الفصل الثالث
عدم جواز الافتاء بغير علم ولا كتاب ولا هدى، وبطلان الاجتهاد في مقابل النصّ
حرمة الافتاء بدون علم:
إنّ مقتضى الروايات الكثيرة والمتواترة النهي عن الفتوى بغير علم، وهذه الروايات تقع في مقابل تلك الروايات التي ورد فيها تأييد الإمام المعصوم للفتوى والاجتهاد، وبالطبع الأخبار الناهية عن الفتوى بغير علم لا تنهى عن الفتوى بشكل مطلق بل تنهى عن الفتوى بغير علم، وهي تدلّ بالمفهوم والدلالة الالتزامية على جواز الافتاء عن علم. عن أبي عبيدة قال: قال أبوجعفر عليه السلام : «من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من اللّه تعالى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه ورز من عمل بفتياه» (1) .
وحاصل هذه الرواية أنّ الإفتاء بغير علم والاجتهاد بدون الاستفادة من علوم أهل البيت عليهم السلام ممنوع ومنهي عنه، وهذا هو عمل المخالفين للأئمّة الذين كانوا يفتون الناس بدون الرجوع إلى الأئمّة ومستندهم في ذلك الرأي والقياس والاستحسانات العقلية الباطلة.
عن حمزة بن حمران قال: سمعت أباعبداللّه عليه السلام يقول: «من استأكل بعلمه أفتقر، قلت: إنّ في شيعتك قوما يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم فلا يعدمون منهم البر والصلة والإكرام. فقال الإمام عليه السلام : ليس أولئك بمستأكلين إنّما ذلك الذي يفتي بغير علم وهدى من اللّه ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا» (2) .
والحطام هو الأجزاء الصغيرة من الخزف المكسور حيث يعبّر عنها بالحطام، ومقصود الإمام أنّ المستأكلين بالعلم هم الذين يفتون الناس على خلاف الحقّ ويخلطون الحقّ مع الباطل طمعاً في حطام الدنيا. إذن فالافتاء وبيان الحكم الشرعي بدون الاستمداد بهداية المهتدين الإلهيين من أرباب الوحي والعصمة يكون مشمولاً للأخبار الناهية عن الفتوى بغير علم، وفي مقابل ذلك إذا كانت الفتوى وبيان الحكم الشرعي هداية من اللّه وبهداية من أرباب الوحي والعصمة فلا يكون مشمولاً للأخبار الناهية عن الفتوى بغير علم بل هي فتوى ناشئة من معين علوم أهل البيت وليس فقط لم يرد النهي عنها بل ورد الأمر بها وأن هذا العمل يقع مورد رضا أهل البيت والإمام المعصوم عليه السلام .
الروايات الناهية عن الافتاء بغير علم:
أمّا الروايات الناهية عن الفتوى بغير علم فهي ناظرة إلى الفتوى التي تنطلق من الرأي والحدس في مقابل العمل بروايات وأحاديث الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، لأنّه لا شك ولا ريب أنّ الاجتهاد في مقابل النصّ باطل عقلاً وشرعاً، وقد تقدّم فيما سبق إثبات بطلان مدرسة القياس التي ترى العمل بالقياس والرأي، وقلنا أنّ العمل بالرأي باطل عقلاً، لأنّ العقل ليس مشرعاً ولا يمكنه بيان حكم اللّه في المسائل الشرعية بشكلب مطلق.
مضافاً إلى أنّ العقل لا يحيط بالواقعيات، وعندما لا يملك إحاطة باُمور الواقع فهو جاهل بالواقع ولا يمكنه أن يبيّن حكم اللّه، فالعقل إنّما يستطيع في بعض الموارد الكشف عن الحكم الإلهي لا تشريع الحكم الإلهي. والعمل بالقياس باطل شرعاً أيضاً لأنّ : «السنّة إذا قيست محق الدين» (3) و«إن دين اللّه لا يصاب بالعقول» (4) .
وللأسف نرى بعض المخالفين حتّى في عصر حضور المعصوم كانوا يجتهدون برأيهم ويفتون الناس في مقابل رأي المعصوم ويرفعون راية المخالفة للمعصومين ليوصدوا الطريق أمام الناس للاستفادة من علوم أهل البيت عليهم السلام ، وكان الخلفاء والحكّام في ذلك الوقت يدعمون هذا الاتجاه وكان الطواغيت أمثال معاوية ويزيد والحجاج وجميع سلسلة الظالمين في كلّ زمان يتحركون على مستوى منع الناس من الرجوع إلى أهل البيت والإمام المعصوم عليه السلام .
