوم وحكم اللّه‏.

وأمّا منطوق معتبرة أبي خديجة فتقول : من يعلم شيئاً من قضايانا فإن جعلته قاضياً. وهذا المنطوق مطلق ويشمل المجتهد الانفتاحي والمجتهد الانسدادي على السواء.

النتيجة: بمقتضى منطوق معتبرة أبي خديجة فإنّ قضاء المجتهد الانسدادي نافذ، لأنّ هذا المنطوق عام ومطلق ويقول : يعلم شيئاً من قضايانا، وهذا الكلام شامل للقاضي الانفتاحي والقاضي الانسدادي أيضاً، أمّا مفهوم مقبولة عمر بن حنظلة فلا يشمل القاضي الانسدادي، لأنّ هذه المقبولة تقول : إنّ قضاء القاضي إنما يكون نافذاً فيما إذا حكم بحكمنا، وأمّا القاضي الانسدادي فلا يحكم بحكمنا، لأنّ باب العلم والعلمي للأحكام مسدود أمامه.

وهنا يقع تعارض بين منطوق معتبرة أبي خديجة ومفهوم مقبولة عمر بن حنظلة، فإمّا أن نقول بالتساقط ونرجع إلى مقتضى قاعدة الاحتياط وهو عدم نفوذ حكم القاضي الانسدادي، أو نقول بأن مفهوم مقبولة عمر بن حنظلة خاص ويشمل القاضي الانفتاحي فقط فحكمه هو مصداق «حكم بحكمنا» وهذا الدليل الخاص مخصص لمعتبرة أبي خديجة. وعندما يأتي المخصص ويقول : إن حكم القاضي الانفتاحي نافذ لأنّ حكمه وقضاوءه هو «حكم بحكمنا» وأمّا قضاء وحكم العالم الانسدادي فليس مصداق «حكم بحكمنا» حينئذٍ لا يمكن الاستدلال بمعتبرة أبي خديجة على نفوذ قضاء المجتهد الانسدادي.

مقتضى الضرورة:

نقول بمقتضى القواعد الأولية والأدلة اللفظية ولا يمكن القول بنفوذ قضاء العالم الانسدادي . نعم، في صورة الضرورة وبمقتضى القواعد الثانوية حيث لا يوجد مجتهد انفتاحي أعلم ولا مجتهد انفتاحي غير أعلم يقضي بالمسألة، ولا يمكن حلّ مسائل الخصومة والنزاع بين الناس بوسيلة الصلح، فعندما تكون جميع طرق فصل الخصومة والنزاعات بين الناس مسدودة فحينئذٍ تقتضي الضرورة اللجوء إلى قضاء المجتهد الانسدادي وبالتالي يكون نافذاً بالبيان المذكور آنفاً، والضرورة تقدر
بقدرها وأنّ مقتضى القاعدة الثانوية من اقتضاء الضرورة حفظ نظام معاش ومعاد المجتمع، ولقوله : «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (32) ، «ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام»، وأنّ العقلاء يرون قبح التكليف بما لا يطاق.

إذن، فالأحكام المترتبة على المجتهد الانسدادي عدّة اُمور :

1 ـ إن فتوى المجتهد الانسدادي على فرض تمامية مقدمات الانسداد على الحكومة أو على الكشف، نافذة في حقّه، لأنّه يعلم بالحجّة على الحكم، وعندما يكون له علم بالحجّة على الحكم ومع تمامية مقدمات الانسداد فإنّ رأيه حجّة لنفسه.

وكذلك تكون فتواه حجّة على مقلديه إذا كان أعلم ولو مع وجود المجتهد الانفتاحي، كما أنّ فتوى المجتهد الانفتاحي الأعلم معلوم الحجيّة، ففي دوران الأمر بين التخيير والتعيين، تكون فتوى الانسدادي الأعلم حجّة ومعلومة الحجيّة بنفس ذلك الدليل.

مضافاً إلى أنّ جواز التقليد للمجتهد الانسدادي في صورة أن يكون أعلم مطلق، سواءً كان هناك مجتهد انفتاحي أو لم يكن.