فعن تفسير العيّاشي عن اسحاق بن عمّار، عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث قال: «يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء علماء، أن قد أثبت جميع الفقه والدين ممّا يحتاج إلى الاُمّة، وليس كل علم رسول اللّه صلى الله عليه وآله علموه، ولا صار إليهم من رسول اللّه صلى الله عليه وآله ولا عرفوه وذلك أنّ الشيء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل ويكرهون أن يسألوا فلا يجيبون، فيطلب الناس العلم من معدنه فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللّه وتركوا الآثار ودانوا بالبدع وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله كل بدعته ضلالة فلو أنّهم إذا سئلوا من دين اللّه فلم يكن عندهم فيه أثر عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله ردوه إلى اللّه ورسوله وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منه من آل محمّد صلى الله عليه وآله » (5) .
وهم يعملون بالرأي والقياس في مقابل النص والأحاديث النبوية.
فعن سماعة عن أبي الحسن موسى عليه السلام في حديث قال: «ما لكم وللقياس، إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس، ثم قال الإمام عليه السلام : إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا وإذا جاءكم ما لا تعلمون منها وأومى بيده إلى فيه، ثم قال: لعن اللّه أبا حنيفة كان يقول قال علي وقلت أنا... و قال الصحابة وقلت أنا قال: أكنت تجلس إليه؟ قلت: لا ولكن هذا كلامه.
فقلت: أصلحك اللّه، أتى رسول اللّه الناس بما يكتفون به في عهده؟ قال: نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة، فقلت: أضاع من ذلك شيء؟ فقال الإمام: لا هو عند أهله محفوظ» (6) .
وقد كان لأبي عبداللّه عليه السلام مناظرات واحتجاجات مع أبي حنيفة في نهيه عليه السلام إيّاه عن القياس ولكنّه لم يجعل اللّه له نورا فما له نور وقد قال الإمام عليه السلام لأبي حنيفة: أنت فقيه أهل العراق؟ قال نعم.
قال الإمام عليه السلام : فبم تفتيهم؟ قال أبوحنيفة: بكتاب اللّه وسنّة نبيّه، قال الإمام عليه السلام : يا أبا حنيفة تعرف كتاب اللّه حق معرفته وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال أبوحنيفة: نعم.
قال الإمام عليه السلام : يا أباحنيفة لقد ادعيت علما ويلك ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو إلاّ عند الخاص من ذريّه نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وما ورّثك اللّه من كتابه حرفا... إلى أن قال: يا أبا حنيفة إذا ورد عليك شيء ليس في كتاب اللّه ولم تأت به الآثار و السنّة كيف تصنع؟ فقال: أصلحك اللّه أقيس واعمل فيه برأيي.
فقال الإمام عليه السلام : يا أباحنيفة إنّ أول مَن قاس ابليس الملعون، قاس علىربّنا تبارك وتعالى فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، قال فسكت أبوحنيفة.
فقال الإمام عليه السلام : يا أبا حنيفة أيّهما أرجس البول أو الجنابة؟ فقال أبوحنيفة: البول، فقال الإمام عليهالسلام : ما بال الناس يغتسلون في الجنابة ولا يغتسلون من البول، فسكت أبو حنيفة.
فقال الإمام عليه السلام : يا أبا حنيفة أيّهما أفضل الصلاة أو الصوم؟ قال أبوحنيفة: الصلاة، فقال الإمام عليهالسلام : فما بال الحائض تقضي صومه ولا تقضي صلاتها (لأنّه على القياس يكون الأمر خلاف ذلك حيث تقضي صلاتها دون صومها لأهميّة الصلاة)، فسكت أبوحنيفة (7) .
على القياس لابدّ أن يكون عكس
الروايات الناهية:
وحاصل الروايات الناهية الكشف عن حرمة الفتوى بدون الرجوع لعلوم أهل البيت، بل إنّ بعض أئمّة مذاهب العامة كانوا يرجعون في المسائل المشكلة إلى أهل البيت ويحصلون على الحكم الشرعي لهذه المسائل.
«أوصى رجل لآخر من أهل خراسان بمائة ألف درهم، وأمر أن يعطي أبوحنيفة جزءا منه، فسئل أبوحنيفة وغيره عن مقدار الجزء في هذه الوصيّة، فقالوا: هو الربع، ثم إنّ أباحنيفة أمر الرجل بسؤال جعفر الصادق عليه السلام عنه، فجاء الرجل إلى الإمام الصادق عليه السلام فقال: إنّ أباحنيفة يقول بأنّ معنى الجزء ربع المال، فقال الإمام: كيف يكون معناه الربع؟ قالوا: لقوله اللّه تعالى: «فخذ أربعة من الطير» قال الإمام الصادق عليه السلام : «وقد علمت الطيور أربعة، فكم كانت الجبال إنّما الأجزاء للجبال، ليس لطير، فقالوا: ظننا أنّها أربعة، فقال الإمام عليهالسلام : ولكن الجبال عشرة» (8) .
المهم أنّ الرجل عندما رجع إلى الإمام عرف معنى الجزء أنّه العشر لا الربع كما توهمّ أبوحنيفة.
محمّد ابن يعقوب عن الحسين بن محمّد، عن السياري قال: روي عن ابن أبي ليلى أنّه قدم عليه رجل يعني (جارية)، فقال: له إنّ هذا باعني هذه الجارية، فلم أجد على ركبها حين كشفتها شعرا وزعمت أنّه لم يكن لها قط، فقال له ابن أبي ليلى: إنّ الناس يحتالون لهذا بالحيل حتى يذهبوا به، فما الذي كرهت.
قال: أيّها القاضي إن كان عيبا فاقض لي به، قال: اصبر حتى أخرج إليك، فإنّي أجد أذى في بطني، ثم دخل وخرج من باب آخر، فأتى محمّد بن مسلم الثقفي فقال له: أي شيء تروون عن أبي جعفر عليه السلام في المرأة لا يكون على ركبها شعرا يكون ذلك عيبا؟ فقال محمّد بن مسلم: أمّا هذا نصّا فلا أعرفه، ولكن حدثني أبو جعفر عليه السلام عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله أنّه قال: «كل ما كان في أصل خلقت فزاد أو نقص فهو عيب» فقال له: ابن أبي ليلى حسبك، ثم رجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب (9) .
عن محمّد بن مسلم قال: إنّي لنائم ذات ليلة على السطح إذا طرق طارق، فقلت من هذا فقال: شريك رحمك اللّه، فأشرفت، فإذا هي امرأة فقالت: لي بنت عروس ضربها الطلق فما زالت تطلق حتى ماتت، والولد يتحرك في بطنها و يذهب ويجييء فما أصنع؟
فقلت: يا أمت اللّه سئل محمّد بن علي بن الحسين الباقر عليهالسلام عن مثل ذلك، فقال يشقّ بطن الميت ويستخرج الولد يا أمت اللّه افعلي مثل ذلك ان يا أمت اللّه.
الأهم والمهم:
وهذه الرواية تقرر قانوناً كلياً في مسألة دوران الأمر بين الأهم والمهم، فالمرأة قد ماتت ولكن الطفل في بطنها حيّ، ومن الواضح أن نجاة الطفل الحي أهم من إحترام بدن الميت فلذلك يجب شق بطنها واخراج الطفل منه، وذلك على أساس تقديم الأهم على المهم، ومن هنا قال الإمام : «يا أمّة اللّه افعلي مثل ذلك»، يعني أن كلّ مورد مثل هذا المورد إذا كان الفعل الأهم وهو النجاة منوطاً باتلاف المهم، فيجب ترجيح الأهم على المهم. ولعلّه يمكن القول من خلال مضمون هذه الرواية جواز مسألة تشريح أعضاء بدن الميّت في موارد يتوقف عليها نجاة الإنسان الحي بواسطة ربط أعضاء بدن الميّت إلى بدن الحي وإن كان التشريح بحدّ ذاته يعتبر إهانة لبدن الميّت ولكن هنا يدور الأمر بين الأهم والمهم ومعلوم أن نجاة الإنسان الحي أهم من تشريح أعضاء بدن الميّت.