أمّا في صورة تساوي المجتهد الانسدادي والانفتاحي مع اختلاف الفتوى بينهما، فمقتضى القاعدة التساقط، وإلاّ إذا لم نقل بالتساقط فالترجيح مع المجتهد الانفتاحي لأنّه يحكم بدليل العلم والعلمي، بينما المجتهد الانسدادي لا يحكم بعلم ولا علمي، ولكن إذا قلنا بالتساقط فإنّ مقتضى القاعدة في هذا المورد العمل بالاحتياط.

النتيجة: أنّ فتوى المجتهد الانسدادي حجّة لنفسه لتمامية مقدمات الانسداد على الحكومة أو على الكشف فهو عالم بحجيّة الظنّ المطلق، وعندما يكون عالماً بحجيّة الظنّ فإنّ استنباطه وفتواه تكون حجّة، سواءً على نفسه أو على مقلديه.

وأمّا بالنسبة لقضاء المجتهد الانسدادي فقد تقدّم التفصيل بين الشبهات الموضوعية في مورد الضروريات والاجماعات والمتواترات فقضاوءه فيها نافذ، وبين الشبهات الحكمية فلا يكون قضاوءه نافذاً ولو كان القاضي الانسدادي أعلم، لأنّه في باب القضاء يتعين توفر العلم والمعرفة بالحكم وفصل الخصومة، ويجب أن يكون القاضي عالماً بموازين القضاء والحكم، والانسدادي لا يملك علماً ولا علمياً بالحكم والقضاء، لأنّه يرى أنّ باب العلم والعلمي بالحكم مسدود، ولذلك لا يكون قضاء المجتهد الانسدادي في الشبهات الحكمية نافذا، لأنّه لا يملك علماً ولا علمياً بالحكم الشرعي فكيف يقضي بين الناس ؟ نعم، إذا لم يكن هناك قاضٍ انفتاحي ولم يتيسر فصل الخصومة والنزاع بواسطة الصلح، ففي هذه الصورة فالضرورة تقدّر بقدرها، ومقتضى القاعدة في باب الضرورة ولحفظ نظام المعاش والمعاد للعباد أن تكون قضاوة الانسدادي نافذة بمقدار الضرورة.

الولاية الإلهيّة:

البحث الآخر في مورد المجتهد الانسدادي : نفوذ ولايته أو عدم نفوذها، فإذا قال المجتهد الانسدادي بحجيّة مطلق الظنّ من باب الحكومة، فهل في هذه الصورة تكون له ولاية في مورد الجهاد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حفظ أموال الغائبين والقصّر، والمجانين والايتام، وأخذ الأخماس والزكوات، أم لا ؟

وطبعاً عندما يأتي البحث عن ولاية الفقيه وكذلك البحث عن ولاية غير الفقيه وهي ولاية الأنبياء والأئمّة عليهم‏السلام باعتبار جعل الولاية واعتبار الولاية للنبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله من عند اللّه‏ وللإمام المعصوم عليه‏ السلام ، وأحياناً للفقيه، وإلاّ فالولاية الذاتية ليست لأحد سوى اللّه‏ تعالى. أمّا البحث في الولاية الجعلية والاعتبارية للفقيه وهل أنّها من عند اللّه‏ وهل أنّ ولايته معتبرة بذلك أو غير معتبرة ؟

مقتضى الأصل الأولي، عدم ولاية أحد على أحد كما ذكر في محله وتقدّم آنفاً أنّه لا أحد له الولاية الذاتية سوى اللّه‏ تعالى، وولاية الإنسان على إنسان آخر تكون اعتبارية لا ذاتية، وعندما تكون الولاية اعتبارية وجعلية فتحتاج إلى اعتبار وجعل. إذن فمقتضى القاعدة والأصل، عدم ولاية الفقيه وبشكل عام عدم ولاية أي شخص على آخر اطلاقاً.