يقول محمّد بن مسلم في هذه الرواية: يا أمّة اللّه، لا يمكنني عمل مثل ذلك فيما يتعلق بالنساء، قالت لي : رحمك اللّه جئت إلى أبي حنيفة صاحب الرأي فقال لي : ما عندي فيهذا شيء ولكن عليك بمحمّد بن مسلم الثفقفي فإنّه يخبرك، فما أفتاك به من شيء فعودي إليّ فاعلمنيه.
فقلت: لها امض بسلام، فلما كان الغد خرجت إلى المسجد وأبوحنيفة يسأل عن أصحابه فتنحنحت فقال: اللّهم غفرا دعنا نعيش (10) .
النتيجة: ويستفاد ممّا تقدّم أنّ بيان الأحكام الإلهيّة مختصُّ بأهل البيت عليهمالسلام ، والأشخاص الذين يفتون الناس بدون الرجوع إلى أهل البيت فمثل هذه الفتوى وقعت منهياً عنها وغير مشروعة، وحاصل الروايات الناهية عن الفتوى بدون علم ثلاثة اُمور :
1 : يجب الرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام لتعلم الأحكام الإلهيّة والنظر في ما ورد من أحاديثهم ورواياتهم، لأنّ الأئمّة معصومون عليهم السلام ولهم علم واقعي بالأحكام الإلهيّة وأّن كلّ ما يقولونه هو عين الواقع.
2 : إنّ الروايات الناهية لا تنهى عن الإفتاء بشكل مطلق بمعنى حرمة الفتوى مطلقاً بغير روايات المعصوم، فمثل هذا النهي لا يستفاد من الروايات الناهية على سبيل الاطلاق، بل إنّها تنهى عن الفتوى بدون علم وبدون مستند شرعي معتبر.
3 : إنّ الروايات الناهية تنهى عن الفتوى وفقاً للرأي والقياس في مقابل بيان الأئمّة والنصوص الصادرة عن الإمام المعصوم عليه السلام وأن يفتي الشخص طبقاً لرأيه الخاص بدون الرجوع إلى روايات المعصومين، فمثل هذه الفتوى هي ما ورد النهي عنها وبالتالي تقع باطلة وحرام عقلاً وشرعاً.
إنّ الروايات الناهية لا تنهى عن الفتوى المستندة إلى الأدلة الشرعية المعتبرة، والمراد من مشروعية الاجتهاد وفتوى المجتهد في الأحكام الشرعية هو هذا المعنى، وهو أن تكون الفتوى والاجتهاد متطابقة مع الأدلة المعتبرة الشرعية وبذلك يكون الاجتهاد مشروعاً، واللّه العالم.
قال اللّه تعالى: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»
قال الإمام الصادق عليه السلام : «الذكر محمّد ونحن أهله المسؤولون» (11) .
وقال الإمام الصادق عليه السلام: «من تعلّم للّه وعمل للّه وعلَّم للّه دُعي في ملكوت السموات عظيما» (12)
إلى هنا تم بحث المدخل والمقدمة، ونشرع بعد ذلك في أصل البحث في الاجتهاد والتقليد وبيان أدلته ومشروعيته وشروطه وانقسام المكلّفين إلى : مجتهد ومقلد ومحتاط، بعون اللّه تبارك وتعالى هو نعم المولى ونعم النصير.
محمد باقر الموحدي النجفي بن المرحوم حسين علي (رضوان اللّه تعالى عليه) المتوفي 1390 هـ ق في النجف الأشرف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 . وسائل الشيعة، ج18، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، ح 1، وقريب من هذا المضمون ح، 1، 2، 29، 31، 32، 33، الباب 4 من أبواب صفات القاضي أيضا.
2 . وسائل الشيعة، ج18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح12.
3 . بحار الأنوار، ج2، ص 315، ح81.
4 . المصدر السابق.
5 . وسائل الشيعة، ج18، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 49.
6 . المصدر السابق، ح3.
7 . وسائل الشيعة، ج18، الباب 16 من أبواب صفات القاضي، ح 37.
8 . سفينة البحار، ج1، ص248.
9 . وسائل الشيعة، ج12، ص 410، الباب 1 أبواب أحكام العيوب، ح 1.
10. معجم الرجال، ج17، ص 249.
11 - سورة الأنبياء، الآية 7.
12. أصول الكافي، ج1، ص 210، باب أهل الذكر، ح 2.
13 . المصدر السابق، ص 35.