ثمّ هل هناك ولاية خارجة عن هذا الأصل والقاعدة وتحتاج إلى دليل واعتبار شرعي، وهل أنّ اللّه‏ تعالى جعل واعتبر الولاية لبعض الأشخاص، أم لا ؟

ومن جملة موارد الخروج عن أصل عدم الولاية، ولاية الأنبياء والأئمّة عليهم‏السلام ، فبلاشك أن الآيات والروايات تدلُّ على ثبوت ولاية الأنبياء وولاية الأئمّة على الناس، منها :

1 ـ «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَـتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ا لْكِتَـبَ وَا لْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» (33)

2 ـ «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَـوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَا كِعُونَ» (34) .

فالآية الشريفة تقرر بشكل حصري وتقول : إنّ الولاية منحصرة باللّه‏ تعالى وبرسوله وبالإمام المعصوم، وقد ورد في الرواية تفسير «والذين آمنوا» بالإمام أميرالموءمنين علي عليه‏السلام ، والفرق بين الولاية الإلهيّة وولاية الآخرين أنّ ولاية اللّه‏ ذاتية وغير قابلة للجعل، بينما ولاية الرسول وولاية الإمام إنّما اعتبرت من عند اللّه‏ لهم، وقد ورد في تفسير «والذين آمنوا» في الروايات أنّهم الأئمّة، فلو أخذنا العبارة بمعنى الجمع فهي تدلُّ على اثبات الولاية لجميع الأئمّة، ولكن إذا قلنا إنّ الجمع من باب التعظيم، فهنا الولاية ثابتة للإمام علي عليه‏ السلام نفسه.

وأمّا القول بأن «والذين آمنوا» تستعمل للتعظيم وقد وردت في موارد كثيرة في القرآن الكريم حيث استخدم الجمع بدل المفرد لهذا الغرض، ومن ذلك الآية الكريمة فيما يرتبط بموسى وأهله حيث كانوا في صحراء سينا وقد خيّم عليهم الليل المظلم فأراد موسى أن يقتبس ناراً فقال لأهله : «امكثوا» فهنا وردت كلمة : امكثوا، للجمع في حين أنّ المقصود بها المفرد وهو زوجة موسى، والغرض من ذلك.

وكذلك في ما نحن فيه فالآيات من قبيل : «والذين آمنوا، الذين يقيمون...» الصلاة، إذا قلنا أنّ المقصود بها خصوص ولاية الإمام علي عليه‏ السلام فكلمة الجمع الواردة في هذه الآية «والذين آمنوا» يقصد بها الفرد واطلاق الجمع للتعظيم.

النفس التنزيلية:

قال تعالى : «فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى ا لْكَـذِبِينَ» (35) .

هذه الآية الشريفة (آية المباهلة) تنزل الإمام علي عليه‏ السلام بمنزلة نفس النبي الأكرم صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله حيث تقول «وأنفسنا» وطبعاً المراد من ذلك النفس التنزيلية لا النفس التكوينية، وإلاّ فمن غير الممكن تكون النفس التكوينية لشخص معين هي بذاتها لشخص آخر، وأمّا كون الإمام علي عليه ‏السلام نفس النبي فالمقصود النفس التنزيلية لرسول اللّه‏ وأنّه بمنزلة شخص رسول اللّه‏، بمعنى أن جميع الخصوصيات التي لرسول اللّه‏ متوفرة أيضاً في نفس الإمام علي، وبالتعبير الاُصولي أنّ المنزل يجب أن يعمل عمل المنزل عليه، أي أنّه يترتب عليه أثر المنزل عليه، وإلاّ إذا كانت آثار وخصوصيات المنزل عليه لا تترتب على المنزل فإنّ التنزيل حينئذٍ سيكون لغواً. وعلى هذا الأساس فآية المباهلة تقرر أنّ الإمام علي عليه‏ السلام بمنزلة شخص النبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله وأن كلّ ما للنبي الأكرم صلى ‏الله‏ عليه ‏و‏آله من آثار وخصوصيات وولاية فإنّها موجودة تنزيلاً للإمام علي عليه‏ السلام أيضاً ومترتبة عليه إلاّ مسألة النبوة.

3 ـ قوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ» (36) فكلّ إنسان حاكم على مصيره ونفسه وله الولاية على نفسه، أي أنّه بإمكانه أن يسلك على مستوى الفعل أو الترك في أعماله وأقواله بإرادته فيفعل أو يترك، وأمّا ولاية النبي الأكرم صلى ‏الله ‏عليه ‏و‏آله على الإنسان وعلى مصيره فإنّها ولاية أقوى وأشد من ولاية الإنسان على نفسه، مثلاً إذا أراد الإنسان أن يسافر إلى طهران وكان راغباً في هذا السفر، ولكن النبي قال له : سافر إلى العراق، فهنا لايحقّ لهذا الإنسان السفر إلى طهران، لأنّ ولاية النبي وسلطته على الإنسان أولى من ولاية الإنسان على نفسه والحاكم عليها. أو إذا أراد شخص عدم طلاق زوجته ولكن رسول اللّه‏ صلى‏ الله ‏عليه‏ و‏آله والإمام المعصوم عليه‏ السلام أمره بطلاق زوجته فهنا يكون تصرف رسول اللّه‏ صلى‏ الله‏ عليه‏ و‏آله والإمام المعصوم عليه ‏السلام أولى من تصرف هذا الإنسان بزوجته ويجب عليه إطاعة أمر رسول اللّه‏ والولي الإلهي : «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآاْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْءَمْرِ مِنكُمْ» (37) .

والمقصود بهذه الآيات والروايات الواردة في هذا المورد جعل الولاية الإلهيّة للأنبياء والأئمّة، وأمّا بالنسبة لولاية الفقيه فقد قام الدليل على ذلك، ومن ذلك الرواية الواردة في توقيع إمام العصر عليه‏ السلام : «وأمّا الحوادث الواقعة فأرجعوا فيها إلى رواة حديثنا» (38) ولكن هذه الرواية مسندة ودلالة مورد للتأمل، فإذا قلنا أن هذه الرواية تدلّ على اثبات ولاية الفقيه فإنّ موضوعها ليس مطلق العالم بالحجّة حتّى نقول أن كلّ عالم وكلّ فقيه عالم بالحجّة ولو عقلاً، له الولاية، فموضوع الرواية ذلك الفقيه العالم بالأحكام والعارف بالحلال والحرام والناظر إلى الحلال والحرام الإلهيين، وعليه فمقتضى أدلة إثبات الولاية للفقيه أنّ موضوعها مقيد بذلك الفقيه العالم بالأحكام والناظر إلى مسائل الحلال والحرام لا مطلق الفقيه سواءً
كان عالماً بالحجّة على الحكم أو عالماً بالأحكام والناظر إلى مسائل الحلال والحرام، لأنّ الرواية ذكرت لزوم الرجوع إلى الشخص الذي يروي حديثنا والعالم بالحلال والحرام لا كلّ شخص ولو كان عالماً بالحجّة من باب حكم العقل ومن باب الظنّ الانسدادي ومن باب القياس والمصالح المرسلة. وفي صورة القول بأنّ المراد منها رواة الحديث من الفقهاء والعلماء فإنّه سيكون لبحث ولاية الفقيه وجه وإلاّ فإذا كان المراد من راوي الحديث ناقل رواية الإمام فلا تصل النوبة للتمسك بهذا الحديث لاثبات ولاية الفقيه سواءً كان مجتهداً انفتاحياً أم انسدادياً.

إذن فمقتضى الأصل الأولي والتوقيع الشريف عدم الولاية للمجتهد الانسدادي، لأنّ موضوع أدلة اثبات ولاية الفقيه مقيدة بأن يكون ذلك الفقيه عالماً بأحكام الحلال والحرام، وأما الفقيه العالم بالحجّة ولا يملك العلم والعلمي بالأحكام فخارج عن مضمون هذه الأدلة.

النتيجة، يجب التحقيق في أدلة ولاية الفقيه وعلى أي أساس تقوم هذه الولاية ؟ هنا يوجد لدينا مدركان لاثبات الولاية للفقيه:

أحدهما: مقتضى الأدلة اللفظية.

والآخر: مقتضى ضرورة اجراء القوانين الإسلامية في المجتمع.

ثمّ إنّ هذه الضرورة تقدر بقدرها لا مطلقاً، فيجب التحقيق في هذا المورد بشكل تفصيلي، ولكن هنا نشير إلى هذا الموضوع اشارة مختصرة.

وإن قلنا: إنّ مستند ولاية الفقيه يقوم على مبنيين:

أحدهما: الأدلة اللفظية والشرعية من قبيل:

1 ـ مقبولة عمر بن حنظلة حيث يقول الإمام فيها : «من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم حاكماً» فلو قلنا أنّ القضاء من شوءون الولاية فبالإمكان الاستدلال بهذه الرواية، وإلاّ فلا تدلُّ على ثبوت الولاية للفقيه بشكل مطلق.

2 ـ ما يستفاد من صحيحة أبي خديجة التي تقول : (من يعلم شيئاً من قضايانا «أو قضانا خ ل» فإني قد جعلته عليكم قاضياً) وهكذا باقي الروايات في هذا الباب، وطبعاً فإنّ غالب روايات الباب مرسلة ومجهولة من حيث السند، ومن حيث الدلالة يمكن المناقشة فيها كما سيأتي لاحقاً إن شاء اللّه‏...

3 ـ المستفاد من توقيع الإمام صاحب الزمان عليه‏ السلام حيث قال : «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» (39) .

المستند الثاني لولاية الفقيه : أنّ ضرورة إجراء القوانين الإسلامية تستوجب القول بولاية الفقيه، ونفوذ ولايته، غاية الأمر أن هذه الضرورة تقدر بقدرها، والمتيقن من ولاية الفقيه هو كفاية اجراء ضروريات الدين لا أكثر.

النتيجة، إذا كان مستند ولاية الفقيه الأدلة اللفظية فإنّ كلّ من يصدق عليه عنوان الفقيه ويكون مصداقاً لقوله: «من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا»، فإنّ ولايته معتبرة بمضمون هذه الروايات، فقد جعلت هذه الروايات الولاية الكلية لجميع الفقهاء الجامعيين للشرائط، ولكن إذا لم يصدق عليه عنوان الفقيه وعنوان من عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا، فإنّ ولايته غير نافذة.

ولاشكّ أنّ الشخص الذي يعرف بعض المسائل الفقهية فإنّه لا يصدق عليه عنوان : عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا، لأنّ هذا العام مخصص بمن عرف أحكامنا، والقدر المتيقن منه هو وصول الإنسان إلى مرتبة فهم ومعرفة الأحكام الشرعية والعلم بها بما يتناسب مع مرتبة علم الإمام حيث ورد في الرواية نسبة معرفة الأحكام إلى الأئمّة «من عرف أحكامنا» إذن لابدّ من توفّر تماثل في الجملة في فهم أحكام الأئمّة حتّى يصدق عليه : «من عرف أحكامنا».

أمّا إذا كان مبنى ولاية الفقيه، اقتضاء الضرورة لاجراء الأحكام الإسلامية كما صرّح بذلك المرحوم الشيخ الأنصاري في المكاسب وآية اللّه‏ الخوئي رحمه ‏الله في التنقيح وشرح العروة حيث لم يقولا بولاية الفقيه سوى في موردين، أحدهما في باب بيان الأحكام، والآخر في باب القضاء، ويرى آية اللّه‏ الخوئي رحمه ‏الله إنّ أدلة إثبات ولاية الفقيه غير تامة سنداً ودلالةً، حيث يقول في بعض عبارات التنقيح :

فذلكة الكلام : إنّ الولاية لم تثبت للفقيه في عصر الغيبة بدليل وإنّما هي مختصة بالنبي والأئمّة عليهم‏السلام بل الثابت حسب ما يستفاد من الروايات أمران : نفوذ قضائه وحجية فتوائه وليس له التصرف في مال القصر أو غيره ممّا هو من شوءون الولاية إلاّ في الأمر الحسبي فإنّ الفقيه له الولاية في ذلك لا بالمعنى المدعى. بل بمعنى نفوذ التصرفات بنفسه أو بوكيله وانعزال وكيله بموته وذلك من باب الأخذ بالقدر المتيقن لعدم جواز التصرف في مال أحد إلاّ بإذنه كما أنّ الأصل عدم نفوذ بيعه لمال القصّر أو الغيّب أو تزويجه في حدّ اأو الصغيرة، إلاّ أنّه لما كان من الاُمور الحسبية ولم يكن بدّ من وقوعها في الخارج كشف ذلك كشفاً قطعياً عن رضا المالك الحقيقي هو اللّه‏ جلّت عظمته وأنّه جعل ذلك التصرف نافذ حقيقةً، والقدر المتيقن ممّن رضي بتصرفاته المالك الحقيقي هو الفقيه الجامع للشرائط فالثابت للفقيه جواز التصرف دون الولاية» (40) .

فالوجه الذي يراه السيّد الخوئي رحمه ‏الله في مشروعية تصرفات الفقيه وولايته يختص بالاُمور الحسبية، من قبيل حفظ أموال القصّر والمجانين والأطفال والايتام، وبلحاض أنّ وقوع هذه الاُمور في الخارج مطلوب للشارع، فلذلك فإنّ الفقيه مجاز بالتصرف في مثل هذه الموارد، لأننا نعلم يقيناً بعدم رضا الشارع بتضييع هذه الاُمور. فإذا لم يرضَ الشارع بتضييع هذه الاُمور فهذا يعني أن حفظها مرضياً للشارع ونكتشف من ذلك أنّ الفقيه يجوز له التصرف في هذه الموارد ولكن لا ولاية له فيها. كما أنّ الأصل عدم نفوذ بيعه، فإذا باع الفقيه مال الغائب أو مال اليتيم أو مال القاصر فإنّ مقتضى القاعدة عدم نفوذ بيع الفقيه، وكذلك الحال في تزويج الصغير والصغيرة، ففي جميع هذه الموارد يكون مقتضى القاعدة عدم نفوذ تصرفات الفقيه إلاّ بالمقدار التي تقتضيه الضرورة في الاُمور الحسبية.

ثمّ يقول: إنّ الوجوهات الشرعية من أموال الإمام عليه‏السلام ، ولا أحد يجوز له التصرف في ملك الغير إلاّ للفقيه بمقدار الضرورة ومقدار ما يكون مورد رضا الشارع، ويقول: إلاّ أنّه لما كان من الاُمور الحسبية، فحفظ أموال القصّر وأخذ الأخماس والزكوات وإدارة الأوقاف لما لم يكن بدّ من وقوعها في الخارج وأن حفظها مرضي للشارع، كشف ذلك كشفاً قطعياً عن رضا المالك الحقيقي، والمالك الحقيقي هو اللّه‏ تعالى ويرضى بحفظ الاُمور الحسبية في الخارج، فالثابت للفقيه جواز التصرف دون الولاية.

إذن يجوز للفقيه التصرف بذلك المقدار الضروري في الاُمور الحسبية من قبل المالك الحقيقي وهو اللّه‏ تعالى وهذا لا يعني الولاية للفقيه في هذه الاُمور.

ثمّ إنّ السيّد الخوئي رحمه‏الله يطرح إشكالاً على من يستدلّ لإثبات ولاية الفقيه بالأدلة اللفظية ويقول : إنّ ما استدل به لإثبات الولاية المطلقة للفقيه في عصر الغيبة غير قابل للاعتماد عليه، ومن هنا فإنّ الأدلة التي يستدل بها لاثبات الولاية للفقيه ضعيفة ولذلك قلنا بعدم ثبوت الولاية له إلاّ في موردين، وهما : الفتوى والقضاء (41) .

النتيجة: أنّ نفوذ القضاء ونفوذ الولاية للمجتهد الانسدادي على الحكومة محل اشكال ويجب فيها القول بالاحتياط والتوقف.

وأمّا فتواه فهل هي نافذة أم لا ؟ سبق أن ذكرنا أنّ المجتهد الانسدادي يعتقد بالحجّة العقلية للحكم الشرعي على الحكومة، ولكن إذا كان المجتهد الانسدادي يقول بالكشف، فحينئذٍ تكون فتواه وقضاوءه نافذان بطريق أولى، لأنّه بناءاً على الكشف فإنّ الفقيه الانسدادي يرى الظنّ حجّة على الحكم الشرعي ويرى الظنّ المطلق حجّة مجعولة من قبل الشارع في ظرف الانسداد ولو لم يدلّ دليل خاصّ على اعتباره، وعندما يكون للفقيه الانسدادي حجّة شرعية ولو كانت هي الظنّ فحينئذٍ تكون فتواه وقضاؤه نافذين.

قال اللّه‏ تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 . المستمسك، ج1، ص 9.
2 . وسائل الشيعة، ج18، ص 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1.
3 . عناية الأصول، ج6، ص 162؛ كفاية الأصول، ج2، ص 463.
4 . سورة المائدة، الآية 50.
5 . سورة المائدة،الآية 67.
6. سورة هود، الآية 113.
7 . سورة الشعراء، الآية 151.
8 . سورة البقرة، الآية 124.
9 . سورة المائدة، الآية 27.
10. سورة البقرة، الآية 127.
11 . سورة الشعراء، الآية 151.
12. سورة هود، الآية 113.
13 . سورة البقرة، الآية 124.
14 . وسائل الشيعة، ج 15، من أبواب مقدماته وشرائطه، ح 5.
15 . مصباح الأصول، ج4، ص 521.
16. كفاية الأصول، ج1، ص 9 طبع مؤسسة آل البيت عليهم‏السلام .
17. سورة المائدة : الآية 55.
18 - سورة الأنبياء، الآية 7.
19. فضائل الخمسة‏من الصحاح الستة، ج2، ص 53 وغيرها من المصادر الروائية الكثير من الخاصة والعامة.
20 . سورة الحج، الآية 78.

21 . تهذيب الأصول، ج3، ص 183 باب الاجتهاد والقليد.
22 . تهذيب الأصول، ج3، ص 183 باب الاجتهاد والقليد.
23. وسائل الشيعة، ج4، الباب 1 من أبواب تكبيرة الاحرام، ح 10.
24 . راجع وسائل الشيعة، ج 5 الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
25 . المصدر السابق.
26 . وسائل الشيعة، ج 18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 1.
27. سورة يونس، الآية 59.
28 . سورة يونس، الآية 36.
29 . كفاية الأصول، ج 2، ص 464.
30 . كفاية الأصول، ج2، ص 464.
31 . نهج البلاغة، الخطبة 1.
32 . الاسفار، ج7.
33 . نهاية الدراية، ج3، ص 192.
34 . سورة بني إسرائيل : الآية 15.
35. وسائل الشيعة : ج 18 باب 11 حديث 1 أبواب صفات القاضي.
36. المصدر السابق، ص 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1.
37. سورة النحل : الآية 43.
38. سورة التوبة : الآية 122.
39 . وسائل الشيعة، ج18، ص 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1.
40. مصباح الاُصول : ج 4، ص 536.
41 . كفاية الأصول، ج2، ص 465.
42 . المصدر السابق.
1. سورة الفرقان : الآية 48.
2. سورة المائدة : الآية 90.
1 . كفاية الأصول، ج2، ص 466.
1. سورة بني إسرائيل : الآية 15.
1 . كفاية الأصول، ج2، ص 466.
1 . وسائل الشيعة، ج1 أبواب صفات القاضي.
1. وسائل الشيعة : ج 18، ص 4 أبواب صفات القاضي باب 1 حديث 5.
1. سورة الحجّ : الآية 78.
1. سورة الحديد : الآية 25.
2. سورة المائدة : الآية 55.
1. سورة آل عمران : الآية 61.
2. سورة الأحزاب : الآية 6.
1. سورة النساء : الآية 59.
2 . وسائل الشيعة، ج18، باب 9 من أبواب صفات القاضي. ح9.
1 . وسائل الشيعة، ج18، باب 9 من أبواب صفات القاضي. ح9.
1. التنقيح : ج 1، ص 424، كتاب الاجتهاد والتقليد.
1 . التنقيح، ج1، ص 419 كتاب الجهاد والتقليد.